ما لم يفصح عنه الأميركيون صراحة، خاصة بعد إعلان الاستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة هو الإصرار على الوجود العسكري والنفوذ السياسي في العراق وسوريا، بعد أن باتت إيران مصدراً لتهديد الأمن القومي الأميركي، جنباً إلى جنب مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية كمصادر لتهديد هذا الأمن. فالواضح أن الولايات المتحدة تعمل الآن بعد هزيمة "داعش" في الموصل، وفق ثنائية: محاربة ما تبقى من تنظيم "داعش" والتنظيمات القريبة منه، وتحجيم النفوذ الإيراني للحد من تهديداته المتزايدة، على الدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة.
عاد الأميركيون عسكرياً إلى العراق بعد انسحابهم منه نهاية عام 2011، وكان المبرر أو الدافع لهذه العودة، هو القتال ضد تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي استطاع أن يوسع نفوذه بقوة في العراق وسوريا، ويعلن عن تأسيس ما يسمى"دولة الخلافة الإسلامية" من الموصل، في حزيران/يونيو 2014.
فقد تزعّم الأميركيون تحالفاً دولياً لتحرير العراق من "داعش"، وبغض النظر عن تقييم الدور الأميركي في هذه الحرب، وما يروج عن العلاقة التي تربط الولايات المتحدة بهذا التنظيم الإرهابي، فإن الولايات المتحدة ربطت وجودها الجديد في العراق بالقتال ضد "داعش"، وهذا ما أكدته الحكومة العراقية ورئيسها حيدر العبادي، لذلك كان السؤال الأهم الذي فرض نفسه مباشرة في العراق وخارجه عقب الإعلان العراقي الرسمي عن هزيمة التنظيم على لسان العبادي، في الثامن من أيلول/ديسمبر هو: متى سيخرج الأميركيون من العراق؟ لم يكن الأميركيون بعيدين عن معنى تردد هذا السؤال بكثافة في الأوساط العراقية، مع اقتراب هزيمة "داعش" في الموصل، لذلك بادر وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في زيارته الأولى للعراق (20 شباط/فبراير 2017)، بتأكيد أمرين، أولهما: أن "الجيش الأميركي ليس في العراق للاستيلاء على نفطه"، وكان حريصاً على تصحيح ما كان قد ورد على لسان رئيسه دونالد ترامب، من تصريحات أثارت غضب العراقيين، وكان قد تحدث فيها عن حقوق للأميركيين في نفط العراق، وانتقد بشدة قرار سلفه الرئيس السابق باراك أوباما بالانسحاب من العراق.
أما الأمر الثاني فكان تأكيد "دعم بلاده الكامل للعراق في حربه على الإرهاب وفي مجالات أخرى"، وزاد موضحاً: "مجيئنا من أجل دعم العراق وتأكيد استمرار العلاقة، والدعم بعد داعش". هذا يعني أن ماتيس كان حريصاً على إعلان أن هناك أموراً أخرى، غير "داعش"، تفرض الوجود العسكري الأميركي، وأن هذا الوجود سيستمر بعد ذلك.
ما لم يفصح عنه الأميركيون صراحة، خاصة بعد إعلان الاستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة هو الإصرار على الوجود العسكري والنفوذ السياسي في العراق وسوريا، بعد أن باتت إيران مصدراً لتهديد الأمن القومي الأميركي، جنباً إلى جنب مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية كمصادر لتهديد هذا الأمن.
فالواضح أن الولايات المتحدة تعمل الآن بعد هزيمة "داعش" في الموصل، وفق ثنائية: محاربة ما تبقى من تنظيم "داعش" والتنظيمات القريبة منه، وتحجيم النفوذ الإيراني للحد من تهديداته المتزايدة، على الدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة.
إذا كانت هذه هي حقيقة النوايا الأميركية، فإن إيران وحلفاءها في العراق يدركون هذه الحقيقة وخطورتها على العراق، وعلى النفوذ والمصالح الإيرانية، لذلك كان التوجه نحو تفجير قضية الوجود العسكري الأميركي في العراق، والمطالبة برحيل الأميركيين اعتماداً على أن هذا الوجود مرتبط بالحرب ضد الإرهاب.
جاءت البداية من فصائل تابعة للحشد الشعبي، وامتدت إلى البرلمان العراقي، ثم دخلت إيران المواجهة مباشرة بتصريحات علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى الإيراني في زيارته للعراق (17 شباط/فبراير 2018)، التي طالب فيها خلال مؤتمره المشترك مع نوري المالكي، نائب الرئيس العراقي والمنافس القوي لرئيس الحكومة حيدر العبادي في الانتخابات البرلمانية المقبلة، ما سمّاها "جبهة المقاومة الإسلامية" بأن تحول دون انتشار القوات الأميركية تدريجياً في شرقي الفرات، وهو يقصد هنا الوجود العسكري الأميركي في سوريا والعراق.
وقال عقب لقائه مع إبراهيم الجعفري وزير الخارجية العراقي، إن "أميركا هي أهم مشكلة في الشرق الأوسط"، وإن "إيران والعراق وسوريا، من خلال تعاونهما المستمر، لن تسمح للأميركيين بالنفوذ في مناطق يقطنها الكرد"، وهو يعني التركز العسكري الأمريكي في مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية، شرقي نهر الفرات في سوريا، ووجودها في كردستان العراق.
حلفاء إيران في العراق، وخاصة بعض فصائل "الحشد الشعبي" اعتبروا أن تصريحات ولايتي "تحمل ضوءاً أخضر إيرانياً، لخوض مواجهة مع الأميركيين". وهذا ما دفع إلى التساؤل: هل ستقع هذه المواجهة، وهل يمكن أن يدخل "الحشد الشعبي" في معركة مقاومة للوجود العسكري الأميركي في العراق؟ وكيف ستؤثر أجواء الانتخابات العراقية على هذا الاحتمال سلباً أو إيجاباً؟ خصوصاً بعد حدوث مفارقة انتخابية كبرى، بدخول "تحالف الفتح" الذي يضم فصائل في "الحشد الشعبي" شريكاً في "تحالف النصر" الذي يتزعمه رئيس الحكومة حيدر العبادي، بالمشاركة مع "تيار الحكمة" بزعامة عمار الحكيم، لخوض معركة الانتخابات، بدلاً من أن يتحالف "تحالف الفتح" مع ائتلاف "دولة القانون" المنافس، بزعامة نوري المالكي، الذي يطالب برحيل الأميركيين.
هل سيلتزم "الحشد الشعبي" بموقف الحكومة، أم سيخرج عليها ويلبي نداء إيران، ويعيد حساباته مع العبادي ويعود إلى نوري المالكي، ومن ثم يفجر التحالف الانتخابي قبل أن يبدأ؟
أسئلة مهمة تجعل من الوجود العسكري الأميركي محوراً مهماً وحاكماً في الانتخابات العراقية، وتربط بين هذه الانتخابات ومستقبل الوجود العسكري الأميركي في العراق.
د. محمد السعيد إدريس