روايات من ضفّتَي الحرب في السودان

قيم هذا المقال
(0 صوت)

تقول التطورات المصاحبة لارتفاع صوت الحرب بين الجيش السوداني وجيش «دولة جنوب السودان»، إن تقسيم الوطن الواحد لم يتم مع إعلان الدولة الجنوبية وعاصمتها «جوبا»، قبل ما يزيد عن عام، بل جرى فعلياً في الثامن من نيسان الحالي مع سيطرة «قوات الجنوب» على منطقة هجليج النفطية. وهي سيطرة أعقبها تصعيد على المستويات كافة، أرخت بتبعاتها بشكل أساسي على الشعب السوداني، الذي استيقظ ذات فجر ليجد نفسه مقسما في دولتين.

اليوم، يواكب صوت القتال المرتفع في ميدان الحرب بين الجيشين، إطلاق رصاص من نوع آخر، في معارك كلامية يُستخدم فيها سلاح التهديد الإعلامي، جنوبا وشمالا. وبين الرصاص الحي وذلك الإعلامي، تستنفد المعركة أسلحتها اللوجستية الأخرى، بدءا من إغلاق خط الملاحة الجوية بين عاصمتي البلدين، وصولاً إلى حدّ التعبئة العسكرية وإعلان الحرب.

أمام ما سبق، يجد السودانيون في الجهتين أنفسهم تحت وابل رصاص الاقتتال العسكري والمدني على السواء، حيث لا خلاص لهم سوى بتوقف المعارك، أملا في التوصل إلى صيغة تضمن للجانبين حقوقهم، بعيدا عن معارك جنرالات الجيشين.

ووصلت حمى «التقاتل الأخوي» إلى داخل المؤسسات الأكاديمية. وهكذا، أعلنت كلية الشرطة وعلوم القانون، التابعة لجامعة الرباط في الخرطوم (تتبع لوزارة الداخلية السودانية)، قبل أيام عن فصل كل المنتسبين إليها من طلاب جنوب السودان. وعزت الشرطة قرارها إلى أن المفصولين من الطلاب عبروا عن فرحتهم بسقوط هجليج في أيدي الجيش الشعبي، فيما اعتبرت «الداخلية» أنهم «أخلّوا بلوائح الجامعة».

ومن الجامعة إلى مطار الخرطوم قبل أسابيع، حيث كان الفنان التشكيلي السوداني خالد شطة الذي فرزته التقسيمات إلى جنوب السودان، يلقي نظرة وداع حزينة على ما يتركه خلفه، واضعاً رأسه في أحضان أصدقائه من شمال السودان، يبكون معاً من دون أن يسأل احد عن السبب. لم يكن هناك من يلتقط صورة فوتوغرافية للجانب الآخر من استفتاء تقرير مصير جنوب السودان الذي جرى العام الماضي.

الفنان التشكيلي، المعروف بأنشطته الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في جامعة السودان وصالات العرض والأندية الثقافية، كأنما أدرك بحسه الفني، أن الخرطوم وحكامها لن يتحملوه. «دار بحزنه ودس ذكرياته في الحقيبة وغادر»، يقول أحد اصدقائه. غادر إلى موطنه جوبا الذي حمل اسم «دولة جنوب السودان». وبعد مغادرة شطة بأيام صدر قرار الخرطوم بإيقاف رحلات الطيران بين الخرطوم وجوبا. أصدقاء شطة في الخرطوم يشيرون إلى أسئلة كثيرة أرسلوها لخالد مؤخراً، من دون أن يحظوا بجواب: هل كنت محظوظا لأنك غادرت قبل القطيعة الكاملة؟ وهل احتملت ريشتك الفنانة وعدتك البارعة أن تلتقط شيئا من احلامك في ديارك الجديدة؟ هل كنت تدرك ان الحرب آتية لا محالة؟

وإن كان خالد قد وجد مقعداً للمغادرة إلى جوبا بلا تأشيرة كأجنبي، فإن سبل الوصول تقطعت بآخرين كثر من أبناء الجنوب. ومن بين هؤلاء الطبيبة الصيدلانية استيلا قاتيانو، التي قالت لـ «السفير» إنها «تعجز عن توصيف حالها»، حيث «لم يعد لنا مكان هنا، فالصراع ليس هو فقط ذلك الذي يصم الآذان في هجليج... الأنين هنا في القلب».

سردت قاتيانو، التي تعرّف عن نفسها ككاتبة روائية كذلك، حيثيات وضعها «المعلّق»، فـ«لا هي مواطنة الآن في دولة السودان، ولا هي مواطنة في جنوب السودان وعلى أرضه». تحمل في يدها تذكرة سفر عبر الطائرة الى جوبا، ولكن السماء مغلقة بين البلدين منذ التاسع من نيسان الحالي، ولا مفر من انتظار مجهول يغيّر الامر ولو قليلا. تقول قاتيانو «نحن اقرب إلى الرهائن الآن، لا اعني الجنوبيين في السودان فحسب، لكني اشير أيضاً إلى الشماليين في دولة جنوب السودان». تنتظر استيلا قرار معاودة الطيران لتغادر الى جوبا مع طفليها عمر وعاصم، حيث ستعمل مع احدى شركات الأدوية، بينما يبقى زوجها عادل في الخرطوم قسرا وليس اختياراً، لأنه أجنبي لدى سلطات جنوب السودان كحال استيلا في الخرطوم منذ التاسع من نيسان، وهو الموعد الذي اعلنت فيه سلطات الحكومة السودانية ان رعايا دولة جنوب السودان انتقلوا الى خانة الأجانب، وأمهلتهم شهرا لتوفيق أوضاعهم.

