تساءل مَن تساءل عن الخلفيات التي أعادت بها القناة الوطنية جزءاً من مشاهد العشرية السوداء على قسوتها، وقد أدارت قناة الميادين ندوة في الحدث مشكورة، لكن يبدو أن الكل فَهِم الموضوع خطأ..؟
فالتذكير بالتاريخ عندنا في الجزائر أمر مهم لأننا أمّة التاريخ، 132 سنة من المقاومة فحرب التحرير.. نتذكّر للتاريخ أيضاً طلبة سوريا وهم يردّدون النشيد الوطني الجزائري قبل دخولهم الأقسام الدراسية زمن ثورتنا التحريرية..نتذكّر أيضاً للتاريخ جموع الشعب اللبناني ومقاومته وهي تنزل علم فرنسا من فوق سفارتها وترفع فوقها علم الجزائر.. نتذكّر كي لا ننسى التاريخ ونتعلّم منه، ومن لا يُصغى إلى صوت التاريخ لن يتعلّم أبداً.. وللحقيقة وللتاريخ فإن الأمن القومي العربي بعد ما أخذ بالتجزيئية بالتصنيف للمخاطر التي تحوم حولنا من غيرنا أو من بعض بيوتنا فإنه يبدو في حال انهيار أو تآكل بأدنى توصيف.. أكيد هناك قوى تغريبية داخلية بوعي منها أو بغير وعي تحاول جرّنا إلى مستنقع الخطأ السياسي، ومنه إلى الطائفية تحت مظلّة "محور الاعتدال" وهو ما يعني تقبّل القابلية للاستعمار بتعبير مالك بن نبي.. ربما البعض منا مازال يستنسخ في السياسة على وجه التحديد وثنيّات العصر القبلي، ثم يقول – وبكل بساطة – نحن نصنع التاريخ لنا ولغيرنا بمحور الاعتدال !! كحال السعودية، بل ويقولون في غير وعي نحن قادة الأمّة العربية السنّية المذهب!! وكأن للتاريخ ذيلاً يشدّنا باستمرار إلى الأزمات الكبرى لهذه الأقوال ولتلك الدول.. لسنا وحدنا بالتأكيد في المأساة التي يُعانيها العالم اليوم، ولكن مأساتنا في العالم العربي مُصطنعة، تلعب بها أطراف عربية وغربية غير واعية ولا شيء في منظورها يشدّها صوب التاريخ غير كرسي العرش وفكْر القبيلة!! ولأدعياء السلفية -غير التعبّدية - ولمفاهيم أكثر ارتدادية هم صفوفها، فهل بالإمكان بناء جدار الأمل تحت طائلة المذهب الوهّابي الطارئ والمتطرّف بالنسبة للساحة الجزائرية مثلاً..؟ وهل بالإمكان لدُعاته وعباده الاستحواذ على الصدارة بالوَهْم في عالم متغيّر، وفي ظلّ الافتراضات المبنية على الإلغاء المُطلق للآخر كما يدعو إليه هذا المذهب ويحرق الأرض ويصلب البشر من أجله.. ؟ بالتأكيد لا، هذا هو جوهر الصراع المرير بين ما هو من صنع الذات وبين ما هو مصنوع خارج الذات، أجل من الممكن العودة إلى الذات بالمصالحة وبأضواء كاشِفة – وبالتالي – الخروج من المحنة بانتصارات واعية، وواعِدة، ودائمة، وهذا ما حقّقته المصالحة مع الذات في الجزائر بعد عواصف الأزمة بدءاً من (قانون الرحمة) وصولاً إلى (الوئام المدني وميثاقه)، ولذلك فإن محاولات بعض المستفيدين من الأزمة تصريف التاريخ وفق رؤى تجزيئية ظلّت محاولات بلا صدى، لأن التاريخ ذاته يرفض التجزيئية. ولأن المصالحة أيضاً أعادت التسامح الديني إلى مفهومه الصحيح، والتعدّدية السياسية إلى مرتكزاتها المعمول بها دولياً.
