قبل جفاف الحبر الذي كُتب به قرار تخصيص واشنطن أكثر من 700 مليار دولار كميزانية دفاعية للعام 2019، أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي "ديمتري روغوزين" أن الرئيس فلاديمير بوتين وافق على قرار الإنفاق الدفاعي لبلاده للفترة ما بين (2018-2027).
وباعتبار أن روسيا لا تتمتع بقدر كافٍ من الصراحة والشفافية كما الولايات المتحدة، فإن التوقعات تشير إلى أن موسكو خصصت 19 ترليون روبل (قرابة 357 مليار دولار) لبرنامجها الدفاعي الجديد.
ورغم أن الرقم المشار إليه يبدو متواضعًا جدًا مقارنة بميزانية واشنطن الدفاعية؛ إلا أن بوتين ترك التواضع جانبًا، عندما منح شعبه في خطاب مطلع الشهر الجاري "بشرى" أنظمة أسلحة جديدة، ليحول سباق التسلح بين بلاده والولايات المتحدة إلى لعبة "بوكر".
إن لعبة البوكر هذه وأحجارها الملونة ليست تقليدية، إنما هي جيل جديد من الأسلحة النووية، وما إعلان الولايات المتحدة لميزانيتها الدفاعية الجديدة إلا بداية مرحلة جديدة من سباق التسلح النووي، فضلا عن أن إعلان الرئيس الروسي يؤكد بدء هذا السباق الذي ينقل التهديدات النووية من بعدها الكلاسيكي إلى مرحلة جديدة.
هل المصادر الاقتصادية والإمكانيات الإنتاجية التكنولوجية الموجودة لدى روسيا تجعل منهما قادرة على إنتاج الأسلحة التي أعلن عنها بوتين مؤخرًا، مثل الصواريخ الخارقة لجدار الصوت والصواريخ الموجهة التي تعمل بالطاقة النووية والغوَّاصات الاستطلاعية الذكية بدون قائد والتي يتم تشغيلها بالطاقة النووية وتتمتع بالقدرة على إغراق حاملات الطائرات؛ أم أنها مقامرة شبيهة بتلك التي اتبعها الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان خلال سباق الانتخابات عندما أعلن إطلاق "برنامج حرب النجوم".
أدت مساعي الحكومة السوفييتية في ثمانينات القرن الماضي لمجابهة برنامج حرب النجوم الأمريكي، إلى إفلاس نظامها الاقتصادي، جراء الدخول في سباق تسلح ضد الولايات المتحدة بشكل غير مدروس، ما أفضى إلى تفكك الاتحاد السوفييتي بالنهاية.
وعلى غرار السابق، ترّد روسيا حاليًا على الرهان الأمريكي في مجال تطوير البرنامج الدفاعي، بالرفع من سقف الرهان، فهل ستكون قادرة على هذا الأمر، دعونا نرى ذلك.
أطلق الكرملين أول برنامج حكومي للتسلح لمجابهة الولايات المتحدة عام 2011، وتضمن أهداف روسيا في مجال الصناعات الدفاعية لغاية عام 2020، معلنة تخصيصها ميزانية 20 ترليون روبل للبرنامج، إلا أن انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية بالتوازي مع العجز في الاقتصادي الروسي، جعل من الوصول إلى أهداف عام 2020 أمرًا غير ممكن.
كانت روسيا تخطط لإنشاء 8 غواصات نووية من طراز "بوري" ما بين (2011-2020)، لكنها لم تتمكن من ذلك وأنشأت 4 فقط، كما لم تستطع خلال هذه الفترة من الوصول إلى أحواض جديدة أو تأسيس ترسانات من شأنها زيادة قوة أسطولها البحري.
وأولت روسيا اهتمامًا خاصًا لمنظومة الصواريخ الدفاعية "إس 500" ضمن إطار أهدافها لعام 2020، والتي تعتبر النسخة الأحدث من صواريخ "إس 400" التي باعت منها دفعة لتركيا، كما كانت تهدف لتزويد 38 فرقة عسكرية من جيشها بهذه المنظومة، لكننا لم نشهد حتى الآن أي إشارات حول إمكانية انتقالها للبدء بالإنتاج التسلسلي لصواريخ "إس 500".
