لم تنجح الحكومات المتتالية على مدى سبع سنوات في مقاربة الوضع الاقتصادي بطريقة سيادية ذات عمق اجتماعي، واختارت الخضوع لشروط الجهات الدائِنة وقبلت بإملاءات الاتحاد الأوروبي، واستمرّت في ممالأة الفاسدين الذين يموّلون الأحزاب وغضّ النظر عن حالات التهرّب الضريبي بسبب بيروقراطية الدولة التي أعاقت أيضاً أنشطة القطاع الخاص.
تبدو تونس للمُراقب من بعيد البلد الوحيد الذي نجا من تداعيات "الربيع العربي". يقال ذلك عادة بسبب الانتقال السياسي السَلِس الذي حدث بعيداً عن إراقة الدماء.
صحيح أن تونس لم تغرق في المستنقع الأحمر، لكنها غرقت في مستنقع من نوع آخر هو مستنقع الفشل الاقتصادي. ظاهر المشهد يقول إن التونسيين نجحوا في صوغ دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية والحصول على قدر كبير من الحريات. غير أن ذلك كان نجاحاً عقيماً من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، فلم تتمكّن الحكومات المُتتالية من حل أيّة مشكلة اقتصادية، وهو ما ضاعف حجم المآزق الاجتماعية.
أبدت الحكومات المُتعاقِبة فقراً مذهلاً في الرؤية الاقتصادية. ولم تفعل حكومة يوسف الشاهد غير تكريس نهج المديونية حيث بلغت نسبة التداين 63.7 % وعجز الميزانية 5.4 % من الناتج الداخلي الخام، حسب معطيات رسمية.. وقد صادق البرلمان على 18 مشروع قانون تتعلق بالقروض والتعهّدات المالية للدولة خلال الدورة العادية الماضية للمجلس.
أدّى ذلك الواقع الاقتصادي إلى تضاعُف نسبة البطالة التي وصلت إلى 15.3% من القوّة العاملة، أي ما يساوي 625 ألف عاطل. وارتفعت نِسَب الفقر والبطالة التي سبّبت غضب الشارع وأججّت الاحتجاجات. لم تستمع الدولة لشعبها ولم تهتّم بحاجاته بل استمعت إلى صندوق النقد الدولي المُختصّ في تخريب اقتصادات الدول، وهو ما جعل الناس يشعرون أنهم يدورون في حلقة مُفرَغة بعد أن خلا المشهد من قيادات سياسية يثقون بها.
لم تنجح الحكومات المتتالية على مدى سبع سنوات في مقاربة الوضع الاقتصادي بطريقة سيادية ذات عمق اجتماعي، واختارت الخضوع لشروط الجهات الدائِنة وقبلت بإملاءات الاتحاد الأوروبي، واستمرّت في ممالأة الفاسدين الذين يموّلون الأحزاب وغضّ النظر عن حالات التهرّب الضريبي بسبب بيروقراطية الدولة التي أعاقت أيضاً أنشطة القطاع الخاص. وبعد أن دخلت البلاد في جدار المديونية الذي يعني مباشرة تسديد أقساط الديون، ذهبت الحكومة إلى سدّ العجز الضخم في الميزانية من خلال قانون المالية الجديد الذي لم يجد ملجأ سوى زيادة الضرائب ورفع أسعار أغلب المواد الاستهلاكية مثل المحروقات والغاز وبطاقات شحن الهاتف الجوّال والشامبو وحتى المساكن الجديدة..
وأمام عجز الحكومة في التصدّي للتضخّم وفقْد الدينار ثلث قيمته مقابل الدولار الأميركي منذ عام 2014، واستفحال البطالة وتفاقُم عجز الميزان التجاري، لم يجد رئيس الحكومة والإعلام من جواب سوى اتّهام الجبهة الشعبية وجهات أخرى بالتورّط في الاحتجاجات والتخريب، والتحذير من المؤامرات الخارجية وتوظيف بعض الفصائل الداخلية الأحداث لتحقيق أهدافها الخاصة.
ليس مستبعداً وجود جهات، داخلية أو خارجية، مُحرِّضة على التخريب والعنف، غير أنه لابدّ من الفصل والتمييز بين الاحتجاجات السلمية وأعمال التخريب. هما شيئان مختلفان، والذين يتظاهرون ويحتجّون يختلفون عن أولئك الذين يخرّبون وينهبون.
لم تتردّد الأحزاب والنُخَب في رفض هذه الأعمال التخريبية وإدانتها. غير أن حقائق التاريخ تقول إن التحرّكات الاحتجاجية الكبرى في تونس كانت دائماً مرفوقة بهذه الأعمال، من 26 جانفي/ كانون الثاني 1978 إلى 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، مروراً بانتفاضة الخبز 1984 وانتفاضة الحوض المنجمي 2008. وحتى في ظلّ حكومات "ما بعد الثورة" رافقت أعمال العنف والتخريب الاحتجاجات ضد حكومات حمادي الجبالي وعلي العريض ومهدي جمعة وحبيب الصيد.
