غالباً ما ننأى بأنفسنا عن الاقتصاد في متابعة ما يجري في العالم. يتوارى الاقتصاد عادة وراء مؤشرات وأرقام ومعادلات تجعلنا نشعر أنه عسير الهضم. هذه المقالة تعد بعكس ذلك. تصلح مفاتيح عدة لتفسير النظام العالمي الذي نعيش في ظلّه. منها مقاربات جيوسياسية وتاريخية وحضارية وغيرها. لكن يبقى الاقتصاد مفتاحاً أساسياً لا يكتمل المشهد السياسي من دونه. من خلاله يمكن فهم التحوّلات على صعيد النظام العالمي، وكيف تهيمن أميركا على العالم والتهديد الذي يلوح في وجهها، إضافة إلى حروب النفط والغاز، ودور منظمات مثل "بريكس" و"شنغهاي" ومدى قدرتها على تحدي النفوذ الأميركي. تستند هذه المقالة إلى معطيات وآراء الخبير الاقتصادي والاستراتيجي البروفسور جاسم عجاقة وهي جزء من ملف "2018.. المخاض العسير".
بموازاة التحوّل الآخذ بالتبلور تدريجياً على مستوى النظام العالمي، تجري تحوّلات من نوع آخر.
بموازاة التحوّل الآخذ بالتبلور تدريجياً على مستوى النظام العالمي، تجري تحوّلات من نوع آخر. هذه التحوّلات هي التي تقود إلى صعود الصين وغيرها وإلى شعور الولايات المتحدة بالتهديد. يشكّل الاقتصاد أحد المفاتيح الهامة والرئيسية لفهم ما يجري في العالم. من المعروف أن الأهمية الإستراتيجية على الساحة العالمية أصبحت بالدرجة الأولى مدفوعة بالقوّة الاقتصادية.
منذ تفكك الإتحاد السوفياتي ومعه النظام العالمي ثنائي الأقطاب، ظهر لاعبون جدد على الساحة الاقتصادية الدولية. البلدان المُسمّاة بالصاعدة تتمتّع بديناميكية غيّرت ميزان القوى الاقتصادية العالمية.. ومعها السياسية. أبرز هذه الدول الصين، وروسيا، والهند، وجنوب أفريقيا، والبرازيل، والأرجنتين.
استطاعت هذه البلدان الانضمام إلى نادي الدول المؤثرة اقتصادياً نتيجة الإستثمارات الهائلة التي قامت بها الشركات الغربية، خصوصاً الأميركية والأوروبية. رأت هذه الشركات في تلك البلدان فرصة توسّع كبيرة من ناحية القدرة الإنتاجية ومن ناحية الأسواق. دفع هذا الأمر بعدد من هذه الشركات إلى تنظيم نفسها قانونياً، ومالياً ولوجستياً على الصعيد العالمي. نتج من ذلك تراجع الإنتاج في الدول الغربية لصالح هذه الدول التي أخذت باحتلال أسواق في عرين الدول الصناعية المُتطوّرة. لكن المخاطر تبقى في التغيير الجيوسياسي الذي قد يطرأ نتيجة التحوّل في موازين القوى الإقتصادية.
منذ الزلزال الذي أحدثته الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصادات الغربية بين عامي 2008 و2009 وأبرزت إلى العلن مُشكلة الديون السيادية، أصبحت الدولة الصاعدة تلعب دوراً هاماً في أسواق الأموال والسلع والخدمات. يُمكن التيقن من ذلك عبر النظر إلى الفائض في ميزان المدفوعات في هذه الدول والذي غيّر حكماً طريقة مقاربة الدول الصناعية الكبرى مع الدول الصاعدة. على هذا الصعيد، يتوجّب ذكر أن الصين، والهند والبرازيل أصبحت تُشكّل خطراً حقيقيًا على التفوّق الأميركي على الساحة الإقتصادية العالمية.
كيف تحافظ أميركا على هيمنتها؟
القوة الأميركية مزيج من أربعة عناصر: القوة الاقتصادية، والقوة العسكرية، والديبلوماسية، والتأثير الثقافي. هذا المزيج تستخدمه الولايات المُتحدة الأميركية بما يتلاءم ومصالحها. عندما تخرج دولة من دائرة السيطرة الأميركية تفرض عليها واشنطن عقوبات اقتصادية. إذا لزم الأمر تستخدم قوتها العسكرية. كل هذا بمواكبة دائمة وفعّالة للديبلوماسية الأميركية التي تُعتبر الأكثر فعّالية في العالم. لا ننسى التأثير الثقافي الأميركي. من خلال هذا العنصر اجتاحت المنتجات الأميركية العالم. نجحت أفلام هولييود في الترويج لنمط استهلاكي ومعيشي أميركي. بات العالم يقلّدها في استهلاك المأكولات والمنتجات الصناعية والزراعية بما فيها المواد المُعدلة وراثياً.
