عند التدقيق في "الاهداف الأميركية" يبرز إلى الواجهة سعيها المستمر لزعزعة استقرار المنطقة وإثارة الفوضى كي يتسنى لها الانقضاض التام وتطبيق مخططات التقسيم والهيمنة، ولتكن بأدوات محلية – وهو الدرس المحوري الذي خرجت به بعد غزوها واحتلالها للعراق والخسائر العالية في العتاد والارواح التي لا زالت تقض مضاجع سياسييها واستراتيجييها على السواء.
دقائق اعتقدها البعض كافية لسبر أغوار "الموقف الاميركي" المرجو والمعلن، ليسفر عن ضبابية جديدة في التوجهات الأميركية إزاء الأزمة "المفتعلة" داخل دول الخليج. أزمة قصدت الرياض إرغام ما تعتبره ملحقاتها الجغرافية للتسليم بالسير خلف قيادة "لمملكة السعودية، بمباركة من الرئيس الاميركي، بحجة مواجهة إيران.
السؤال المركزي الثابت على كل لسان يتمحور حول ماهية حقيقة الموقف الاميركي، إن وجد، وتعبيراته وأدواته وآفاقه وتطبيقاته. أما أسباب الأزمة الحقيقية فهي أبعد ما تكون على رأس سلم أولويات الساسة والقادة الأميركيين، نظراً لأن الاطراف كافة لا تشذ عن خدمة السياسات الأميركية.
لن يجازف عاقل بالجزم في هذه المسألة في ظل سمة التخبط الطاغية على السياسات الأميركية، داخلياً وخارجياً، بالنظر إلى الديناميكيات التي تشهدها الساحة الاميركية والصراع المفتوح بين مراكز قوى متعددة دفعت المؤسسات الاعلامية التقليدية الإقرار بوجود "سلطة عميقة" خفية تتحكم بمفاصل الدولة.
إنفرجت أسارير الكثيرين داخل وخارج المؤسسة الحاكمة لما ينوي الرئيس ترامب إعلانه، الجمعة 9 حزيران/يوليو، عن تحديد توجهاته من الأزمة الخليجية خلال مؤتمر صحفي يعقده مع ضيف الزائر رئيس رومانيا، كلاوس يوهانيس.
راهن الكثيرون على أن الاعلان المرتقب سيأتي ترجمة للسياسة الاميركية الراهنة، لإعادة تصويب البوصلة مع حلفاء أميركا من دول الخليج؛" الذين يربطهم قاسم مشترك بين أمرائه الشباب في التنافس على اكتساب الرضى الاميركي"، وفق توصيف مركز دراسات وزارة الدفاع الفرنسية.
وسبق تصريح البيت الابيض إعلان وزارة الخارجية عن تلاوة موقف يدلي به وزير الخارجية ريكس تيلرسون؛ الذي تأخر 90 دقيقة عن الموعد المحدد، ولخصه في ظرف 90 ثانية برسالة مقتضبة حملت مواقف محددة بلهجة توافقية للتصالح بين الاطراف الخليجية، وعرض وساطة أميركية للقيام بذلك. تخلل الموقف إشارة قاسية لقطر "لتاريخها بدعم مجموعات متنوعة"، تتراوح بين ممارسة النشاط السياسي وبين ممارسة العنف،" ومناشدته السعودية بقبول وساطة أمير الكويت بتغطية أميركية واضحة".
غادر تيلرسون مبنى وزارة الخارجية على الفور ليلحق حضور المؤتمر الصحفي المشترك في حديقة البيت الابيض والجلوس في المقاعد الأمامية دون تأخير.
اعتلى الرئيس ترامب المنصة ليفجر موقفاً مغايراً لما حدده وزير الخارجية قبل برهة قصيرة متهماً قطر
بأنها "موّلت تاريخياً الإرهاب على مستوى عالٍ جداً .. والتوقف فوراً عن تمويل الارهاب."
زمام القرار
لا يبارح المسؤولون الأميركيون التأكيد على أن بلادهم هي مجموعة مؤسسات متماسكة تتحكم بمفاصل القرار، وإن تباينت الرؤى بينها لدرجة التناقض. وهي السردية المفضلة التي ينطوي عليها بعض من المصداقية، بيد أن مركزية المصالح الاقتصادية والمالية المتشعبة تشي بتسليم صنع القرار لمجموعة أخرى مؤتمنة على الاستراتيجيات بعيدة المدة، أبرزها مؤسسة الاستخبارات والأمن المتعددة والصناعات العسكرية والمصرفية.
