لا تصير خلف ، إي لا تصبح مثل خلف ، هذه العبارة الشهيرة تطلق في الموروث الشعبي العراقي عادة علي كل شخص يدعي لنفسه فخراً أو عملا مهماً ، دون ان يصنعه.
العبارة العراقية الشهيرة لا تصير خلف قفزت الي ذهني وانا اتابع مواقف وتصريحات وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس ، والتي شذ فيها حتي عن مواقف حلفائه ، متجاوزا الموقف الامريكي ، ومزايدا علي مواقف اسرائيل ، فكانت محاولات مستميتة لوضع العصي في دولاب المفاوضات النووية ، التي جرت علي مدي ثلاثة ايام في جنيف ، والتي كادت ان تنتهي الي صيغة من التفاهم ترضي جميع الاطراف المعنية بالبرنامج النووي الايراني.
ومن اجل التعرف علي الاسباب الحقيقية وراء تصرفات فابيوس وزير خارجية فرانسوا هولاند ، علينا ان نتعرف علي صاحبنا خلف ، النسخة العراقية لفابيوس ، يقول المؤرخ العراقي الدكتور علي الوردي في كتابة الشهير لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ، ان خلف بن أمين عاش في بغداد في اواخر العهد العثماني ولا يزال اهل بغداد يتناقلون نوادره ويتفكهون بها , وخلاصة امره انه كان قميئا جبانا وليس لديه من المؤهلات ما يجعل منه شقيا مشهورا لكنه كان يطمح ان يكون شقيا يشار اليه بالبنان .. وكانت احاديثه مع الناس لا تخلو من قصص القتال والسلب والسطو علي البيوت .. وهو يعزو الكثير منها الي نفسه طبعا , واذا وقعت حادثه او سرقه كبيره ذهب الي مركز الشرطه يسال الناس هل ورد اسمه بين المتهمين , ومن هنا جاء المثل البغدادي المعروف ما جابو اسم خالكم ؟! (الم يذكروا اسم خالكم) وكثيرا ما يحشر نفسه بين المتهمين او يعمد الي الاعتراف امام الحاكم ... فكان يطلق سراحه في كل قضيه .. يمكن القول ان معظم الناس كانوا مثل خلف بن امين يحبون التفاخر المصطنع بالشقاوه , وانما اشتهر خلف وحده بهذا لانه افرط في تفاخره حتي صار اضحوكه الناس.
قصة خلف هذا وتصرفاته وكلامه تشبه الي حد كبير تصرفات وتصريحات فابيوس، فقد اثارت حالة من التعجب والاستغراب وحتي الاستهزاء من جانب حلفاء باريس انفسهم وقد رأت فيها وكالة انباء رويترز انقساما داخل المعسكر الغربي ، ونقلت عن دبلوماسي غربي قريب من المفاوضات ، دون ان تذكر اسمه ، قوله إن الفرنسيين يحاولون خطف الأنظار من القوي الأخري. اما وزير خارجية السويد كارل بيلد وفي اشارة الي مواقف فابيوس قال ان ما يجري في جنيف ليست مفاوضات مع ايران بل هي مفاوضات بين الغربيين انفسهم. اما منسقة السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي كاترين اشتون فقد نأت بنفسها عن الخوض في هذا الموضوع وقالت ، انها لا تريد الدخول في تفاصيل المفاوضات ، عندما سئلت عن موقف فرنسا ودورها في عدم التوصل الي اتفاق.
قلنا ان مواقف فابيوس اثارت الاستغراب والاستهزاء ولم نقل علامات استفهام ، لانها وبصراحة معروفة ومكشوفة الاسباب التي وراءها ، ففابيوس ، كما خلف بن امين ، يبحث له عن دور بين اللاعبين الكبار ، بعد ان تم تجاهل فرنسا بالمرة في الاتفاق الكيمياوي الذي توصلت اليه روسيا وامريكا بمساعدة قوي اقليمية كبري مثل ايران ، وهو اتفاق اصاب بالصميم استراتيجية فرنسا وحلفائها في منطقة الشرق الاوسط ، فكان لابد لفابيوس رفيق خلف بن امين ، ان يتخذ ما اتخذ من مواقف وان يدلي بما ادلي من تصريحات.
ان فابيوس ورئيس حكومته هولاند ، في وضع لا يحسد عليه علي الصعيدين الداخلي والخارجي ، فعلي الصعيد الداخلي سجل هولاند وحكومته رقما قياسيا في تدني الشعبية لم يسبقه اليه رئيس فرنسي اخر ، فقد أظهر اخر استطلاع للرأي ان فرانسوا هولاند أصبح صاحب أدني شعبية بين رؤساء فرنسا . وتراجعت شعبية هولاند إلي ۲۶% بين من شملهم الاستطلاع، وهذه أول مرة يظهر مسح لمعهد استطلاعات الرأي الفرنسي بي في أي تدني شعبية رئيس فرنسي إلي ما دون ۳۰%. وتعد هذه النسبة هي الأدني خلال ۳۲ عاما دأب فيها معهد بي في أي علي تنظيم استطلاعات رأي من هذا النوع.
