إنها المعركة الإعلامية، طليعة المعركة السياسية والاقتصادية الشرسة التي ستلي حرب سوريا، والتي يحاول محور المقاومة أن يبعد عنها شبح معركة عسكرية أخرى. أما إن حصلت، فهي الحرب النفسية، تحطيم معنويات هناك، وتحشيد وتوحيد صف هنا– كما في العسكري والسياسي- لتحويلها إلى خسارة أخرى
أسرار حزب الله، ما أكثرها! وما أكثر الذين يتوقون لاكتشافها! غير أن صحيفة "واشنطن بوست" قرّرت منذ 2006 ترتيبها وقالت إن "حسن نصرالله هو أكبر أسرار حزب الله". فكيف نفهم ذلك في إطار الحرب الإعلامية النفسيّة؟ وتحديداً في إطار الظهور الإعلامي الأخير للسيّد؟
منهجان تحليليّان تتبنّاهما دوائر التحليل الإعلامي – السياسي في كلٍ من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل: الدوائر الأميركية تعتمد التحليل النفسي، أما الدوائر الإسرائيلية فتُركّز على السيميولوجيا بما فيها لغة الجسد وما تتضمّنه من نبرة ِالصوت، نظرة العينين، شكل الابتسامات أو عدمها، حركة اليدين، تعبيرات الوجه، وحركة الجلوس. بكل ما تشكّله هذه الإشارات من حاملٍ للمدلول يتحوّل إلى جزءٍ منه ويوصل الدلالة. وكلا المدرستين تعملان خبراءهما على كل خطاب او ظهور للسيد نصرالله.
في ما يُبنى عليه السؤال: ما الذي أراد أن يوصله للجمهور في الخطاب الأخير؟ وكيف فعل؟ مَن، لمَن، ما، ماذا وكيف؟
هو سيّد المقاومة، يتحدّث باسم حزب الله ولكنه أيضاً ناطق باسم محور يضمّ دولاً وأحزاب ومجموعات، وعليه أن يحافظ على التوازن البالغ الصعوبة بين الكلام باسم حزب من دون أن يتقوقع في حزبه ومن دون أن يتحجّم كناطق باسمه وكفى، وبين أن يتحدّث باسم دول وأحزاب من دون ان يبدو أنه يتعدّى على خطابها وينفلش أكثر مما يحقّ له، والأصعب، أن يتوجّه إلى اللبنانيين من دون أن يغذي دعوى مصادرة الحزب للدولة وقرارها، خاصة في هذا الظرف الصعب، ومن دون أن يبدو، في المقلب الثاني أنه معنيّ بفئةٍ من الشعب من دون غيرها. عليه أن يُحافظ على صورة أمين عام حزب الله ولكنه أيضاً قائدٌ وطني، وهو أيضاً قائدٌ في محور عربي واقليمي، مُبرّر وجوده الأبرز هو فلسطين، وقد حولّته الأحداث الأخيرة إلى قائد في محور دولي استراتيجيته إسقاط نظام عولمّة القُطب الواحد الذي قام عام 1990.
في لبنان، ها هو الحزب الله يُسلّم جرود عرسال للدولة ، وفي الاقليم يتحدّث عن إسقاط حلم إسرائيل الكبرى، وفي الدولي يتحدّث عن إسقاط مشروع الشرق الأوسط الجديد منذ 2006. وفيما يربط الثلاثة معاً ها هو مُخطّط إخضاع سوريا يسقط أو في آخر مراحل السقوط. كما قال.
لمَن؟ هو يتحدّث أولا إلى جمهوره، جمهور حزبه والمقاومين من حلفائه: شحنة كبيرة من الدّفع المعنوي تندرج من هذه العناوين الكبيرة التاريخية، وتمرّ بتفاصيل لها دلالاتها الكبرى: أخطر ما في حرب تموز: كسْر أسطورة التفوّق البريّ، الميركافا، واستهلال حرب البحار بكسْر استعراضي للتفوّق قلّما شهد التاريخ له مثيلاً في اقتران العسكري بالإعلامي وتحديداً بالصورة التي يجب استدعاؤها دائماً من الذاكرة البصرية بكل مؤثّراتها. غير أن التغنّي بما مضى عليه عشر سنوات لا يكفي إلا إذا تعزّز بالحاضر، وفي الحاضر نجاح معركة حاويات الأمونيا، من دون خسارة طلقة واحدة. ها هي إسرائيل تنقلها خوفاً. إذن فلنبدأ معركة ديمونا، أيقونة التفوّق الإسرائيلي الأكبر،النووي، فيما يبدو كأنه قضْم عسكري – سياسي- إعلامي تدريجي. ولنطمئّن في الوقت ذاته إلى تعاظُم القوة مئة مرة بعد أحد عشر سنة على الحرب في ردِّ مُضْمَرٍ على مَن يتحدّثون عن الاستنزاف في سوريا.
