وأنصف من خاصمك
إنّ الاعتراف بالحقّ وإعلانه أيضاً لا يُنقص من قيمة الإنسان، فكونك تقول ولو في مناظرة، أو محاورة، أو محاضرة: أنا أخطأتُ في كذا، هذا لا يُعيبك، بل بالعكس هذا يرفع منزلتك عند الناس، ويدلّ على شجاعتك وقوّتك، وثقتك بنفسك، والله تعالى يقول: ﴿ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[1]. فما أروع أن يكون الإنسان منصفًا لخصمه، فإذا وقع هو في خطأ سهل عليه الاعتراف به، وإذا كان دليله ضعيفًا اعترف بذلك، والرجوع إلى الحقّ خير من التمادي في الباطل، والإنصاف أمر عظيم يطلبه الشرع ويحثّ عليه، والإمام الصادق عليه السلام عندما وَجَّهَنا بقوله: "وأنصف من خاصمك" كان يعلم أنّ إنصاف الخصم شيء عزيز بين الناس، فلا يتحلّى به منهم إلا القليل، ولكنّه عليه السلام يريد من كلّ مسلم أن يُجاهد نفسه ليكون المستفيد الأكبر من ذلك، فيستفيد الإنسان المنصف البراءة أمام الله، وكذلك يستفيد من حالة شعوره بأنّه قد أدّى ما عليه، ويستفيد أيضاً فراراً محموداً، وهو الفرار من الظلم والإجحاف بالغير، هذه كلّها مكاسب لا تُقدّر بثمن عند المؤمنين الشرفاء من أبناء الأمة الإسلامية.
ومن الجدير ذكره أنّ للانصاف والايثار دوراً كبيراً في خلق الأجواء الروحية والنفسية لنموّ حركة التربية، حيث يرتبط الناس روحياً وعاطفياً بمن يتّصف بهاتين الصفتين، ويشعرون بأنّ المربّي أو المصلح غاية في الكمال والتسامي، وأنّه عادل في تعامله مع الآخرين وفي تقييمهم، وبهذا الشعور وبهذا الانشداد يجد المربّي لرأيه ولإرشاده قبولاً، وهو مقدّمة أساسية للتربية والإصلاح.
واعف عمّن ظلمك
لا شكّ ولا ريب أنّ من صبر على الأذى وعفى عمّن ظلمه يكون قد فعل أمراً مشكوراً، وفعلاً حميداً، له عليه ثوابٌ جزيل، وثناءٌ جميل، والله تعالى يقول: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[2] أليس لك في هذا عوض؟ فانظر في كتاب الله تعالى وتأمّل الأجر الذي أعدّه الله للمتّقين، فضلاً عن أنّ عفو المظلوم مريحٌ لقلبه في هذه الحياة الدنيا، والله تعالى يقول: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾[3]، وقد عبّر مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام عن العفو بتعبيرٍ يُبيّن فيه أنّ العفو والصفح له المقام الأسنى بين الفضائل الأخلاقية، فقال عليه السلام: "العفو تاج المكارم"[4]، والتاج كما هو معلوم علامة العظمة والعزّة، وهو زينة الملوك حيث يوضع على أشرف موضع من بدن الإنسان وهو الرأس.
قال الإمام الصادق عليه السلام: "العفو عند القدرة من سنن المرسلين والمتّقين، وتفسير العفو أن لا تلزم صاحبك فيما أجرم ظاهراً، وتنسى من الأصل ما أصبت منه باطناً، وتزيد على الاختيارات إحساناً، ولن يجد إلى ذلك سبيلاً إلاّ من قد عفى الله عنه، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وزيّنه بكرامته وألبسه من نور بهائه، لأنّ العفو والغفران صفتان من صفات الله عزّ وجلّ أودعهما في أسرار أصفيائه ليتخلقّوا مع الخلق بأخلاق خالقهم وجعلهم كذلك. قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[5]، ومن لا يعفو عن بشر مثله، كيف يرجو عفو ملك جبّار"[6].
كلّ مؤمن يعلم أنّ الدنيا هيّنة على الله، ومن هوانه عليه جلّ شأنه أنّها لو كانت تساوي عنده جناح بعوضة لما سقى الكافر شربة ماء، ولكن ألا ترى أنّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأنّ قطره ينزل على الصالحين والخاطئين، فما الفائدة في أن نجعل هذا القلب الصغير يحمل كلّ ألوان البغضاء والعداوات، ونحن نملك أن نملأه بالذكر والمحبّة والوفاء، وسلامة القلب، وطيب الأنفس، فاعفوا أيّه المؤمن واعتبر بعفو الله عنك.
[1] سورة المائدة، الآية 8.
[2] سورة البقرة، الآية 237.
[3] سورة الشورى، الآية 43.
[4] التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص36، وعلي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص19، طبعة:1، دار الحديث، قم.
[5] سورة النور، الآية 22.
[6] مصباح الشريعة، منسوب للإمام الصادق عليه السلام ص158-159، طبعة:1، مؤسسة الأعلمي، بيروت.