حقائق التاريخ والجغرافيا، تؤكد أن ثمة خصوصية لعلاقات مصر بفلسطين، خصوصية، تجعل من فلسطين قضية مصرية بامتياز، فماذا عن هذه الحقائق ؟ .
حقائق التاريخ والجغرافيا تؤكد أن ثمة خصوصية لعلاقات مصر بفلسطين
بعد أزمة قطر والخليج وصراع حماس مع السلطة الفلسطينية وخلافات الجميع مع الدول المحيطة بفلسطين، في هذه الأجواء يتجدد الحديث هذه الأيام عن علاقات الدول المركزية المحيطة بفلسطين، بالقضية، مصيراً ومساراً، وهل أضحت هذه العلاقات اليوم (2017) ضعيفة بحكم انشغال تلك الدول بقضايا الإرهاب والربيع العربي الزائف؟ سؤال نحاول الإجابة عليه من خلال علاقات إحدى أهم دول المنطقة بفلسطين، إنها مصر .
إن حقائق التاريخ والجغرافيا، تؤكد أن ثمة خصوصية لعلاقات مصر بفلسطين، خصوصية، تجعل من فلسطين قضية مصرية بامتياز، فماذا عن هذه الحقائق ؟ .
أولاً: يحدثنا التاريخ أن الترابط التاريخي بين (فلسطين) ومصر، ممتد لأزمان ما قبل التاريخ، لعصور الفراعنة، صحيح أن الإدارات السياسية في البلدين اختلفت وتغيرت، لكن ظل التواصل والترابط قائماً بين الأرض والتاريخ انطلاقاً من وحدة الخطر الذي كان يهدد كلا البلدين من قبل الغزوات الخارجية، والتي أشهرها ما جاء من الهكسوس القدامى والهكسوس المعاصرين، لقد كانت المصلحة واحدة، والأمن واحد ومن ثم المصير تحدد، علي أن يكون واحداً، ما يجري في مصر ولها، يؤثر على فلسطين ومستقبلها السياسي والإنساني، والعكس صحيح، ما تتعرض له (فلسطين) سيؤثر حتماً على أمن مصر القومي، هكذا يحدثنا التاريخ الممتد لأكثر من خمسة آلاف عام قبل الميلاد، ولألفي عام بعدها دون دخول في تفاصيل الرواية التاريخية لتلك السنين الطوال وتجاربها المهمة.
ثانياً: وإذا ما قفزنا إلى تاريخنا المعاصر، ومع الغزوة الصهيونية لفلسطين والتي بدأت إرهاصاتها في القرن الثامن عشر الميلادي مع مجيء حملة نابليون بونابرت (1798-1802) وما تلاها من سنين استعمارية عجاف؛ كانت الأطماع الصهيونية حاضرة مباشرة أو محمولة على روافع بريطانية وفرنسية وأمريكية استعمارية شديدة العداء لتلك اللحمة التاريخية بين (فلسطين) و(مصر)، فلعبت أدوارها الخبيثة في تفكيكها وفي زرع (الكيان الصهيوني) كالشوكة في خاصرة الوطن العربي الكبير وبالأخص في خاصرة مصر وبوابتها الشرقية للعالم ولآسيا.
ثالثاً: مع ثورة تموز/يوليو 1952، بدأت مرحلة جديدة في مسيرة العلاقات الفلسطينية – المصرية مرحلة قائمة على المشاركة الكاملة سياسياً وعسكرياً من قبل مصر في كافة ملفات القضية، وهي مرحلة اتسمت بالتوحد المصري الكامل مع فلسطين، وكان (الدم) عنوانها، وبدءاً من العمليات الفدائية التأسيسية لمصر في قطاع غزة على أيدي الشهيد البطل مصطفي حافظ في النصف الأول من الخمسينات، مروراً بعدوان 1956 وما تلاه حتى حرب الأيام الستة (1967) انتهاء بحرب الاستنزاف (1968-1970)، وإعداد عبدالناصر لجيش مصري جديد حقق به خلفه (أنور السادات) انتصار تشرين الأول/أكتوبر 1973، في كل هذه المراحل عبر الفترة الناصرية (1952-1970) كانت فلسطين هي العنوان، وكانت المشاركة بالدم هي الوسيلة والسمت، وكان الخطاب الناصري المحفز والمناهض للمشروع الصهيوني، هو اللغة الوطنية السائدة والمهيمنة علي الشارع العربي.
