رفضت سوريا تاريخياً أي معونات أو قروض أميركية كي يبقى قرارها السياسي حرّاً مستقلاً، وهذا هو السبب الأساس لهذه الحرب الإرهابية التي تمّ شنّها من قبل الولايات المتحدة وعملائها العرب والإقليميين.
43 فيتو أخذتهم الولايات المتحدة في مجلس الأمن منذ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، لتمنع الفلسطينيين نيل حريتهم واستقلالهم وحقوقهم المشروعة في أرضهم وديارهم، وتحرمهم من أبسط الحقوق الإنسانية التي نصّت عليها المواثيق والشرعية الدولية.
وفي هذا طبعاً إساءة استخدام ذات طبيعة إجرامية للمقاصد والأهداف التي من أجلها مُنحت هذه الدول حقّ استخدام الفيتو. ويمكن القول إنّ الفيتو الأميركي في مجلس الأمن كان دائماً سيفاً ظالماً مسلّطاً على رقاب الشعب الفلسطيني، فهو الذي حرمه من قطف ثمار نضاله وتضحياته، ومن نيل استقلاله وخلاصه من العبودية الصهيونية المقبلة إلى الشرق الأوسط من الغرب الاستعماري.
ومع ذلك استمرّ العرب والفلسطينيون على مدى سنين بالحديث عن الولايات المتحدة كوسيط نزيه، وباللجوء إليها من أجل تسوية "عادلة" للصراع العربي – الإسرائيلي، والذي هو في جوهره قضية احتلال، كي تحلّ محلّ شعب عريق حضاري كيانات استعمارية استيطانية اتخذت من السلب والقتل والمجازر والإرهاب سبيلاً لتحقيق مشروعها الاستعماري المتوحّش على أرض ليست أرضها.
وطيلة هذه العقود والعالم برمّته يلتزم الصمت حيال كلّ فيتو وكلّ إجرام يقضم بعضاً من حقوق شعب بريء، إلى أن طمع المعتدي وذهب في عدوانه درجاتٍ تُحرج العقل والمنطق، ويصعب حتى على أقرب الحلفاء تأييدها. فقد كان التصويت في مجلس الأمن ضدّ قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس تصويتاً تاريخياً بالفعل؛ حيث صوّتت 14 دولة ضدّ قرار ترامب، وتركوا الولايات المتحدة وحيدة معزولة في أنظار العالم برمّته، فاتخذت واشنطن الفيتو في محاولة منها لإجهاض إدانة الأسرة الدولية لقرار رئيسها.
لكنّ الإدانة وقعت، وانحياز الولايات المتحدة اللاإنساني ضدّ حقوق الشعب الفلسطيني وصلت إلى أدنى درك من الوحشية، وتضامنها المطلق مع الكيان الصهيوني على كلّ إجراءاته القمعية والاستيطانية ضدّ الشعب الفلسطيني، ظهر على حقيقته الإجرامية بأنّه تضامن عضوي لا فرق به إطلاقاً بين الداعم والمدعوم.
المهمّ في هذه الحالة هو أنّ هذا الفيتو ضدّ ضمير "الأسرة الدولية" برمّتها قد ألقى الضوء على تاريخ من الممارسات المجرمة بحقّ الشعب الفلسطيني، كما ترك الولايات المتحدة وحيدة معزولة خارج إطار "الأسرة الدولية"، التعبير الذي طالما تشدّقت به على مدى عقود كي تبرّر أعمالها القسرية الأحادية الجانب ضدّ الشعوب العربية.
وحين نقل أصحاب القضية التصويت إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث لا تتمتّع الولايات المتحدة بميزة الفيتو، بدأت ممثلة الولايات المتحدة ورئيسها بتهديد وابتزاز وضيع للبلدان التي تتلقّى معونات منها بقطع هذه المعونات عنها إذا صوّتت بما يغاير قرار رئيس الإدارة الأميركية، وفي هذا اعتراف غير مسبوق من قبلها بأنّ المعونات التي تقدّمها للبلدان هي رشوة لارتهان إرادة وقرار هذه البلدان لها.
لهذا السبب بالذات فقط رفضت سوريا تاريخياً أي معونات أو قروض أميركية كي يبقى قرارها السياسي حرّاً مستقلاً، وهذا هو السبب الأساس لهذه الحرب الإرهابية التي تمّ شنّها من قبل واشنطن وعملائها العرب والإقليميين.