من جهتها، كشفت سفارة جنوب السودان في الخرطوم انها استخرجت خمسة آلاف وثيقة سفر لمواطني جنوب السودان الراغبين في العودة الى جوبا، وأشار مسؤولو السفارة الى أن ثمة صعوبات تواجه ترحيل الجنوبيين براً.

وكانت وزارة الداخلية السودانية أعلنت أن التعامل مع رعايا دولة جنوب السودان سيكون وفق القوانين المنظمة للوجود الأجنبي في السودان اعتبارا من يوم الأحد، حسب الاتفاق بين الدولتين. وقالت الوزارة في بيان توضيحي إن «جهود الدولة لدعم العودة الطوعية للجنوبيين، بالتنسيق مع منظمة الهجرة الدولية، تتزامن مع قيام سلطات الهجرة في السودان بحصر وتسجيل مواطني دولة الجنوب، وإصدار بطاقات مؤقتة لأغراض الحرص والتسجيل بأقسام الشرطة المختلفة». ودعت السلطات سكان دولة الجنوب الى الاسراع في اكمال اجراءات تسجيلهم لدى سلطات الهجرة في السودان.

بدوره، قال مدير الإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية في «الداخلية» اللواء أحمد عطا المنان إن السودان ابلغ دول العالم اجمع أن المستندات التي بحوزة أبناء «دولة جنوب السودان» أصبحت «غير مبرئة للذمة». وكان البرلمان السوداني قد شدد على ضرورة تقنين بقاء رعايا جنوب السودان في جمهورية السودان، رافضاً أي اتجاه لخلق وضع استثنائي لهم بعد انقضاء المهلة.

ولأن قضية رعايا دولة الجنوب في الشمال او الشماليين في الجنوب تحولت إلى ما يشبه ورقة ضغط سياسية، فإن تصريحات السياسين لا تخلو من تأكيد الأمر، كما هي حال رئيس البرلمان السوداني احمد ابراهيم الطاهر الذي اعلن في مؤتمر صحافي الاسبوع الماضي «رفض البرلمان خلق أي وضع استثنائي لرعايا الجنوب»، معتبراً أن ما تقوم به وزارة الداخلية هو «مسألة قانونية بحتة، وليست مزايدة سياسية». وأكد الطاهر أن «الجنوبي» لم يعد سودانياً، وأنه غير مسموح بقاؤه في الشمال من غير تقنين وضعه كأجنبي.

وفي مشهد يعكس الرؤى المتباينة تجاه العلاقات بين شعبي البلدين، نشطت مجموعات شبابية عبر مواقع التواصل الاجتماعي تشدد على اهمية الحفاظ على الروابط والاحترام بين الشعبين. ونادى بعضهم بمساعدة رعايا الجنوب في الشمال لمعالجة وضعهم القانوني. في المقابل خرجت اصوات اخرى ابرزها «منبر السلام العادل» برئاسة الطيب مصطفى، المعروف بعدائه لجنوب السودان، الذي أكد استعداد حزبه لتوفير أموال طائلة للمساعدة في نقل الجنوبيين الى بلادهم. واعتبر مصطفى تاريخ الثامن من نيسان الماضي «يوماً سعيداً لكونه شهد التنفيذ الفعلي لانفصال الجنوب عن الشمال»، داعياً الشعب السوداني الى «فتح باب التبرعات لترحيل الجنوبيين».

وفي جوبا نفسها، توعدت السلطات بمعاملة المواطنيين السودانيين في جنوب السودان بالمثل. وبالرغم من «شحّ» المعلومات المتداولة حول مخاوف الشماليين في الجنوب، إلا ان ثمة مخاطر تحدق بهم كلما علا صوت الرصاص او الخلاف السياسي ما بين جوبا والخرطوم. وكما للجنوبيين في شمال السودان مراراتهم مما هو دائر الآن، فإن ثمة شماليين عصفت بأحلامهم الاحداث نفسها كحال خنساء طه صديق، خريجة كلية «البيطرة» في جامعة الخرطوم. كانت طه تعد الاسابيع الماضية لتلتحق بعملها في جوبا وهي الشمالية، غير ان توقف الطيران واستعار الحرب الدائرة في «هجليج» قطعا عليها احلامها... وبقيت في الخرطوم «تندب حظها العاثر وتلعن الحرب».

ما تقدّم يخفف من وطأته تحليل «متفائل» نسبيا يقدمه اختصاصي العلاج النفسي والأستاذ في جامعة الخرطوم ياسر عبد الرحيم الماحي الذي يعود إلى المؤشرات التاريخية لعلاقات الشمال والجنوب. يستند الماحي إلى هذه المؤشرات ليجزم أن «خطاب التعبئة والتعبئة المضادة بين البلدين لن يستغرق وقتا طويلا. ويرى في ما يحصل احتقانات مؤقتة ستزول سريعا، وأن الشعبين تجاوزا سابقا مراحل اكثر تعقيدا من الأزمة الراهنة». ويعتبر اختصاصي العلاج النفسي أن «تراكمات المستقبل بين الشعبين رهينة ما تأتي به الأيام المقبلة، لأنه سيكون الأرضية التي ستتطور عليها علاقات الحكومتين أو الشعبين».

انور عوض

قراءة 1769 مرة