لم يكن اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس حدثاً معزولاً. بل إنه رأس جبل الجليد الذي تحتويه "صفقة القرن" التي تعدها الإدارة الأميركية بإشراف جاريد كوشنير صهر الرئيس الذي يتولى ملف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ويتهيأ ترامب نفسه للإعلان عن تفاصيل تحقيق صفقته في النصف الأول من العام الجاري.
أتت قنبلة القدس من قبيل تمهيد الأرض أمام الصفقة، التي كشف عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد مجدلاني أن بنودها قد نُقلت إلى السلطة الفلسطينية بواسطة السعودية، مشيراً إلى أنها تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإنشاء حلف إقليمي في مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة تكون إسرائيل جزءاً منه.
وإذا كان مجدلاني قد كشف العنوان العريض للصفقة، فإن ذلك يكشف جانباً من الضغوط الهائلة التي تتعرض لها القيادة الفلسطينية للقبول بها. ولم يتوانَ ترامب نفسه عن التلويح بقطع المساعدات للفلسطينيين بعد خفض المساهمة الأميركية في موازنة "الأونروا" رداً مناقشة مجلس الأمن لمشروع قرار يؤكد أن مصير القدس يجب أن يترك لمفاوضات الوضع النهائي وقد استخدمت واشنطن حق النقض "الفيتو" لإسقاطه بعدما تبناه الأعضاء الـ 14 الآخرون في المجلس.
ويجد ترامب أن الساحة مفتوحة أمامه لممارسة أقصى الضغوط على الفلسطينيين لحملهم على الإذعان. فدول الخليج (الفارسي) شريك أساسي في "صفقة القرن" طالما تضمن لها إنشاء تحالف إقليمي ضد إيران. والصحافة الغربية تعج بالتسريبات التي تفيد عن استعانة كوشنير بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان كي يمارس الضغوط على القيادة الفلسطينية كي لا ترفض المقترحات الأميركية. ويبدو أن ما أوردته صحيفة "النيويورك تايمز" عن طلب محمد بن سلمان من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، القبول بضاحية أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية بديلاً من القدس الشرقية، يأتي في سياق هذه الضغوط. وأشارت الصحيفة إلى أن الخطة الأميركية تتيح للفلسطينيين إقامة دولتهم، لكن في مناطق غير مترابطة في الضفة الغربية مع بقاء معظم المستوطنات، ومن دون تسليم الفلسطينيين إلا سيادة محدودة، ودون منحهم القدس الشرقية عاصمة لدولتهم، ومن دون السماح للمهاجرين الفلسطينيين بالعودة. ومقابل ذلك تحصل السلطة الفلسطينية على تعويضات مالية تصل إلى عشرة مليارات دولار.
هذه المقترحات تتجاوز كل ما سبق للإدارات الأميركية السابقة أن طرحته وتشكل إذا ما ثبتت معلومات "النيويورك تايمز"، تخلياً سعودياً عن المبادرة العربية التي تبنتها القمة العربية في بيروت عام 2002. وتتحول القضية الفلسطينية بذلك مجرد بند يتيم في "صفقة القرن" المراد بها تغيير وجهة الصراع الدائر في المنطقة منذ 70 عاماً.
ويراهن ترامب على أن محمد بن سلمان الذي يرسي دعائم حكمه في السعودية، لن يخاطر بإغضاب الولايات المتحدة. وللتدليل على مدى العلاقة التي تربط ترامب ومحمد بن سلمان، تنقل صحيفة "التايمز" البريطانية عن كتاب "النار والغضب...في بيت ترامب الأبيض" للصحافي مايكل وولف، أن "محمد بن سلمان يستخدم احتضان ترامب له جزءاً من لعبة السلطة في المملكة". وفي المقابل تسعى الإدارة الأميركية إلى تسويق فكرة إنشاء تكتل عسكري-سياسي من الدول الإسلامية بقيادة السعودية على غرار حلف شمال الأطلسي "الناتو" يقيم جبهة واحدة مع إسرائيل وعلى جدول اعماله بند وحيد هو التصدي لإيران.
ومن الناحية النظرية، لن يكون في إمكان واشنطن إنشاء هذا التحالف العريض من الدول الإسلامية في مواجهة إيران، إذا ما بقيت القضية الفلسطينية من دون تسوية. ولذلك يبدو ترامب عازماً على خوض مغامرته في اتجاه تصفية القضية الفلسطينية. ويجد أن الظروف التي تمر بها دول المنطقة منذ سبعة أعوام، والدمار الذي حل بسوريا والعراق على أيدي "داعش" والتنظيمات الإرهابية الأخرى، فضلاً عن استقالة مصر من دورها الإقليمي وحرب الاستنزاف التي يخوضها الإرهابيون ضد الجيش المصري، لن تسمح للفلسطينيين بإيجاد حليف حقيقي يعتمدون عليه إذا ما قرروا رفض الخطة الأميركية. وهنا يصير مفهوماً لماذا يضغط ترامب بكل قوة لزعزعة الاستقرار في إيران، وكيف أطلق سلسلة من التغريدات التي تحض المتظاهرين في عدد من المدن الإيرانية في الأيام الأخيرة، على عدم التوقف.
ويعتبر البيت الأبيض أن إشغال إيران في شؤونها الداخلية في المرحلة المقبلة، من شأنه أن يساعد على تمرير صفقة القرن، إنطلاقاً من أن إيران هي الوحيدة القادرة على تمويل انتفاضة فلسطينية جديدة. وهكذا تتعدى "صفقة القرن" الموضوع الفلسطيني بحد ذاته لتطرح إعادة صياغة الشرق الأوسط، على قواعد سياسية وثقافية جديدة، تشكل حال إنكار لأعقد صراع في العالم، وتتخلى عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على ترابهم الوطني وعاصمتها القدس الشرقية.
إن الشرق الأوسط بكامله يمر بلحظة مفصلية. وليس بالضرورة أن أميركا قادرة على إحداث كل هذا التحول الاستراتيجي في المنطقة.
سميح صعب