هذا الخطاب المُطَمِئن الشاحِن لمُعسكر المقاومة وحلفائها، هو ذاته في المقلب الآخر خطاب القلق المرعب في معسكر العدو، وهذا جوهر الحرب النفسية. "ماذا سيحلّ بكيانهم إذا أصابت صواريخنا هذا المُفاعِل؟"، "نحوّل تهديدهم إلى فرصة وتهديد". بل يمضي في التقزيم: يخافون من مُزارعٍ أو من راعٍ يزرع أرضه ونحن نزرع ونصل الحدود.
وإذا ما انتبهنا إلى أن التقرير الاستخباري، لمركز الأمن القومي الإسرائيلي لعام 2017 تناول بدقّة هذا التهديد مُعتبراً أن حزب الله هو التهديد الأكثر خطورة على إسرائيل. وإلى أنه تناول بالتفصيل، (ومثله مركز والاه الستراتيجي وخبراء ميزان التسلّح والصحافة الإسرائيلية) - نوعيّة الصواريخ، الوحدات البريّة، الدفاعات الجويّة الوارِدة من روسيا، الصواريخ البحرية وفي مقدّمها ياخونت (هذا الصاروخ الذي مات حافظ الأسد وهو يحاول اقتناءه) إضافة إلى الصواريخ الإيرانية البريّة والبحرية.
وإلى أن السيّد وهو يؤشّر إلى سلاح البحر، إنما ذكر موضوع بلوكات الغاز، وإلى كون أميركا تفاوض روسيا في سوريا على مصالحها.
في حين تكلّل كل الكلام بخطاب مُكرّر عن "الكلفة" تلك التي يخافها الجمهور الإسرائيلي كما يخافها مسؤولوه.
فإننا نفهم ببساطة أن الخطابَ خطابُ ردعٍ بامتياز، شحذ كل عناصر إرباك العدو، فيما يفسّر أمرين:
الأول، نشْر إسرائيل لمضمون تقرير مركز أبحاث الأمن القومي المذكور ولتحليلات مَن تَبِعَه من خبراء، في ما يُعتبر وسيلة أساسية في دعاية الحرب لتبرير العدوان على عدو، وبأشرس الوسائل، طالما أنه "العدو الأكثر خطورة" ويمتلك كل هذه الترسانة المُخيفة. والثاني، المؤكّد للأول، سبب منْع نشْر تحليلات الخطاب الأخير في وسائل الإعلام الإسرائيلية. مما يعني أن هناك جناحاً اسرائيلياً قوياً يريد الحرب على الحزب ولبنان لتعويض خسارته في سوريا، أو لتحسين شروطه التفاوضية في ما بعد.
لأجل كل هذا كان لا بدّ للسيّد من أن يبدو في أقصى حالات ارتياحه – وله في ذلك سندٌ من الواقع- أن يعدّل جلسته مراراً بشكلٍ أقل رسمية، أن يُمسّد لحيته وهو يبتسم بخبثٍ شقّي يقول الكثير، أن ينوّع نبرةَ صوتِه لتقول أحياناً: "هذا تحصيل حاصِل" ،وأحيانا أخرى: "يا مساكين" وثالثة: أنتم أوهى من بيت العنكبوت" ورابعة : "قلنا لكم ولم تسمعوا". وخامسة:"الحقوا أنفسكم القصة انتهت" وسادسة : "نحن تحت سقف الدولة" وسابعة لا تخفي الغضب الحق ولو في حدوده الدنيا. وثامنة تجمع المحبة والعتب معاً. وتاسعة حتى المئة تعدل كل نبراتها لذكر الأسرى والشهداء. كل ذلك وهو لا يحوّل لحظة نظره عن عينيك بحيث يحسّ كل مشاهد بأنه يتحدّث إليه شخصياً ويوجّه إليه الإصبع الشهير.
إنها المعركة الإعلامية، طليعة المعركة السياسية والاقتصادية الشرسة التي ستلي حرب سوريا، والتي يحاول محور المقاومة أن يبعد عنها شبح معركة عسكرية أخرى. أما إن حصلت، فهي الحرب النفسية، تحطيم معنويات هناك، وتحشيد وتوحيد صف هنا– كما في العسكري والسياسي- لتحويلها إلى خسارة أخرى.