ذلك الفهم أضحى من المسلّمات أيضاً، ليبرز إلى التداول العام مصطلح "الدولة العميقة"،على نطاق واسع، كهيئة واضحة المعالم تتحكم بمفاصل القرار الحقيقي. الرئيس ترامب، من جانبه، أبرز المؤسسة العسكرية في مقدمة الهيئات التي ترسم مصير البلاد.
أيضاً، يبرع المسؤولون الأميركيون بالتأكيد على أنه لا يوجد خلاف داخل المؤسسة الحاكمة، مهما تباينت المواقف، وأن الرئيس يمثل سياسة الدولة في نهاية المطاف. وربما ينبغي عليهم إجراء مراجعة دقيقة لتلك السردية في عصر ترامب الذي لا يولي اهتماماً لأي من وزراء حكومته وينشر ما يخطر على باله في وسائل التواصل الاجتماعي، "تويتر" بشكل خاص.
في هذا الصدد، صرح خلال المؤتمر الصحفي المشترك سالف الذكر، 9 حزيران/يوليو، بالقول الصريح "قررت مع وزير الخارجية ريكس تيلرسون، وكبار جنرالاتنا وطواقمنا العسكرية، أن الوقت حان لدعوة قطر إلى التوقف عن تمويل الإرهاب".
سبق توصيفه أعلاه إجراؤه مكالمة هاتفية مع أمير قطر، تميم آل ثاني، يوم 7 حزيران/يوليو، أعرب فيه عن جهوزيته استضافة لقاء في البيت الابيض يضم زعماء الدول الخليجية لاستدراك الموقف "والتأكيد على أهمية عمل دول المنطقة بشكل جماعي للحيلولة من تمويل المنظمات الارهابية وايقاف الترويج لإديولوجية التطرف"، حسبما جاء في بيان رسمي صدر عن البيت الابيض.
للإنصاف والتحلي بالموضوعية، اعتبرت النخب الفكرية والسياسية الأميركية أن زيارة الرئيس ترامب للرياض، وما رافقها من إغداق مالي غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية، بأنها "أطلقت فتيل المواجهة الاخيرة داخل مجلس التعاون الخليجي؛" لخشية النخب الجمعية من التقارب السياسي الاميركي مع المملكة السعودية "على حساب صلب الدعاية السياسية الاميركية بالدفاع عن حقوق الانسان."
تجدر الاشارة أيضاً إلى أن الوزارات السيادية الأميركية، الخارجية والدفاع، الزمتا الحذر والخطاب الموزون نسبياً في التعاطي مع دول الخليج، محذرتين من "مخاطر إطلاق وعود براقة لحلفاء أميركا من الدول العربية لن تسطيع الوفاء بها، لا سيما في سوريا أو اليمن، والأهم راهناً في قطر."
أما النخب الاميركية المعنية تحيل توقيت الانفجار في الخلاف الخليجي إلى "تراجع الدور القيادي للرئيس ترامب، والرسائل المتعددة التي صدرت عن أقطاب إدارته .. ربما تضافرت جميعها لإنضاج عوامل الأزمة". بل تجزم بأن الزيارة "وفرت ضوءاً أخضر للرياض وأبو ظبي اتخاذ إجراءات صارمة ضد قطر."
ما جاء في سياق سوريا، في خضم الأزمة الاخيرة، له تجلياته الميدانية على درجة بالغة الأهمية. نورد في هذا الصدد تصريح المتحدث باسم قيادة القوات المركزية الأميركية، رايان ديلون، 8 حزيران/يوليو، قائلاً إن "قوات التحالف (الدولي) لا تنوي مواجهة عسكرية مع النظام السوري أو قواته الحليفة."