واليوم لم يبقَ من عناوين تلك التحرّكات والانتفاضات إلا ما أحدثته من شروخ في نظامي بورقيبة وبن علي، وما أنتجته من إسقاط حكومات كثيرة. كانت أسباب تلك الاحتجاجات مشروعة، وما رافقها من أعمال عُنف وتخريب وتدخّل لقوات الأمن بقي مسائل فرعية في اهتمامات الباحثين والدارسين.
لا توجد احتجاجات أو انتفاضات وثورات من دون عُنف وتخريب. وهذا ليس تبريراً، لكنه توصيف لواقع تاريخي يتكرّر دائماً. ويمكن للمُختّصين في التاريخ وعِلم الاجتماع وعِلم الاجتماع النفسي والسياسي، الاشتغال عليه وتفكيكه. ومع ذلك من المشروع، أمنياً، البحث عن جهة مُحتملَة استغلَّت الاحتجاجات لممارسة أعمال النهب والتخريب التي طالت مؤسسات تجارية وبنكية وحكومية، ومحاسبتها.
لم يتخلّص الخطاب الرسمي من سرديّاته القديمة تجاه هذه الاحتجاجات من 26 جانفي/كانون الثاني 1978 حتى اليوم، التوصيفات ذاتها والاتّهامات نفسها. يتكرّر الحديث في كل مرة عن مخرّبين ومندسّين ومحرّضين .. مقابل نفي للأسباب المشروعة للاحتجاج. وحتى عندما يتم القبض على مخرِّبين أو لصوص ويتم التحقيق معهم، فإنه يتم التكتّم على الجهات التي حرّضتهم ودفعت بهم لممارسة تلك الأعمال.
هذه الأعمال ليست خاصيّة تونسية، فالاحتجاجات الكبرى في العالم لا تخلو من أعمال تخريبية. لا يتعلّق الأمر فقط بالبلدان العربية أو "العالم النامي"، بل يشمل أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
ترفض الحكومة الأعمال التخريبية الموازية لهذه الاحتجاجات، والتي قُتِل فيها متظاهر واحد حتى الآن هو خمسي اليفرني في طبربة، جنوبي العاصمة التونسية، وقُبِض على المئات. وهي ليست وحدها في ذلك. فأعمال من هذا النوع لا تعالج الأزمة. غير أن التوقّف عند تلك الأعمال لتصبح هي المشكلة بدل البحث في الأسباب التي فجّرت الاحتجاجات ليس إلا التفافاً على المأزق. تحتاج الحكومة أن تُقِرّ بالأسباب المشروعة لتلك التحرّكات وأن تعترف بخطأ منهجها وطريقتها في إدارة الشأن العام، من أجل التعاطي معه بجدية.
لا تختلف أسباب الاحتجاجات عن تلك التي أدّت إلى هروب بن علي منتصف جانفي/كانون الثاني 2011. بل إن الحكومات التي جاءت بعده لم تكن مُعالجاتها أفضل. فقد راكمت فشل النظام السابق وزادت عليه، واستغلّ كثيرون المناخ السياسي الجديد لتحقيق طموحات غير مشروعة ، فتم توظيفه لتحقيق مصالح فئوية وحزبية عبر الاستقواء بالأجنبي والإذعان لإملاءاته التي لا تريد سوى الإمعان في إغراق اقتصاد البلاد وتخريب نسيجها الاجتماعي. وإذا كانت هناك جدّية في معالجة الأزمة، فإن الحلول ليست خافية. يحتاج الأمر فقط جُرأة سياسية وقرارات سيادية.
يُطالب المحتجّون بإلغاء قانون المالية الجديد وتجميد الأسعار عند مستوياتها القديمة ومحاسبة الفاسدين واسترجاع المال العام المنهوب ، وفرض ضرائب ملائمة على رؤوس الأموال والتوقّف عن الاستدانة المشروطة والبحث عن حلول داخلية تتحمّل الدولة فيها بناء مشاريع اقتصادية كبرى ، وتشجّع الاستثمار الزراعي والصناعي والمبادرات الخاصة.. قد يحتاج الأمر حواراً وطنياً جاداً، تشترك فيه الأحزاب والنقابات والمنظمات ذات الصلة، غير أن الإعلان عن تلبية تلك المطالب لا يحتمل التأخير وهو وحده الكفيل بإطفاء نيران الغضب الشعبي بطريقة مُرْضية.
قاسم شعيب