إذاً ما تعمل عليه الولايات المتحدة من خلال توزيع المعونات هنا وهناك هو مصادرة وشراء قرارات وإرادة حكومات الدول. ولكن، مع ذلك، فقد صوّتت 128 دولة ضدّ قرار ترامب، وامتنعت 35 دولة عن التصويت، أما الدول التسع التي صوّتت مع الولايات المتحدة، فهي، بالإضافة إلى واشنطن وتل أبيب، دول لا يمكن رؤيتها بالمجهر، ولا يتجاوز عدد سكانها مجتمعة 192 ألف نسمة، وربما هي دول تمّ تصنيعها بهذا الشكل كي تكون رقماً يدعم الموقف الأميركي وقت الحاجة.
الرسالة واضحة اليوم كما لم تكن في أيّ يوم من قبل: لقد ضاق العالم ذرعاً بظلم ونفاق النظام الأميركي، كما انفضحت أساليبه بالوقوف دائماً وأبداً إلى جانب كيان استيطاني ظالم، وضدّ حقوق شعب يسعى للحفاظ على أرضه ودياره وتاريخه في وجه آلة قمع عسكرية وحشية لا تعرف للحقّ موقفاً ولا للشعب حقوقاً.
إذاً، نستطيع أن نقول اليوم إنّ كانون الأول/ديسمبر لعام 2017 قد أكمل الخطى التي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر عام 2011، حين اتخذت روسيا والصين الفيتو المزدوج ضدّ محاولات الغرب انتزاع شرعية من الأمم المتحدة لشنّ عدوان على سوريا.
ففي ذلك الشهر انتهى احتكار القطب الواحد لريادة العالم، وبعد 6 سنوات من ذلك التاريخ تكشّف جوهر هذا القطب الواحد، فوقف العالم وقفة غير مسبوقة ضدّ جنون هذا القطب وظلمه وهيمنته على القضايا العالمية.
وبهذا فإنّ كانون الأول/ديسمبر عام 2017 قد خطّ بداية جديدة لعالم مختلف عن العالم الذي شهدناه إلى حدّ الآن، عالم تقف به الولايات المتحدة وإسرائيل موقفاً مخزياً ضدّ الحقّ والعدل، وضدّ الشرعة الدولية، وضدّ ضمير الإنسانية، موقفاً أصبحت واشنطن وتل أبيب خارج إطار "الأسرة الدولية" و"المجتمع الدولي"، ولذلك حين نسمع صوتاً أميركياً أو إسرائيلياً يتّهم الأمم المتحدة بالانحياز ضدّ "إسرائيل" أو يتّهم "الأسرة الدولية" بالتحامل على "إسرائيل"، فإنك تصحّح العبارة لتقول "إنّ الولايات المتحدة وإسرائيل قد امتهنتا كلّ القوانين الدولية والإنسانية بحقّ الشعب الفلسطيني والعربي، وأنّ عالم اليوم يقول لهما: (كفى)، لن نصمت عن هذا بعد اليوم، ولن نجاريكما، وإذا ما قطعتم المعونات فستفرح شعوبنا لأنكم بذلك تقوّضون استعبادكم السياسي لديارنا وقرارنا".
الخطوة المنطقية المقبلة هي أن ترفض دول العالم أيّ معونة أميركية كي تقطع دابر هيمنتها ونفوذها وتسلّطها المجحف على حقوق الشعب.
إنتهى عام 2017 بالإيذان بفجر عالم جديد ضدّ الهيمنة والغطرسة والاستعمار والاستيطان فهل نرتقي جميعاً إلى مستوى انبلاج هذا الفجر، ونمسك به ونعلن ألّا عودة للهيمنة والغطرسة الاستعمارية الأميركية الصهيونية على رقاب الشعوب والدول.
انتهى عام 2017 بالقول إنّ قضية الشعب الفلسطيني ليست قراراً فلسطينياً ولا عربياً ولا إسلامياً فقط، ولكنها قضية الإنسان في كلّ مكان ولا بدّ من أن يتكاتف العالم لحمل هذه القضية كما حمل قضية جنوب أفريقيا ضدّ العنصرية وانتصر، ولا شكّ أنّ النصر حليف القضايا المحقّة والمدافعين عنها، عاشت فلسطين حرّة أبيّة. وليفرح ترامب وأعوانه بفيتو ساهم في ارتداد السحر على الساحر. وكلّ عام وأنتم جميعاً بخير.
د. بثينة شعبان