أعلنت روسيا أنها ستولي أهمية لتكنولوجيا الأسلحة الذكية، لكن هذا الأمر فتح المجال أمام التساؤلات حول كيفية تحقيق ذلك خاصة وأنها تعاني من مشكلة إنتاج أدوات ذات تقنية عالية منذ فترات طويلة.
وكان ألكساندر سوخوركوف، نائب وزير الدفاع الروسي عام 2012، أوضح أن بلاده تتمتع بالقدرة على إنتاج 40 بالمئة فقط من الأقسام الإلكترونية التي تحتاجها في الصناعات الدفاعية.
فضلا عن ذلك، يسود الغموض بشأن كيف ستنتج روسيا صواريخ موجهة تشتغل بالطاقة النووية، وغواصات استطلاعية ذكية، وهي في حالة عداء مع أوكرانيا التي تعتبر من الدول ذات المكانة الهامة في قطاع الصناعات الدفاعية.
وتشير المصادر المطلعة على شؤون القوات المسلحة الروسية؛ أن الكرملين سيخصص الجزء الأكبر من برنامج التسلح الجديد للقوات البرية والجوية، ما يعني استحالة إنشاء روسيا لحاملة طائرات جديدة حاليًا في ظل الاقتصاد الحالي للبلاد.
وبعدما تراجعت فرنسا عن بيع سفن حاملة للمروحيات من طراز "LHD" لروسيا، يبدو أن موسكو لن تتمكن من إنشاء هذا النوع من الحاملات على المدى القريب.
هل يمكن للجيش الروسي في ظل التقنيات والاقتصاد المحدودين منافسة نظيره الأمريكي؟
بالنظر إلى مجريات إعلان برنامج التسلح الروسي لغاية عام 2027، يمكن القول أن الجانب الأمريكي لن يأخذ تهديدات بوتين على محمل الجد.
كان الكرملين يعتزم إعلان ميزانيته الدفاعية للمرحلة القادمة عام 2015، لكن الأزمة الاقتصادية الناجمة عن التغيرات في أسواق الطاقة أدت إلى تغيير ذلك المخطط، فأعطى بوتين تعليماته لإعداد ميزانية دفاعية جديدة في سبتمبر/ أيلول من عام 2016، بحيث يتم عرضها للموافقة بتاريخ يوليو/ تموز عام 2017.
وعقب ذلك تم تأجيل العرض للموافقة حتى شهر سبتمبر/ 2017، ومن ثم تأجل مرة أخرى إلى أن وافق على الميزانية في فبراير/ شباط الماضي.
ويبدو أن السبب في هذا التأخر هو الخلافات بين الوزارات المعنية بالشؤون الاقتصادية من جهة ووزارة الدفاع من جهة ثانية، إذ كشفت الصحافة الروسية أن الميزانية المخصصة للدفاع انخفضت حتى 19 ترليون روبل (357 مليار دولار) بعدما كانت وزارة الدفاع قد طالبت بـ 55 ترليون روبل (964 مليار دولار) عام 2014.
ومن الواضح أن بوتين حاول سد الهوة بين استطاعة الاقتصاد والأهداف العسكرية الروسية حين أعطى الشعب "بشرى" صواريخ "سارمات" البالستية من خلال فيلم رسوم متحركة استعراضي في 1 مارس/ آذار الجاري، حيث تم التلميح في الفيلم إلى أن الرؤوس النووية التي تحملها الصواريخ تستهدف أحد مقرات الرئيس الأمريكي في ولاية فلوريدا.
يمكن وصف تصريحات بوتين في فعالية التعريف بالجيل الجديد من أسلحتها النووية، بأنها اعتراف بتقدم الولايات المتحدة في هذا الشأن، في ظل محاولات موسكو الدخول في حوار مع واشنطن، بدرجة أكبر من محاولات روسيا إظهار نفسها على أنها قوة عظمى تثق بنفسها.
محمد قانجي