حتى ولو كانت الثورة التونسية هي البداية في مسلسل “الربيع العربي”، لكن المُفارقة، أن الشعب التونسي يكاد يكون الوحيد في محيط “الحماقة العربية” الذي يُدرِك لماذا ومتى يثور، وهو منذ إحراق محمد البوعزيزي نفسه في السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2010 وإنطلاق “الثورة الربيعية الأولى” التي أدَّت الى إسقاط الرئيس السابق زين العابدين بن علي وهروبه الى السعودية، وصولاً الى كانون الأول / ديسمبر 2017 وبدايات “الثورة الثانية” واستمرارها حتى الآن، يبقى الشعب التونسي في تحركاته ضمن حدود الضوابط الوطنية والقومية، يثور كل فترة لأسباب معيشية بحتة، لكنه يتميَّز رغم التحركات الشعبية، بالحدّ المقبول من الرقيّ والوعي في ردود الفعل والتعامل مع الأزمات، والإصرار على اعتبار مشكلته داخلية ولم يسمح لليد الخارجية حتى الآن أن تمتدّ لإحراق “زيتون تونس الخضراء”.
مهما حصل في “مهد الثورات المعاصرة”، فإن تونس لا تشبه مثيلاتها من الدول العربية التي شهِدت غوغائية الأهداف والوسائل والنتائج للأسباب التالية:
أولاً: التحركات التونسية هي معيشية، ومن المؤسف القول، أن المستوى العلمي العالي للشباب التونسي الذي يُميِّزه عن سائر الدول العربية – التعليم في تونس مجاني من الروضة حتى الجامعة- هو السبب الرئيسي للأزمات، حيث يتخرَّج الطلاب ولا يجدون عملاً يتناسب مع مؤهلاتهم، ويلجأ البعض منهم الى الهجرة – خاصة الى أوروبا- والبعض الآخر يُمارس مهناً لا تتناسب مع المستوى العلمي، و”البوعزيزي” الذي أحرق نفسه على عربة الخضار كان نموذجاَ عن خريجي الجامعات الذين دفعت بهم البطالة الى اليأس وامتهان أية وسيلة من أجل لقمة العيش.
ثانياً: هذا المستوى العلمي الذي اقترن بالثقافة الأوروبية بحُكم الجوار، أعطى التونسيين ميزة انفتاحٍ حضارية، والشعب التونسي المُسيَّس والمُتحزِّب يعيش غنى التنوُّع الذي يقدِّس الحريات، ولم يسمح باستيراد الإديولوجيات الدينية والفكرية الغريبة عن المجتمع التونسي، حتى أن حزب النهضة الإسلامي، يُكرر قادته في كل المناسبات، أنهم ليسوا الفرع التونسي للأخوان المسلمين، وأنهم يعملون تحت سقف الدولة التونسية كما سائر الأحزاب التي لديها برامجاً جماهيرية للتنمية.
ثالثاً: هذه الواجهة الأوروبية عبر البحر المتوسط لتونس، والشراكة الأفرو- أوروبية، والثقافة الفرنسية للشعب التونسي، لم تنتزع تونس من محيطها العربي، وبقيت على الدوام طليعة رافعيّ لواء القضية الفلسطينية، ومن الداعمين الدائمين لحركات المقاومة بمواجهة العدوان الصهيوني، ولم تُشغلها متاعبها الداخلية عن الإلتزام القومي العربي، وما الزيارات الميدانية التي يقوم بها البرلمانيون والأكاديميون والناشطون الحزبيون التونسيون لمباركة الإنتصارات في لبنان وسوريا والعراق، سوى من منطلق قومي وإنساني وعاطفي يعكس رابط الإنتماء العربي لدى الشعب التونسي.
رابعاً: تونس التي لا تتمتع باقتصاد قوي، نتيجة اعتمادها بالدرجة الأولى على إنتاج الفوسفات الذي تراجع من 7 ملايين طن الى 3.5 ملايين خلال الأعوام من 2011 حتى 2017 بسبب الإضطرابات والإضرابات العمالية، رغم حرص”الإتحاد العام للشغل” على تهدئة الشارع والتخفيف من التداعيات، والمورد الزراعي الرئيسي المُتمثِّل بإنتاج زيت الزيتون لا تكاد عائداته تتعدى 280 مليون دولار من تصدير الإنتاج السنوي الذي يُقارب 150 ألف طن الى أوروبا، للتعويض عن نقص عائدات الفوسفات، كما أن السياحة التي تتطلب الحد الأدنى من الأمان غير قادرة على إنعاش إقتصاد أثقلته الديون الخارجية.
ورغم نسبة النمو التي بلغت 2.5% عام 2017، فإن تونس بحاجة الى المزيد من سياسات التقشف وضبط الإنفاق، لأنها ترزح تحت ديون خارجية ثقيلة و تتعرض لضغوط من المقرضين لتقليص عجز الموازنة وخفض الإنفاق العام، وعَمَدت الحكومة أخيراً الى زيادة 1% على الجباية العامة التي كانت 6% وذلك بناء لطلب وفد من صندوق النقد الدولي حثَّها على تسريع وتيرة الإصلاح الاقتصادي ومنع تفاقم خدمة الدين العام، لكن هذه الزيادة التي طالت مادة البنزين ومشتقات النفط الأخرى، جاءت ذريعة للتجار، الذين رفعوا اسعار السلع وتسببوا في هذه الأزمة التي أشعلت الإحتجاجات الشعبية، ودفعت بالحكومة الى استنفار الأجهزة الرقابية لضبط فلتان الأسعار وحماية المستهلك.
الحكومة التونسية أمام استحقاق معالجة فورية للوضع، فهل تكون بمستوى رقيّ الشباب التونسي المثقَّف الواعي، قبل أن تنحرف التظاهرات عن أهدافها عبر عناصر مدسوسة تُحرِّكها أيادٍ خارجية، سبق لها وأن أخرجت التظاهرات المطلبية في بلدانٍ عربيةٍ أخرى عن المرسوم لها بإخراجٍ أميركيٍّ مدمِّر؟. ويبقى على الشعب التونسي أن يتحلَّى بالوعي المعروف لديه، رأفة بتونس، وأن يرعى الشباب التونسي هذه المظاهرات ويرصد العائدين من ميادين الإرهاب بأفكار تكفيرية تدميرية وعزلهم عن الدخول في الحراك، لأن الإرهاب لدى الجارة الليبية عيونه على تونس، لإحراق كل ما هو أخضر نابض بالحياة في تونس وسواها من المغرب العربي الى مشرقه…
أمين أبوراشد