لا شكّ أنّ للعبّاد درجات، كما أنّ للجنّة درجات، يقول تعالى ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأوْفَى﴾([1]). فلكلّ إنسان سعيه في الدنيا، وبمقدار هذا السعي يكون الجزاء والعطاء الإلهيّ. على أنّ هناك من العبَاد من يرغب في ثواب الله وجنّته، ومنهم من يخاف ناره وعذابه، ومنهم من يعبده حبّاً وشكراً له سبحانه على نعمه وإفضاله. ولا شكّ أنّ مثل هذه العبادة هي أعظم عبادة.
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بكى شعيب عليه السلام من حبّ الله عزّ وجلّ حتّى عمي، فردّ الله عزّ وجلّ عليه بصره، ثمّ بكى حتّى عمي فردّ الله عليه بصره، ثمّ بكى حتّى عمي فردّ الله عليه بصره، فلمّا كانت الرابعة أوحى الله إليه: يا شعيب إلى متى يكون هذا أبداً منك؟ إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أُجِرت، وإن يكن شوقاً إلى الجنّة فقد أبحتك; فقال: إلهي وسيّدي أنت تعلم أنّي ما بكيت خوفاً من نارك، ولا شوقاً إلى جنّتك، ولكن عقد حبّك على قلبي فلست أصبر أو أراك([2])، فأوحى الله جلّ جلاله إليه: أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأُخدمك كليمي موسى بن عمران"([3]).
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار"([4]).
وقد ورد عنه عليه السلام أيضاً: "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك"([5]).
فإذا أردنا أن نعبد الله فلتكن عبادتنا عبادة حبّ وشكر لا عبادة رغبة وخوف، عبادة تعلّق وهيام وعشق ننسى فيها أيّ عشق آخر، بل لا مكان في قلوبنا حقيقةً لغير الله تعالى، فإذا أحببنا أمراً أو شيئاً معيّناً أو أحداً ما، كان ذلك عبر حبّ الله ورضا الله وفي حبّ الله ورضاه.
وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً وقد أنهك نفسه بالعبادة: أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أفلا أكون عبداً شكورا"([6]).
وفي الختام
فيا من يريد إصلاح نفسه والفوز برضا وحبّ ربّه هلّا أقبلت على نفسك قليلاً وعاتبتها، ثمّ بعد ذلك روّضتها، حتّى تنهج منهج الصلحاء وتسلك سبيل الأنبياء والأوصياء، وتتأسّى بسيّد البلغاء العابد الزاهد الذي أخذ يُعاتب نفسه فيقول كما ورد عن مولانا العسكريّ، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام، وذكر مناجاةً طويلة عنه عليه السلام، قال: "ثمّ أقبل أمير المؤمنين عليه السلام على نفسه يُعاتبها ويقول: أيّها المناجي ربّه بأنواع الكلام، والطالب منه مسكناً في دار السلام، والمسوّف بالتوبة عاماً بعد عام، ما أراك منصفاً لنفسك من بين الأنام، فلو دافعت نومك يا غافلاً بالقيام، وقطعت يومك بالصيام، واقتصرت على القليل من لعق الطعام، وأحييت ليلك مجتهداً بالقيام، كنت أحرى أن تنال أشرف المقام.
أيّتها النفس اخلطي ليلك ونهارك بالذاكرين، لعلّك أن تسكني رياض الخلد مع المتّقين، وتشبّهي بنفوس قد أقرح السهر رقّة جفونها، ودامت في الخلوات شدّة حنينها، وأبكى المستمعين عولة أنينها، وألان قسوة الضمائر ضجّة رنينها، فإنّها نفوسٌ قد باعت زينة الدنيا، وآثرت الآخرة على الأولى، أولئك وفدُ الكرامة يوم يخسر فيه المبطلون، ويُحشر إلى ربّهم بالحسنى والسرور المتّقون"([7]).
([1]) سورة النجم، الآيات:39-41.
([2]) قال الصدوق (رض): يعني بذلك عليه السلام: لا أزال أبكي أو أراك قد قبلتني حبيباً.
([3]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج12، ص380.
([4]) نهج البلاغة، ج4، ص53.
([5]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج67، ص186.
([6]) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص247.
([7]) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج11، ص253.