يبقى السؤال كيف لدولة عظمى أن تفرض عقوبات على دولة أخرى مثل روسيا؟
في الواقع تستخدم الولايات المُتحدة الأداة الديبلوماسية لكي تخلق تكتّلاً من الدول معها. نتحدث غالباً عن الدول الأوروبية عبر منظمة الناتو. تتجه بداية إلى مجلس الأمن، فإذا استطاعت تمرير قرار دولي، تكون العقوبات دولية. إذا فشلت في انتزاع القرار، تلجأ إلى ماكينتها الاقتصادية التي تتمتّع بقوة كبيرة، وتضم أكبر الشركات العالمية، وتتمتع بقدرة تمويلية هائلة عبر الأسواق المالية. من المفيد ذكر بعض المعطيات على هذا الصعيد. يعادل الاقتصاد الأميركي ربع الإقتصاد العالمي من ناحية الناتج المحلّي الإجمالي. ميزانية شركة مايكروسوفت وحدها تفوق الـ 120 مليار دولار أميركي. بورصة نيويورك تحوي 60% من الاستثمارات في أسواق الأسهم. بالتالي تبدأ أميركا عقوباتها بتجميد أموال المعنيين وصولاً إلى الحصار الكلّي، مروراً بمنع مصارفها من تمويل أي استثمارات في البلد المعني.
هذا الأمر يجعل من الولايات المُتحدة قوّة مُهيمنة على الاقتصاد العالمي. الدولار الأميركي عملة التجارة العالمية وهذا يمكّنها من فرض عقوبات على أي مصرف مركزي، ما يشلّ حركة البلد التجارية.
لكن القوة الاقتصادية ليست الوحيدة على هذا الصعيد. فالقوة العسكرية الأميركية بدأت بالسيطرة عالمياً منذ الحرب العالمية الثانية. لا ننسى القدرة اللوجستية الهائلة في نقل كم هائل من الجنود على بعد آلاف الكيلومترات من موطنهم. أيضاً زاد من قدرة أميركا التطور النانوتكنولوجي الذي أمّنت استخداماته العسكرية تفوقّها.
الجدير بالذكر أن عامل التطور التكنولوجي الناتج من استثمارات هائلة هو الذي يلعب الدور الأساسي في التفوق الاقتصادي والعسكري.
العالم ضاق ذرعاً.. بداية التمرد
في مقابل الهيمنة الاقتصادية الأميركية تقف مجموعة كبيرة من الدول المتضررة. بعض هذه الدول حليف للولايات المتحدة. أوروبا بدأت تطرح على نفسها أسئلة مصيرية لا سيما بعد مجيء دونالد ترامب ورفعه لواء الحمائية والانسحاب من المعاهدات. لكن هناك دول ومجموعات شكلت منذ سنوات كيانات هدفها تحدي الهيمنة الاقتصادية الأميركية. على رأس هذه الكيانات مجموعة "بريكس" ومنظمة "شنغهاي" للتعاون. لكن إلى مدى باستطاعة هذه المنظمات إيجاد بدائل والتحرر من سطوة "الكاوبوي" الأميركي؟
تكتسب هذه الأسئلة مشروعيتها على ضوء المعطيات التالية:
تشكل مجموعة "بريكس" 42% من سكان العالم بينما تشكل منظمة "شنغهاي" 22% من سكان العالم. لا يخفى أن هدف المجموعتين، ومن ورائهما الصين وروسيا، طموح إلى تأسيس نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
أنشأت "بريكس" بنك "بريكس للتنمية" برأسمال 100 مليار دولار، وصندوق الاحتياطيات النقدية برأسمال 100 مليار أيضاً. من أهدافه أن يتطور لاحقا ليصبح موازيا لصندوق النقد الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
تضم منظمة "شنغهاي للتعاون" روسيا والصين وكازاخستان وقرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان، ومؤخراً الهند وباكستان. وتتمتع كل من منغوليا وإيران وأفغانستان بصفة مراقب فيها، كما تتمتع بيلاروس وسريلانكا وتركيا بصفة "شريك في الحوار".
