إن افتراض مواجهة عسكرية بين الغرب وإيران يبدو ضئيلاً، وربما غير مقبول أميركياً، وإن إسرائيل أمام هذا الضعف الغربي تبدو هشّة، وهي بالتأكيد الآن تحرص على حدودها خوفاً من حزب الله، والحال هذه فإن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على تغيّرات في الاستراتيجية نحو السلام وربما إدخال إيران أميركياً ضمن القوى الفاعلة في المنطقة قصد الحد من تأثيراتها السلبية على إسرائيل.
لديّ قناعة، وبناء على رؤى تحليلية، أن إيران ستظل العمق التاريخي للمقاومة والنظام الإسلامي بكل محصلاتهما المعرفية والإنسانية، وأنه - بالتالي - لا مجال لأميركا للمغامرة معها في حرب قد تُطيح بهيبة أميركا وترفع إيران إلى مصاف آخر جديرة بالاحترام. إذن ، ثمة مواقف هي للتاريخ وأخرى هي للجغرافيا.. وحين يلتقي التاريخ بالجغرافيا يولد الإنسان كما يقول حسنين هيكل، وذلك ما يؤمن به الجنرال ديغول حسب ما جاء على لسان صديقه المُبدع "أندري مارلو" كما يصفه ديغول نفسه..حين زار الجنرال ديغول إيران عرف أن الشعب الإيراني لا يعرف المكان الذي توجد فيه فرنسا في الخريطة السياسية للعالم، يقول أندري مارلو :" روى لي السفير الفرنسي في إيران أنه عند زيارة الجنرال "ديغول " لإيران وبالضبط للمدينة التاريخية شيراز.... كان مستقبلوه يصيحون عاش رستم " ، ويقول ديغول نفسه أيضاً "التاريخ في شيراز أقوي من التاريخ في فرنسا "، كلمة حق في عالم عاصف ومواقف متضاربة من بعض المُناهضين للحقيقة ، ومن بعض الأعراب المُتآمرين عليها.
ومن هنا يمكن التأكيد على أن الولايات المتحدة الأميركية قد دخلت الدوّامة الإيرانية من دون أن تدرك الخلفيّات التي تحكمها والقوة التي تديرها، وهي تعلم يقيناً مدى قوة الثورة الإيرانية بالمفهوم الإيديولوجي والتاريخي، ولكنها لا تعرف المستويات التي تأخذها أثناء حالات نشوب حرب، وقد جرّبت الحرب الباردة ضدّ إيران على مدى ثلاثة عقود من الزمن ولم تتحكّم في القوة الخفيّة التي تُسيّر إيران إلا ما يمكن اعتباره تجاوزاً بالمعارضة الهشّة، وحتى هذه المعارضة لا تعرف عنها إلا القليل، إن الفكر السياسي الإيراني ـ بالتأكيد ـ يقترب من المستقبل أكثر مما يقترب من الحاضر، وأن الحدث التاريخي فيه مثل الحدث الجغرافي والفكري الذي يملك هذين المبدأين يمثل الحقيقة الاجتماعية بكل ترسّباتها، والمجتمع الإيراني يمتاز بهذه الصفة، صفة الانضباط من جهة، وصفة التصنيف الواقعي للفكرة الأساس التي تناضل إيران من أجلها من جهة ثانية، ولذلك فإن حكّام إيران حين يقرّرون موقفاً ما يأخذون قرارهم من هذا التصفيف التاريخي والجغرافي لواقع إيران ..
وحين يدافعون عن حقيقة ما فإنهم ينطلقون من هذا المخزون العام للشؤون الوطنية وليس من خارجه كما يفعل مجلس التعاون الخليجي المأزوم، وبالتالي فإن أية محاولة أميركية لجرّ إيران إلى صفّها السياسي هي محاولة شبيهة بمحاولات بحّار في محيط هائج وتحت ضربات العواصف العاتية يريد توقيف الأمواج أو تكسيرها بتعبير ونستون تشرشل.. فهل تدرك أميركا الآن،إنها وقعت في الحفر التاريخية الإيرانية، وإنها على طريق الاحتراق سواء أقرّت بذلك أو تمادت في طغيانها..؟ وهل تتكرّر معها مأساة روما فيحرقها المحافظون الجُدد مثلما أحرق نيرون روما.. لقد حان الوقت كي يُدرك الهاربون من السياسة مواقف إيران والرمال التي تتحرّك فوقها، وبالطبع ليست لعبة الرمال المتحرّكة فقط كما يُعَنوِن مدير المخابرات المركزية الأميركية السابق أحد كتبه، إنها لعبة التاريخ ولعبة الجغرافيا ثم لعبة الشعور الديني والوطني..إذن، الغرب أمام المأزق الإيراني والذين سايروه في مواقفه المدمّرة حفاظاً على عروشهم هم أيضاً أمام الاحتمالات السيّئة، فلا الحرب ضد إيران قادمة ولا الاستسلام لمطالب الغرب جاهزة، إنها المعادلة التي تبدو من وجهة نظر البعض مستحيلة ومن وجهة نظر البعض بداية النهاية للاستعلاء الغربي ضد العالم النامي، أو بالأحرى العالم الإسلامي.