مصر في زمن عبدالناصر، وتحديداً خلال الفترة (1956-1967)، نظرت إلى فلسطين وما يجرى فيها كقضية أمن قومي، تؤثر على الاقتصاد والسياسة والثقافة، تأثيراً مباشراً، فلا تنمية حقيقية، أو تغيرات اجتماعية جذرية يمكن أن تحدث في البلاد دونما موقف حازم ومباشر من (العدو الصهيوني)، هكذا تقول أدبيات تلك المرحلة كما أصلتها ووثقتها (موسوعة مصر والقضية الفلسطينية) للمفكر والمؤرخ المصرى المحترم (الذي رحل عن دنيانا قبل أيام) د. عادل حسن غنيم في مجلدها الرابع – الجزء الثانى (467 من القطع الكبير) الصادرة قبل أيام عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، والذي تشرفت بمناقشته ضمن نخبة من أساتذة التاريخ والسياسة في ندوة موسعة عقدها المجلس الأعلى للثقافة يوم 30/3/2017.
رابعاً: لقد جرت تحت النهر (الذي هو هنا فلسطين) مياه كثيرة بعد وفاة عبدالناصر عام (1970)، فلقد تحولت النظرة الرسمية المصرية إلى موقف متحفظ ثم معادي لكل ما هو فلسطيني خاصة بعد توقيع اتفاقات في كامب ديفيد عام 1978 على أيدي أنور السادات وبدء رحلة التطبيع الرسمي مع العدو الصهيوني طيلة زمن حسني مبارك (1981-2011) في (الزراعة – التجارة – السياحة – السياسة – الاقتصاد – الإعلام ..وحتى في الدين) [ انظر موسوعة التطبيع والمطبعون في مصر 1979 – 2011 إعداد وتوثيق د. رفعت سيد أحمد – الناشر مركز يافا للدراسات والأبحاث بالقاهرة – عدد الصفحات 2500 صفحة ] ، ورغم هذا الموقف الرسمي المتراجع والمتخاذل والمتفرد في حلوله مع إسرائيل، إلا أن موقف الشعب ونخبته المثقفة وعلماءه وأحزابه الوطنية وجمعياته الأهلية كان مغايراً، كان موقفاً ضميرياً بامتياز، كان ضد التطبيع علي طول الخط واستطاع رغم الضغوط الرسمية واسعة النطاق، أن يحصره في (السلطة ونخبتها المتواطئة) وأن تظل فلسطين حاضرة وبقوة من خلال فاعليات وأنشطة، ودعم غير محدود للانتفاضتين الأولى (1988)، والثانية (2000) ومن خلال التواصل الإنساني والسياسي مع كل ألوان طيف المقاومة العربية سواء في فلسطين أو في لبنان (من خلال دعم حزب الله والقوى الوطنية اللبنانية المقاومة) أو سوريا ودولة الأسد التي ظلت حاضنة للمقاومات العربية (وليس القضية الفلسطينية فحسب) طيلة أربعين عاماً (منذ انتصار أكتوبر 1973 وحتي بدء المؤامرة على سوريا عام 2011)، كان الشعب المصري خلال فترة حكم كل من السادات (1970-1981) ومبارك (1981-2011) في جانب، والنظام الرسمي في الجانب النقيض من القضية الفلسطينية.
خامساً: بعدما سمى بالربيع العربي والذي يحلو للبعض بتسميته بـ(الربيع العبري) تراجعت نسبياً المواقف والسياسات المساندة للقضية الفلسطينية في مصر، ورغم العدوان الصهيوني المتتالي على غزة (2009-2012-2014) إلا أن مستوى ردات الفعل الرسمية والشعبية كانت أقل منها عما جرى في العقود السابقة، ربما لانشغال الشعب المصري و(العربي) بملفات الإرهاب والمؤامرات التي أسماها البعض زيفاً (بالثورات)، ولكن ورغم هذا التراجع الذي لم يستفد منه سوى العدو الصهيوني، وبقايا صناع خيار أوسلو ظلت القضية، حية في الضمير الشعبي، ونحسبها رغم النكبات المتتالية ورغم أزمة قطر والخليج التى انعكست ظلالها على حماس والسلطة ومصر، رغم كل ذلك ستظل علاقة مصر بفلسطين حية!! لأن فلسطين بحكم الجغرافيا والتاريخ والدم قضية مصرية بامتياز شاء من شاء وأبى من أبى.