بهذا المنطلق تبدو الجزائر وقد خطت برؤيتها في المصالحة خطوات مهمة نحو تثبيت أمنها القومي، وبعد تفكيك خيوط الأزمة والمُتلاعبين بها وتوطيد المصالحة لاحقاً، يتم ذلك رغم محاولات فرنسا وإسرائيل إجهاضها بوسائل أمنية متطوّرة، تتم مواجهة ذلك بهدوء ودائماً بحثاً عن نقطة ضوء وسط رماد التاريخ، وحسبها في ذلك حقائق الواقع ، وسوابق التاريخ الكاشفة لما هو صائب ولما هو خاطئ، الجزائر بالمصالحة إذن حاولت كسب الواقع وإعادة تصفيفه ونجحت، والواقع الجديد أرغم الجميع على ذلك - كما يقولون – وفي نيّة الكل بناء ما تحطّم من الذاكرة، ذاكرة التاريخ وذاكرة المستقبل، وليس الكل أوفياء للموقف فحسب، ولكن الكل ملزمون بالعمل من أجل الموقف، في زمن تردّت فيه المواقف في بعض الدول العربية ضدّ بعضها البعض إلى ما يشبه التواري وسط توجّهات تتنكّر لكل قِيَم الأمم وثوابت المستقبل، وترتمي في أحضان إسرائيل وأميركا وكأنهما المُخلّص لها مما هي فيه من سوء فهم للإسلام وللسياسة.. تتنكّر كذلك لكل فضل حضاري يأتي من عُمق الذات العربية لأنه من غير مذهبها، وبوسائل لا تثمّنها سوى بقايا التاريخ .. واقعنا الجزائري إذن، وللمصالحة التي تمت فيه، عاد إلى وظيفته التاريخية ولكن بسؤال بسيط : ما طبيعة هذه العودة، وفي أيّ اتجاه يمكن رسم خارطتها، وهل هي عودة بحثاً عن الكلمات داخل الكلمات وكفى..؟ بالتأكيد لا، لأن الجزائر في سياستها تؤمن بالتزاوج بين الثقافة والسياسة، خاصة في الظروف المُتآكلة، وبالمواقف المُتصالحة مع الذات، في الظروف التي تنشأ فيها الأزمات الكبرى، إنها تستنطق التاريخ الجهادي لشهدائها لأنه حصنها المنيع، وصوت شهدائها مرسوم على ألواح الجغرافيا لا تدروه رياح العواصف طالما ظلّ راسخاً في الوجدان الشعبي .. تؤمن أيضاً بالالتزام بقضايا الكل لأن المواقف لا تقبل الانشطار، ولا تقبل الانتصار للطارئ والمؤقت .. إذن عودة الأمّة إلى تاريخها الجهادي بالمصالحة وقد تعرّت كل حقائق التاريخ عن دُعاة الاستئصال، ودُعاة الانشطار الفكري المتسبّبون في الأزمة ..إن التاريخ ، وكما قلت أكثر من مرة " لا يمكن الوصول إليه بمكبّرات الصوت " ، وأن البناء الحضاري لا يمكن أن يأتي ببيانات هي أقرب إلى اليأس منها إلى الحقيقة، وبالتالي هي إضافة جديدة لواقع متأزّم يحتاج إلى بناء جذّاب وفق مسلّمات التاريخ وحساب المستقبل، إننا لسنا أكثر من غيرنا في هذا الكون، وأن السوابق التاريخية ليست مجرّدة من الحاضر ولا من المستقبل، وإلا لماذا يأتي القرآن على ذكْرها في أكثر نصوصه وآياته..؟
إن استنطاق الأزمة بالمصالحة هو عملية إبداعية، واعية، وواعِدة، وأن التأخّر عن هذا الاستنطاق، خاصة في الأزمات الحادّة والدامية – مثل أزمتنا في العشرية الحمراء – هو خيانة للموقف وارتداد حضاري .. فهل حاول النظام وسط تلك العواصف الدامية – ولو بالقليل – استنطاق التاريخ لدفع الأزمة باتجاه الاندثار أو على الأقل صوب الهامش الحضاري..؟ بالتأكيد تم فعل ذلك، فكانت المصالحة الشاملة، المصالحة مع الذات ومع التاريخ، وكل ما قيل لحد الآن ضدّها إن في الداخل أو في الخارج هو مجرّد محاولات لإرغام الناس على تقبّل استمرار الأزمة ومُعايشتها لأسباب فرضتها إشكالية التلاعُب السعودي بأسعار النفط، ثم طبيعة النظام السياسي الدولي لكونه أساس الأزمة ، ولكونه موضوعاً خارج إطار الأغلبية، إن السؤال المطروح اليوم وبحدّة، على العالم العربي وإن هو غير واضح في أبجديات الفكر السياسي، هو لماذا الأقليّة ( استئصالية أو قبلية) تحاول احتكار السلطة وتتصرّف وكأنها فوق التاريخ..؟ هذا السؤال يمكن أن يخلق أزمات متتالية إن استمر ضمير الأغلبية محصوراً ضمن ذاكرة النسيان المتعمّد، من طرف الاستئصالين والحُكم السلالي على أقليّتهم في الساحة السياسية في العالم العربي ومنه الجزائر، إن الظروف تتآكل ضدّهم، والمواقف تتدفّق عندهم باتجاه العودة إلى التشبّث بقِيَم الإنكار المُطلق للواقع والارتكاز كليّة على صدى الواقعية المجرّدة من عناصر البقاء، ربما لأسباب الخوف من أن ينطق الواقع بأدوات الأزمة، أو ربما الخوف مما قد يكشفه المستقبل من رماد هذا الواقع ، وأياً كان الأمر فإن هناك شيئاً من القسوة في هذا الافتراض تستعمل اليوم لدى الاستئصالين والقبليين ضد الأغلبية لحماية الأقلية، وفي كل ذلك هل يكفي أن تكون هذه الأقلية على عداوة تامّة مع التاريخ باستمرار لتحافظ على بقائها..؟ التاريخ نفسه يقول : لا، ذلك أن السياسة مثل الجغرافيا لا تحتمل الفراغ، والفراغ لدى بعض الأنظمة العربية اليوم بلا حدود، بل وتجاوز هذا الفراغ المواقف السياسية المُساهِمة في الأزمة، في الجزائر، وسوريا، واليمن، وعلى نفس المستوى تبدو بعض مراكز الأبحاث بعد أن تحوّلت بدورها إلى مزارع للظروف المُتآكلة، والتصوّرات الظرفيّة المطبوعة بالميوعة وبالخوف أحياناً أخرى، ما الذي تغيّر في النهج السياسي بعد الأزمة في الجزائر وفي البلدان المساهمة في الأزمات التي تعصف بالعالم العربي..؟ سؤال يبدو تجريدياً وغير مُتناسق مع الذات، لكن رغم ذلك يبقى سؤالاً مهماً بالنظر إلى ما نحن عليه في الجزائر من أمن وأمان، ونتمنّاه لسوريا واليمن وليبيا.. ربما ما قاله الخبير الاستراتيجي الدكتور ماركس هو الصواب قال " سيكون العالم يوماً ما ممتّناً لإيران وحزب الله وروسيا الذين خلّصوه من شرور الوهّابية وداعش".
محمّد لواتي رئيس تحرير يومية المُستقبل المغاربي