التنسيق بين موسكو وأنقرة بشأن معركة عفرين كما أفاد الرئيس التركي، قد يكون بطريقة غير مباشرة الضوء الأخضر الذي تستند إليه تركيا أملاً بإنشاء منطقة أمنية بعمق 30 كلم. لكن هذه المساومة التي توافق عليها روسيا تفترض تقديم تركيا في المقابل تنازلات صعبة ربما تتجاوز قدرتها ورغباتها. فما هي؟
اضطرار تركيا على التنازل سابقاً عن طموحات "المنطقة الآمنة" في الشمال السوري، لم يكن خياراً وقناعة إرادية في لحظة من اللحظات. فهو تراجع اضطراري تحت ضغط روسي كاد أن يؤدي إلى حرب مفتوحة لم ينجح الرئيس رجب طيب إردوغان من تحويلها إلى مجابهة بين روسيا والحلف الأطلسي الذي تنتمي إليه تركيا بهدف توفير الحماية لتركيا ضد الاتحاد السوفيتي السابق والاتحاد الروسي اللاحق.
تسامُح موسكو عن التحدّي التركي في إسقاط الطائرة، يبدو جليّاً أنه أخذ بعين الاعتبار عدة عوامل منها المسعى الروسي لتوسيع الشرخ بين أنقرة والحلف الأطلسي. لكن الأهم هو استمالة تركيا للإنخراط في جهود عملية السلام التي تمخّضت لاحقاً عما بات يُعرف بميار آستنة ومباحثات سوتشي. وقد راهنت موسكو على أن تقوم تركيا في المساهمة بإزالة جبهة النصرة ولاسيما في إدلب وهو تحديداً ما تتهرّب منه أنقرة في عودتها إلى المنطقة الآمنة. وترهن عودتها إلى المشاركة بمسار آستنة ومباحثات سوتشي بموافقة موسكو على عملية عفرين وربما منبج تالياً.
اللافت أن الرئيس فلاديمير بوتين حرص بكثير من اللباقة على نفي التهمة عن تركيا في عدوان الطائرات من دون طيّار ضد قاعدتي حميميم وطرطوس، على الرغم من توجيه رسائل علنية إلى وزارة الدفاع التركية وقيادة الأركان في الإشارة ربما إلى أن النفي هو في معرض التنديد. فأردوغان يشير بتسهيل العملية مع قوى حليفة وربما مع واشنطن إلى استعداده للتراجع عن التنسيق مع موسكو، ردأ على تقدّد الجيش السوري وحلفائه في إدلب واستعادة مطار أبو الظهور. ولعل بوتين يشير في نفي التهمة عن تركيا إلى إمكانية الموافقة على مساومة في عفرين.
ما دفع إردوغان إلى التصعيد مع موسكو، هو على الأرجح التقارب التركي الجديد مع واشنطن على الرغم من صخب التصريحات التركية ضد الإدارة الأميركية. فالرئيس التركي يصرّح في اجتماعه الأمني الأخير مع المسؤولين "أن العملية تمضي بنجاح بالتنسيق مع الرئيس بوتين". لكنه في اجتماعه الأمني كان يستمع إلى مباحثات الأتراك مع وفد أميركي برئاسة نائب وكيل وزارة الدفاع "جانثان كوهين" بشأن التعاون في معركة عفرين. وفي الاتصال بين أنقرة ووزير الخارجية الأميركية ريكس تيليرسون، عرض الوزير "لتحقيق الاستقرار والاستجابة لمخاوف تركيا الشرعية في إنشاء منطقة أمنية بعمق 30 كلم".
موسكو التي يلوح أمامها ضوء آخر النفق في التوصل إلى الحل السياسي في سوريا بمساهمة تركية ضرورية، وجدت أن التقارب الأميركي المستجد مع تركيا يهدّد بمخاطر إطالة الأزمة والعودة من جديد إلى مسار جنيف الذي تتجنّد له الدول الغربية وستافان ديمستورا في الدعوة إلى فيينا. وبموازاة هذه المخاطر رفضت القوى السياسية الكردية العرض الذي يفوّت الفرصة على تركيا في معركة عفرين وهو استلام المؤسسات الحكومة السورية والتنسيق مع الجيش السوري لدخوله المدينة وحمايتها.
تعتقد هذه القوى التي تشبّعت بأوهام المراهنة على الإدارة الأميركية، أن واشنطن تحمي حلفاءها في الدفاع عنهم من النحر ومن الانتحار. فتيلرسون يبرر لتركيا التعاون مع القوى الكردية بأن أميركا كانت تحتاج إلى مقاتلين على الأرض لمواجهة "داعش"، وتحتاج إليهم الآن لاحتواء إيران كما قال. وهو في الحقيقة لا يقصد إيران وحدها بل يقصد ما سماه تقرير الاستراتيجية الأميركية أعداء أميركا كالصين وروسيا وأعداء اسرائيل كإيران والمقاومة.
القوى السياسية الكردية المستعدّة للإنتحار في عفرين على الأرجح، ولا يبدو أنها مستعدّة لقراءة المتغيرات واستخلاص الدروس للتكيّف في أكثر من اتجاه ضيّق الأفق. وليست هي المرّة الأولى التي تسوق فيها الذين يراهنون على التحالف مع أميركا، إلى حتفهم كما شرح في عدة إصدارات عبد الله أوجلان.
قاسم عزالدين