وتضم مجموعة "بريكس" روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. عند تأسيسها، أشارت المجموعة إلى ضرورة الوصول إلى عالمٍ متعدد القطبية.
تبلغ حصة منظمة "بريكس" 22.4%من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي مقارنة بـ 24.7% للولايات المُتحدة الأميركية. حصة منظمة "شنغهاي" للتعاون هي 20.3%. إذا مزجنا المنظمتين (بريكس وشنغهاي) فإن هذه الحصّة ترتفع إلى 23.1%، أي تصبح هذه الدول في قوّة الولايات المُتحدة الأميركية تقريباً.
لكن هذه الدول تُعاني من مشاكل سياسية في ما بينها. نجاح تكتلها مرهون بالاتفاق السياسي مقارنة بالولايات المُتحدة الأميركية التي تتمتّع بقرار مركزي يسمح لها بفعّالية أكبر في سياساتها الاقتصادية والعسكرية والديبلوماسية.
أضف إلى ذلك، فإن الإتحاد الأوروبي الذي تُشكّل حصته 21.8% من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، يبقى رهينة القرار الأميركي الذي يُشكّل أساس منظومة الدفاع العسكري عن أوروبا من خلال حلف الناتو، حيث السيطرة الأميركية واقع لا مفرّ منه. من هذا المُنطلق، فإن أية حرب اقتصادية بين القطب الأميركي وقطب "بريكس" أو "شنغهاي"، أو كلاهما، سيواجه بانحياز صريح وواضح من الطرف الأوروبي لصالح الولايات المُتحدة الأميركية.
احتمالات التقارب بين "بريكس" و"شنغهاي"
يقف تشابك المصالح بين المنظمتين عند عتبة التكامل الاقتصادي بين جميع دولها الأعضاء. مُعظم شعوب هذه الدول تحتاج إلى البضائع، والسلع والخدمات نفسها. تنصّ النظرية الاقتصادية على أنه في ظل نظام تجاري عالمي، من مصلحة الدول أن تتخصّص في إنتاج السلع والبضائع حيث لها قيمة تنافسية. بالتالي يتعيّن على دول "بريكس" و"شنغهاي" أن تعمل وفق خطّة تكون فيها الماكينة الاقتصادية مختصة. لماذا؟
لأن السوق الداخلي للمنظمتين مجتمعتين يفوق 3.2 مليار شخص. هذا يعني أنها ليست بحاجة لأي سوق خارجي إذ يكفي أن يكون هناك تنظيم للإنتاج المُتخصّص في هذه البلدان لكي تُصبح هذه الدول القطب الأول عالمياً على الصعيد الإقتصادي.
لكن هذا التنظيم يحتاج إلى الإرادة والكثير من المفاوضات التي ستقف الخلافات السياسية عقبة أساسية أمامها. من هذا المُنطلق، نرى أن المصلحة الأميركية تفرض خلق شرخ بين هذه الدول وهو ما يحصل فعلياً. مثال على ذلك باكستان والهند.
هذا يحيلنا إلى دور الصين والهند وروسيا. الدول الثلاث تتمتع بأوزان عسكرية واقتصادية هامة وهي دول صاعدة. الأهم أنها الدول الوحيدة التي تتواجد في كلا المنظمتين.
لهذا الثلاثي دور كبير في تقريب وجهات النظر بين المنظمتين. هذا الأمر يبدأ بتخصيص اجتماعات مُشتركة لمناقشة مشاكل لها طابع عالمي ويطال هذه الدول. مثال على ذلك فتح الأسواق في ما بينها والتجارة بالدولار الأميركي. هذا ما تريده فعلًا الصين وروسيا. إلا أن تقريب وجهات النظر بين 10 دول بينها تمايز سياسي، وثقافي، واقتصادي وديموغرافي هو أمر صعب جداً. لذا من وجهة نظر منطقية، ستعمد الدول الثلاث (الصين، روسيا والهند) إلى توحيد وجهات النظر في كل منظمة على حدة، على أن يكون الحوار النهائي بين المنظمتين على شكل حوار ثنائي.
لكن سرعة تسلسل الأحداث والمنطق يقولان بأن هذه العملية ستطول عشرات السنين قبل أن تُصبح واقعاً، إلا إذا وقعت أزمة كتلك التي حصلت في العام 2008. هذا الاحتمال قد يعطي دفعاً لهذه المفاوضات.
علي فواز