كما أكدت وزارة الدفاع، البنتاغون، على الأمر عينه في اليوم التالي، 9 حزيران/يوليو، على لسان المتحدث الرسمي جيف ديفيس بالقول إن "الاشتباكات السابقة في سوريا كانت للدفاع عن النفس، ونأمل أن لا نكررها مرة أخرى". ولمزيد من التوضيح أضاف أن "الولايات المتحدة لا تسعى لقتال أي طرف غير داعش" في سوريا. ويأمل المسؤولون الأميركيون أن تتلقى الرياض وتوابعها الرسالة الأميركية الخاصة بسوريا على وجه السرعة.
كما أن الرئيس ترامب، في مؤتمر سالف الذكر، أرسل رسالة أخرى للسعودية دون تسميتها بالقول "أريد أن أطلب من كل الدول التوقف فوراً عن دعم الارهاب .. أوقفوا تعليم الناس قتل أناس آخرين."
قطر وصفها ترامب في لقاء الرياض بأنها "شريك استراتيجي بالغ الأهمية"، أما الرسالة "التصالحية" الأميركية نحوها فيحيلها الأميركيون إلى تواجد أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة على أراضيها، العديد وأخرى في السيلية، إذ تضم الاولى ما ينوف عن 10،000 عسكري أميركي. كما أن قطر تتحمل "كامل كلفة" التواجد العسكري الأميركي على أراضيها.
يُذكر أن الرياض وأبو ظبي طالبتا الولايات المتحدة بنقل مقر قيادة القوات الوسطى من قاعدتيها العسكريتين من قطر إلى بلديهما، بيد أن القادة العسكريين الأميركيين يعتبرون أن مسألة النقل "أمر غير وارد .. وكلفته باهظة تصل إلى عدة مليارات من الدولارات، فضلاً عن استغراق العملية لبضع سنوات."
ماذا بعد؟
قفز ترامب بيسر من موقف إلى نقيضه، والذي يبدو هو الثابت في توجهات الادارة الحالية. فيما يخص قطر تأرجح بين وصفها "بحليف استراتيجي بالغ الأهمية"، إلى نعتها بدولة راعية للارهاب في ظرف أيام معدودة.
النخب الفكرية الاميركية والأقلية المقربة من ترامب ترجح أن "التناقض" الظاهري جاء ترجمة للقاءات الرياض واستحواذه على مخزون كبير من عائدات النفط والسيولة المالية، كرد عرفان من البيت الابيض للرياض وابوظبي وتسليم دفة قيادة الدول الخليجية تحت عباءتهما.
أما "البعبع" الايراني، الحاضر الدائم في الخطاب السياسي الأميركي والخليجي على السواء، لا يصمد أمام النظر إلى متطلبات المصالح الاستراتيجية الأميركية التي طال انتظارها للاستثمار في السوق الايرانية، عقب الاتفاق النووي، أبرز تجلياتها كانت في صفقة الطائرات المدنية بين طهران وشركة بوينغ الأميركية.
النخب الفكرية والسياسية الأميركية النافذة، بعد إقرارها بضرورة دعم واشنطن لحلفائها الإقليميين، تحذر الادارة من مفاقمة الأزمة مع طهران بتسليم حلفائها الخليجيين دفة قيادة الصراع معها، لما ينطوي عليها من مخاطر تهدد المصالح الاميركية إن استمرت واشنطن في ممارسة دور "القيادة من الخلف". بل "سيصرف الاهتمام ويقوض الاهداف السياسية الأميركية"، حسبما أفادت يومية "واشنطن بوست".
عند التدقيق في "الاهداف الأميركية" يبرز إلى الواجهة سعيها المستمر لزعزعة استقرار المنطقة وإثارة الفوضى كي يتسنى لها الانقضاض التام وتطبيق مخططات التقسيم والهيمنة، ولتكن بأدوات محلية – وهو الدرس المحوري الذي خرجت به بعد غزوها واحتلالها للعراق والخسائر العالية في العتاد والارواح التي لا زالت تقض مضاجع سياسييها واستراتيجييها على السواء.
ترامب المحاصر داخلياً بتهمة الكذب والتضليل والمهدد بالتحقيقات واستكمال ملف إجراءات الاقالة من معارضيه يغامر باستخدام التأزيم في الملفات الخارجية لدرء المخاطر الجدية الداخلية، والأزمة مع وحول قطر مخاطرة قد تنقلب إلى عكس ما يشتهيه خاصة وأن احتمالات إنهائها بسرعة لا تبدو في الافق القريب.