يذكر أن شعبية هولاند بدأت في التراجع سريعا في أعقاب انتخابه في مايو/أيار ۲۰۱۲، لكنها مع هذا الاستطلاع نزلت إلي أدني مستوي سجله أي رئيس فرنسي خلال توليه السلطة.
ويعزي سبب هبوط شعبية هولاند إلي الاستياء المرتبط بزيادة الضرائب والبطالة والخلافات المتعلقة بسياسة الحكومة بشأن الهجرة إلي فرنسا.
كما اعتبر خفض وكالة فيتش للتصنيف الائتماني لتصنيف فرنسا ضربة لهولاند الذي تكافح حكومته لتصحيح ماليتها وإنعاش اقتصاد فرنسا بعد سقوطه في الركود.حيث تم خفض تصنيف فرنسا من أعلي تصنيف ائتماني (أي أي أي) إلي أي أي زائد. وعزت الوكالة قرار الخفض لوجود علامات شك تحوم حول نمو الاقتصاد الفرنسي، وهو ما يقلص هامش تحرك الحكومة الفرنسية لتحقيق أهدافها لضبط وضعها المالي.
اما علي الصعيد الخارجي فحدث ولا حرج عن نكسات سياسة هولاند وفريقه ، وخير مثال علي ذلك نكسته الكبري في التعامل مع الازمة السورية ، ففي الوقت الذي رفضت جميع دول الاتحاد الاوروبي حتي بريطانيا اقرب حلفاء امريكا التقليديين ، الانضمام الي امريكا في الحرب ضد سوريا ، فاذا بهولاند وفابيوس يخرجان عن هذا الاجماع ويرتضيان بالحاق فرنسا كتابع للسياسة الامريكية ، دون ان يأخذا راي الشعب الفرنسي كما فعل رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون ، واخذا يقرعان طبول الحرب بشكل اكثر قوة واصرارا من امريكا ، الا ان الاخيرة تركت باريس تقرع طبول الحرب في العراء عندما رأت ان من مصلحتها الاصغاء الي روسيا للخروج من المأزق الكيمياوي.
يبدو ان صلف فابيوس اقوي من صلف خلف بن امين نفسه ، فهذه الصفعة التي وجهتها واشنطن للسياسة الفرنسية ، التي يعتبر فابيوس مسؤولا عن بعدها الخارجي ، لم تعيد الاتزان لفابيوس الباحث عن دور اكبر من حجمه وحجم بلاده ، فجاء هذه المرة الي جنيف حاملا معه مواقف تعكس اماني حلف الخائبين الذين تضرروا من جراء الاتفاق الكيميائي بين الكبار ، عندما اعلن ان اي اتفاق نووي يتم التوصل اليه يجب ان يأخذ مخاوف اسرائيل والعرب بنظر الاعتبار!! ، هنا تطرح بعض الاسئلة نفسها وبشكل قوي ، اولا من الذي نصب فرنسا ان تكون الام الحنون لاسرائيل والعرب؟ وهل للعرب واسرائيل ام أحن من امريكا؟ ومن الذي جعل العرب واسرائيل في خانة واحدة؟ وهل فابيوس اكثر احساسا بخطر ايران وبرنامجها النووي من باقي اعضاء مجموعة ۵+۱ ؟ الا يعلم هذا الدبلوماسي العبقري ان مخاوف اسرائيل لا تنتهي عند خفض مستوي التخصيب او التقليل من سرعة العمل في منشاة هنا او محطة هناك ، بل تنتهي عند تفكيك البرنامج النووي الايراني برمته وتجريد ايران حتي من اسلحتها التقليدية؟.
اخيرا هناك من يري إن مغازلة الثنائي هولاند وفابيوس لاثرياء العرب ولاسرائيل لن تجلب لهما المال والاستثمارات ، ولا النفوذ و التاثير ، بل علي العكس اضرت بمكانة فرنسا في اوروبا والعالم و ساهمت في زيادة نفور الشعب الفرنسي من حكومته ، التي هو نافرا منها اصلا بسبب ادائها السييء علي الصعيد الداخلي ، وبالتالي لن يكون حظ فابيوس ، افضل من حظ خلف بن امين ، الذي مات وهو يحلم ان يكون قويا تهابه الناس.
بقلم / ماجد حاتمي