تضيق المنطقة بحجم الأحداث التي تزدحم على سطحها، والعراق وسوريا في قلبها وكأنهما بوصلة الشرق الأوسط ومؤشره، وكيفما دارت الأمور فيهما تُثبّت معادلات. آخر تلك المعادلات صواريخ تنطلق من الأراضي الإيرانية مستهدفة داعش في سوريا. هو العقاب كما يراه الإيرانيون، وهي الرسالة كما يقرأها المراقبون، وهو التهديد كما جرى تلقفه في تل أبيب وواشنطن.
على الأرض كانت الحدود العراقية السورية تستعيد شرعيتها بعد طرد فلول داعش.. قبل ثلاث سنوات، وفي حزيران/ يونيو عام 2014، وقف بعض قيادات التنظيم الذي كان في أوج قوته حينها، يتقدمهم أبو محمد العدناني ليعلن كسر الحدود وقيام الخلافة. حينها اشتعل العالم كما لم يشتعل من قبل... من الحدود ذاتها جاء الإعلان المغاير المضاد، بعد ثلاث سنوات، من سوريا والعراق وحلفائها، أن زمن داعش انتهى.
نهاية زمن داعش، قد لا تعني بالضرورة اندثار الإسم واختفاء الظاهرة، لكن المشروع الذي جاء به داعش في المنطقة، السلوكيات المريضة التي أطلقها وثبّتها صوتاً وصورة، الفكرة والكابوس الذي شكلّه لأهلها لن يستمر. هي إذاً نقطة البداية للنهاية التي انتظرها كثر، النهاية من نقطة البداية، النهاية من حيث أراد داعش أن يقول يوماً إنه آت لقلب الميمنة على الميسرة، فانقلبت ميمنته على ميسرته في مشهد سيسجّله التاريخ. على سطح الرمال المتناهية لبادية الشام الممتدة غرباً إلى العراق وجنوباً إلى الأردن والسعودية بمساحة مئات الآلاف من الكيلومترات، من قلبها بدا واضحاً أن ما قبل ذلك اليوم من حزيران/ يونيو 2017 لن يكون كما بعده.
لم ينته المشهد هنا، لم يُترك لرمال الصحراء الفاصلة بين حدود سوريا والعراق أن تستأثر وحدها بتسجيل حدث تاريخي. في السماء الواصلة بين إيران والعراق وسوريا، كانت اليد الإيرانية الطويلة، تخترق عباب السماء، منطلقة من كرمنشاه وكردستان الإيرانيتين إلى دير الزور السورية لتضرب بصواريخ ستة، مواقع السيطرة والإتصال التابعة لداعش. بدت طهران كمن يعلن للصديق والعدو معاً أنّها في هذه الأيام خرجت من حرجها الإعلامي، ونصبت نفسها بنفسها قوة إقليمية عظمى، أو حتى كما قال رون بن يشاي في يديعوت أحرونوت الإسرائيلية "إنها أضحت قوة عالمية". ومن عجب أن عملية "ليلة القدر" كما اُطلق عليها، بوضوحها جاءت حمّالة أوجه عدة، إنه العقاب كما يراه الإيرانيون، وهي الرسالة كما يقرأها المراقبون، وهو التهديد كما جرى تلقفه في تل أبيب وواشنطن.
العقاب على عملية إرهابية قتلت إيرانيين فحملت للداخل الإيراني طمأنة أن هذه الدولة لا تترك أبناءها يقتلون من دون عقاب، وأن قهر سنوات الحرب الإيرانية العراقية ذهب إلى غير رجعة، فالردع ليس تجارب صاروخية واستعراضات عسكرية في المناسبات الكبرى فقط، إنّما زر إطلاق جاهز لحظة الحاجة، في المكان والزمان المناسبين.
أما الرسالة لمن يقف خلف قرار الهجوم الإرهابي في طهران، فتلك عبّر عنها مسؤولون إيرانيون بأنها كانت "تحذيراً لطيفاً"، لكنها في الواقع أسمعت دوياً كبيراً، بحجم الكتلة الإنفجارية، مجرد جرس إنذار إقليمي بأن الزمن لم يعد يحتمل لعباً بالنار. أما التهديد الذي قُرأته واشنطن وتل أبيب فذاك يختصره كلام إسرائيلي مفاده أن صلية أمس كانت برهاناً على الثقة الإيرانية بالنفس، و"تصريحاً أمام العالم أنهم من الآن فصاعداً ينوون التصرف كقوة عظمى إقليمية" والكلام لمحلل الشؤون العسكرية في القناة العاشرة الإسرائيلية ألون بن ديفيد. هو إذاً تهديد إيراني صريح بأن لدى طهران من القوة ما يجعلها متمكنة من الدفاع عن أمنها الإقليمي والقومي، أي عن داخلها وعن المحور الذي تقوده بامتداده الذي يصل إلى المياه المتوسطية. لكن المشهد لم ينته هنا أيضاً.
دخلت روسيا على الخط بدورها.. أي طائرة تخترق مجال عملياتها ستسقط.. رسمت خطوطها الحمراء في السماء، بعد أقل من 24 ساعة على إسقاط طائرات أميركية لمقاتلة سورية فوق الرقة. بدا المشهد للوهلة الأولى اعتيادياً في ظل اشتباك إقليمي دولي تاريخي فوق سوريا. أرادت واشنطن تثبيت معادلة حظر طيران بالنار، لكن موسكو فتحت الباب أمام الخيارات الصعبة، وعليها لتنفيذ مثل هذا التهديد اتخاذ قرارات أصعب، قرارات قد تأتي على المنطقة المشتعلة أصلاً بمزيد من النيران.
أما الولايات المتحدة التي تنسج على الأرض استراتيجتها السورية والإقليمية، والتي تسعى مباشرة أو بالواسطة لقلب المعادلات في الميدان، فسيكون عليها اختبار التهديد الروسي بلحمها الحي، وهي قالت إن قواتها التي تحارب تنظيم "داعش" في سوريا تحتفظ بحق الدفاع عن النفس، لكنها عادت وأشارت إلى أن "الولايات المتحدة ستعمل لإبقاء خطوط الاتصالات مفتوحة مع روسيا في ظل توترات جديدة".