القت المبادرة الروسية بشأن السلاح الكيمياوي السوري ، بصيصا من الضوء على بعض الجوانب المعتمة من الحرب الدائرة على سوريا وخلف كواليسها ، فاذا بخطوط هذه الحرب اكثر تشابكا وتداخلا مما كانت تبدو عليه حتي الان.
فلم يمر وقت طويل علي اعلان موسكو عن مبادرتها بشأن وضع السلاح الكيمياوي السوري تحت مراقبة اممية، حتي بانت بعض جوانب هذه الحرب وما وراء كواليسها بشكل اكثر وضوحا مما كانت عليه من قبل.
الامر الذي ساهم في وضع النقاط علي بعض حروف قصة الحرب علي سوريا ، هو ردود الافعال التي اثارتها المبادرة الروسية ، لدي الاطراف المعنية بالازمة السورية ، والتي كشفت عن التناقضات الكبيرة بين مواقف اعضاء النادي المتمسك بالحل العسكري ، كما كشفت عن الاحجام الحقيقية لهؤلاء الاعضاء ودورهم في هذه الحرب.
**بعض افرازات المبادرة الروسية
1-بدا واضحا مدي الاستخفاف الامريكي ببعض الحكومات العربية ، التي تدعي انها حليفة للولايات المتحدة ، بعد ان ضربت واشنطن ، عبر قبولها بالمبادرة الروسية ، بعرض الحائط بكل هذه الحكومات رغم ما بذلته من جهود ضخمة لتسهيل العدوان الامريكي ضد سوريا ، الي حد الاعلان عن تقبلها كافة تكاليف هذه الحرب.
2-انكشف مدي الاستغلال البشع لامريكا للمجموعات المسلحة بشقيها المتطرف والذي يدعي الاعتدال ، فهي بعد ان شجعت هذه المجموعات بالدخول الي سوريا ودعمتهم بالمال والسلاح علي امل ان تساعدهم في النهاية علي دخول دمشق عبر تدخلها العسكري المباشر لترجيح كفتهم في القتال ، نراها تتركهم تحت رحمة الجيش السوري ، في اول اشارة روسية.
3-التباكي والصراخ الطفولي للمجموعات المسلحة والرجعية العربية ، عند ابواب البيت الابيض ، الذي مازال سيده يرفض الحاحهم بتوجيه ضربة الي سوريا ، كشف عن مدي ضعف هذه المجموعات المسلحة التي كانت تدعي حتي الامس القريب ان الشعب السوري معها وانها تسيطر علي ارض واسعة من سوريا وان الحكومة السورية معزولة عن الشعب ولاتمثل الا نفسها.
4-اتضح ان موقف البيت الابيض من الازمة السورية ، كان هدفه الابرز هو اخراج سوريا من محور المقاومة او علي الاقل اضعافها كي لاتشكل خطرا علي اسرائيل ، اما استبدال النظام في سوريا بنظام ديمقراطي شبيه بالانظمة العربية في الخليج الفارسي !! فلم يكن من اولويات البيت الابيض .
5-ان القبول الامريكي بالمبادرة الروسية اثبت ان لا مصلحة لامريكا في المنطقة تعلو فوق مصلحة اسرائيل ، وان علي من يدعي انه حليف لواشنطن من الحكومات العربية ، عليه ان يخدم هذا الهدف شاء ذلك ام ابي.
6-اظهرت مواقف المسؤولين الامريكيين من المبادرة الروسية ، ارباكا وتخبطا وترددا امريكيا ملفتا وغير مسبوق ، ففي باديء الامر اظهر هؤلاء المسؤولون انفسهم وكأنهم تفاجأوا بالمبادرة كما اعلن عن ذلك المتحدث باسم الخارجية الامريكية ، الا انه تبين فيما بعد ان الامريكيين كانوا شركاء في صياغتها ، فقد ذكر مسؤولون امريكيون ان فكرة هذه المبادرة طرحت اول مرة في اجتماع عقد بين اوباما وبوتين قبل عام خلال قمة لوس كابوس في المكسيك ، وسعي جون كري لبلورتها خلال زيارته لموسكو في ايار مايو الماضي ، ويبدو ان اللمسات الاخيرة وضعت عليها خلال اللقاء الذي دام نصف ساعة بين اوباما وبوتين علي هامش قمة بطرسبورغ في روسيا.
7-كشفت المبادرة مدي التقارب الملفت بين الرجعية العربية وبين اسرائيل ازاء مختلف قضايا المنطقة ولاسيما من سوريا والمقاومة ، حيث لم تُرفض المبادرة الروسية بشكل مطلق في العالم اجمع الا من جانبين فقط هما الرجعية العربية واسرائيل.
8-القبول بالمبادرة الروسية من قبل امريكا كان اعترافا ضمنيا أن النظام السوري هو اقوي بكثير مما كانت تتصور او يُصور لها ، لذلك اكتفت بتحييد سلاحه الكيمياوي ، علي امل ابعاد شبحه عن اسرائيل ، بعد ان عجزت عن اسقاط النظام.
**سوريا ما بعد المبادرة الروسية
صحيح ان القيادة السورية خسرت سلاحا كان يمثل قوة ردع امام الاطماع الاسرائيلية في سوريا ، الا انها نجحت في المقابل في ابعاد شبح الحرب الامريكية التي كان سيذهب ضحيتها الالاف من الابرياء وقد تُدخل المنطقة ، في حال حصولها ، في نفق لايمكن ان تخرج منه بسهولة.
ان دمشق بقبولها بالمبادرة الروسية ، عززت محور المقاومة عبر اسناده بالتأييد الدولي ، لاسيما الروسي ، الذي يفرض نفسه اليوم علي المعادلة الدولية ، كقطب عالمي قام علي انقاض الاتحاد السوفيتي السابق ، الي جانب الصين ومجموعة البريكس ، ولم تعد امريكا بعد اليوم اللاعب الاوحد في العالم ، كما ظهر ذلك جليا في قمة العشرين في بطرسبوغ.
ان ارادة المقاومة والفكر المقاوم هو اقوي بكثير من السلاح بحد ذاته ، فالقيادة السورية ومن خلال القبول بالمبادرة الروسية ، حافظت علي منظومة المقاومة الاقليمية عبر المحافظة علي سوريا كحلقة مهمة من حلقات هذه المنظومة ، التي لايمكن ان تموت فيها روح المقاومة عبر تجريدها من السلاح مهما كان وزن هذا السلاح.
ان الازمة السورية دفعت العالم الي ان يتجه نحو القطبية المتعددة او علي الاقل نحو الادارة المشتركة للعالم ، فلم تعد امريكا القوة العظمي الوحيدة ، ولم تعد اوروبا ذلك التابع الذي يقتفي اثر امريكا اينما ذهبت ، بعد ان ضاق الشعب الامريكي بالحروب العبثية لقادته ، وبعد ان تخلت عنها اوروبا وحتي بريطانيا الحليف التقليدي والوفي لامريكا علي مسايرتها في ضرب سوريا ، ان العالم كله قد ضاق ذرعا بإستفراد امريكا بالقرارات الدولية وتهديدها للامن والسلم الدوليين.
اخيرا ورغم كل إرهاصات المبادرة الروسية ، ليس امام القيادة السورية اليوم من هدف اخر يرقي الي هدف الحفاظ علي سوريا من التفكك والفوضي ، عبر طرد المجموعات الارهابية منها واعادة ترتيب البيت السوري.
بقلم: ماجد حاتمي