إن افتراض مواجهة عسكرية بين الغرب وإيران يبدو ضئيلاً، وربما غير مقبول أميركياً، وإن إسرائيل أمام هذا الضعف الغربي تبدو هشّة، وهي بالتأكيد الآن تحرص على حدودها خوفاً من حزب الله، والحال هذه فإن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على تغيّرات في الاستراتيجية نحو السلام وربما إدخال إيران أميركياً ضمن القوى الفاعلة في المنطقة قصد الحد من تأثيراتها السلبية على إسرائيل، لقد فهم الغرب من تجربته مع بن لادن أن ما يبدو مستحيلاً يصير ممكناً ، وأن التطوّر الحاصل على مستوى الرؤية الفكرية ذات البُعد الديني أكثر بكثير من الرؤية العسكرية ، فالأولى نتاج تراكم تاريخي وإنساني ، والثانية نتاج تطوّر آلي في اتجاه مادي هو ملك مشترك، بخلاف الأول، وأن الإيديولوجية أياً كان مصدرها هي مثل التكنولوجيا، الأولى غسيل الدماغ والثانية غسيل للأمعاء، وأن التجارب أيضاً هي بمثابة صخرة الصلصال لا ينحت منها إلا مَن كان وارثاً لها، وإيديولوجية أميركا هي نسخة مشوّهة من إيديولوجية الصهاينة بل ربما هي فوق كل مستويات السوء سوءاً.
إن الحقائق على أرض الواقع تغيّر الكثير من الاتجاهات، فالحقائق التي أوجدها في الميدان حزب الله في حربه الأخيرة مع إسرائيل غيّرت الكثير من المفاهيم الخاطئة التي كان ينظّر بها الغرب، والحقائق على الأرض التي رسمتها حرب غزّة غيّرت نظرة العالم إلى المقاومة الإسلامية بقيادة حماس ، وأصبحت الآن جزءاً من المعادلة السياسية في محور المقاومة ومن الأطراف الفاعلة في أي حل للقضية الفلسطينية. شيء آخر هو أن كل سياقات التاريخ تؤكّد أن المقاومة بكل أشكالها هي في النهاية الرابح الأكبر، فمقاومة إسرائيل- كذباً - للعالم لستة عقود جعلتها تنجح في بناء قوّتها، لكن مقاومتها ليست مبينة على أهداف مشروعة ولا مساحة من التاريخ مثل محور المقاومة بقيادة إيران بل مقاومة افتراضية منشؤها الخوف مرة وتارة تعطّشها التاريخي للإرهاب، ولذلك فإن أية مقاومة ولو بسيطة تقف أمامها ستنتصر إن كانت بالطبع تأخذ من واقعها التاريخي وشعورها القومي، وإن ما حصل فعلاً في الحالتين لحد الآن حالة المقاومة الإسلامية في غزّة ولبنان تؤخذ بالحسبان في أية مغامرة عسكرية لها ، بل أن هناك من الساسة الإسرائيليين أمام الانكسار الكلّي، بل أن "أولميرت "رئيس الوزراء الأسبق حدّد النهاية لإسرائيل إن هي ظلّت تأخذ بالأوهام في ما تقول به من "النيل إلى الفرات"، وهناك مصادر إسرائيلية تقول إن الهجرة من إسرائيل إلى بلدان أخرى بدأت في الارتفاع، وإن الهجرة إلى إسرائيل انكمشت إلى حد مُقلق بالنسبة للساسة الإسرائيليين، هناك إذن صراع على المستوى السياسي وعلى المستوى الداخلي إن في إسرائيل أو في الغرب، في إسرائيل عملية الهروب خوفاً من المجهول وفي الغرب تنامي ظاهرة الإحباط من مشاهد الموت التي يشاهدها الملايين من البشر للجنود الأميركيين ومَن تحالف معهم ، بالتالي – يطالبون بعودة أبنائهم من حرب خاسِرة ومُدمّرة لاقتصاد بلدانهم .
العالم إذن، أمام مُنعرجات قد تقوده إلى مرحلة ما بعد الحرب الباردة بفلسفة إيرانية، السلام فيها للجميع وإما أزمات أخرى تقوده إلى متغيّرات دراماتيكية يخسر الغرب فيها كل ما بناه من سياسات تجاه الشرق الأوسط ، وتكون إسرائيل الضحية الأكثر جروحاً والأكثر آلاماً ، وهو الملاحظ اليوم بعد دخول روسيا الحرب ضد "داعش" وأخواتها في سوريا، بل أن انتصار سوريا الذي صار أمرأ مقضياً يضع كل محور المتحالفين ضدها وضد محور المقاومة بقيادة إيران أمام تحديات خطيرة ربما هي الأسوأ في التاريخ، لأن الهزيمة ليست لدولة واحدة بل لأكثر من ثمانين دولة ظنّت وهماً أن نظام بشّار الأسد قد انتهى من على الخارطة السياسية، وقد تم ذلك القول مباشرة مع بداية العدوان ومن أهم الساسة واجهتهم الاستخباراتية، ولكن للتاريخ في سوريا حسابات مع الغُزاة وللجغرافيا فيها حُفَر للأعداء، فهل يتّعظ رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل بن سعود، ومَن معه في الحكم السلالي حين "اعتبر في أسف شديد أن الرئيس الأميركي باراك أوباما أخطأ حينما استبعد إرسال قوات برية لسوريا والعراق"، أم صدق "أشترن كارتر" بقوله " قال لي دبلوماسي خليجي ادّعى أن هناك جيشاً سنّياً من 70 ألف جندي وهؤلاء مستعدّون للعبور نحو العراق وسوريا وهزيمة داعش". يقول كارتر "سألني عضو الكونغرس لِمَ لم أقبل العرض؟ فأجبته "هل قال لك إن 60 ألفاً من هؤلاء هم سودانيون؟".
محمّد لواتي رئيس تحرير يومية المُستقبل المغاربي