التدبير، هو: التفكير بعاقبة الأمور، وإمعان النظر، والتحسّب لما سيكون. وأن يُدبِّر الإنسان أمره، هو: أن ينظر إلى ما تَؤول إليه عاقبته وآخرته. والتَّدَبُّر: التفكّر في الأمر[1].
فالتدبير هو الإتيان بالشيء عقيب الشيء، ويُراد به: ترتيب الأشياء المتعدّدة المختلفة، ونظمها، بوضع كلّ شيءٍ في موضعه الخاصّ به، بحيث يلحق بكلٍّ منها ما يُقصَد به من الغرض والفائدة[2].
و(معايش) جمع (معيشة)، وهي: عبارة عن الوسائل والمستلزمات التي تتطلّبها حياة الإنسان، بحيث يحصل عليها بالسعي تارةً، أو تأتيه بنفسها من دون سعي تارةً أُخرى. ومع أنّ بعض المفسّرين حصر كلمة (معايش) بالزراعة والنبات، أو الأكل والشرب فقط، ولكنّ مفهومها اللغويّ أوسع من أن يُخصّص، ويُطلق ليشمل كلّ ما يرتبط بالحياة من وسائل العيش[3].
وباتضاح معنى التدبير ومعنى المعيشة يصبح معنى التدبير في المعيشة هو: ترتيب وتنظيم الحياة على مختلف الأصعدة، وفنّ التدبير في المعيشة، هو: مجموع الطرق التقنيّة الحديثة، لتسهيل مهمّة الإنسان في ترتيب أموره المعيشية وتنظيمها، ومساعدته في توفير أسباب الراحة والصلاح.
التدبير في القرآن والسنّة
أشار القرآن الكريم إلى أنّ التدبير صفةٌ من صفات الله تعالى[4] وملائكته[5]. والتدبير الإلهيّ للعالم، هو: نظم أجزائه نظماً جيّداً مُتقناً، بحيث يتوجّه فيه كلّ شيءٍ إلى غايته المقصودة منه، وهي آخر ما يمكن أن يحصل له من الكمال الخاصّ به، ومنتهى ما ينساق إليه من الأجل المسمّى. وتدبير الكلّ يعني إجراء النظام العامّ العالميّ، بحيث يتوجّه إلى غايته الكلّيّة، وهي: الرجوع إلى الله والقرب منه.
لذلك، فإنّ الله يُدبّر الأمرَ، أي يُقدّر، "ويُنْفِذُه على وجهه، ويُرتّبه على مراتبه على أحكام عواقبه"[6]، وهذا التدبير يشمل الهداية التكوينيّة والتشريعيّة للمخلوقات اللتين تتحقّقان عبر بعثة الأنبياء عليهم السلام والرسل عليهم السلام.
أمّا تدبير الملائكة، في قوله تعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾[7]، ففيها أقوالٌ - أيضاً، أحدها: أنّ الملائكة تُدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة، كما روي عن الإمام عليّ عليه السلام[8].
إذن، يمكن القول: إنّ التدبير والتحسّب لعواقب الأمور، والتخطيط الصحيح، ونظم شؤون الحياة، تعدُّ الأركان الأساسيّة للرقيّ، وبلوغ الكمال المنشود. عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "الكَمالُ كُلُّ الكَمالِ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبرُ عَلَى النّائبَةِ، وَتَقديرُ المعيشةِ"[9]. فمن خلال التدبير واتّباع النهج الصحيح في الأمور الاقتصاديّة، يمكن الوصول إلى الكمال.
ولا ريب في أنّ تدبير الإنسان، في استثمار ما لديه من إمكانيّاتٍ اقتصاديّةٍ محدودةٍ، واجتناب الإسراف في تسخيرها، يُعدّ أفضل من حيازته إمكانيّاتٍ اقتصاديّةً كبيرةً يُسرف في استثمارها، فينبغي للعبد أن يكون على صوابٍ من التقدير، وحكمةٍ من التدبير[10]. فالتدبير سببٌ في قوّة اقتصاد الحياة ورقيّه. وعن أيّوب بن الحرّ: سمعتُ رجلاً يقولُ لأبي عبد الله عليه السلام: بلغني أنّ الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "لا، بَلْ هُو الكَسْبُ كُلُّهُ"[11].
وقد أكّد الإمام عليّ عليه السلام على أنّ التدبير سبيلٌ للرقيّ الاقتصاديّ، حين قال: "حُسنُ التَّدبيرِ يُنمِي قليلَ المالِ"[12].
ومن هنا، كان المسؤول اللائق بإدارة شؤون العائلة أو شؤون فئةٍ اجتماعيّةٍ ما، هو الذي يتمكّن من تمهيد الأرضيّة اللازمة، لاستثمار القابليّات والإمكانيّات أفضل استثمارٍ، وذلك عبر تخطيطٍ صحيحٍ، ومنهجيّةٍ مثاليّةٍ، وتنسيقٍ بين كافّة الأعضاء، على مختلف مستوياتهم ومسؤوليّاتهم. كما لا بدّ له من نظم نشاطاته وفعّاليّاته، ووضع كلّ شيءٍ في موضعه، وتأدية ما عليه من تكاليف في وقتها المناسب، حتى يستحقّ بذلك صفة المدبِّر.
ويُعدّ تدبير شؤون الحياة بطبيعته جزءاً من الدين[13]، لذا، فإنّ حسن التدبير كان صفة لازمة للمؤمنين بحيث يمتازون بها عن غيرهم، لأنّهم لا يستهلكون أموالهم عبثاً، ولا يُبذّرونها، بل يراعون الاعتدال في إنفاقها، ويخشون فيها غضب الله تعالى، في ما لو أفرطوا أو فرّطوا في إنفاقها، بخروجهم عن الحدود التي أجازها الله تعالى لهم في الإنفاق[14].
[1] ابن منظور: لسان العرب، ج4، ص273، لاط، بيروت، لان، لات.
[2] الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، لاط، قم المقدّسة، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة، ج11، ص289-290.
[3] الشيرازي، ناصر مكارم: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ط1، قم المقدّسة، منشورات مدرسة الإمام عليّ عليه السلام، 1421هـ.ق، ج8، ص51, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج18، ص99.
[4] سورة السجدة، الآية 5, سورة يونس، الآية 31, سورة الرعد، الآية 2.
[5] سورة النازعات، الآية 5.
[6] الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، ج5، ص136.
[7] سورة النازعات، الآية 5.
[8] الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، ج10، ص652.
[9] الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص32.
[10] انظر: الجعفي، المفضل بن عمر: التوحيد، تعليق كاظم المظفر، ط2، بيروت، مؤسّسة الوفاء، 1404هـ.ق/ 1984م، المجلس الأوّل، ص 10.
[11] الشيخ الطوسي، الأمالي، ج2، ص 458.
[12] الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 227.
[13] عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "مِن الدِّينِ التَّدبيرُ في المعِيشَةِ": الطوسي، الأمالي، م.س، مجلس يوم الجمعة، ح17، ص670.
[14] تتّضح نتائج حسن التدبير وعواقب سوء التدبير في خاتمة الكتاب.