لاحظ الكثيرون من المراقبين الذين تابعوا وقائع الثورة المصرية في «ميدان التحرير» وغيره من الميادين والمدن غياب الشعارات التي تتعلق بإسرائيل والصراع العربي - الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، وعملية السلام والتسوية والولايات المتحدة الأميركية وإيران. وتوصل بعض هؤلاء إلى استنتاج مفاده ألا تغير في مواقف مصر إزاء إسرائيل، أو إزاء السياسة الخارجية المصرية عامة. وعزز من هذا الاستنتاج أن البيان الأول لشباب الثورة, والذي تضمن مطالب الثوار, خلا من إشارة إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية, بالإضافة إلى ذلك فإن البند الخامس من البيان الرقم 4 والبند التاسع من البيان الرقم 5 الصادرين عن «المجلس الأعلى للقوات المسلحة», عقب تسلمه إدارة البلاد قد خلا كلاهما من الإشارة إلى إسرائيل. وأعلن البيانان التزام مصر بالاتفاقيات الدولية التي وقعتها بما فيها اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1978، و«معاهدة السلام المصرية -الإسرائيلية» عام 1979. ويتمثل مصدر الخطأ في هذا الاستنتاج في عنصرين: الأول منهما خلو فضاء الثورة من هذه الشعارات التي تتعلق بهذه القضايا كان قراراً واعياً من الثوار والقوى السياسية التي لحقت بهم, التزم به الجميع طيلة أيام الثورة بهدف التركيز على المهمة الأولى التي طرحها الثوار على أنفسهم ألا وهي مهمة إسقاط نظام مبارك, والحؤول دون تشتت الأهداف وتجنب خلق خصومات مبكرة للثورة في المحيط الإقليمي والدولي. أما العنصر الثاني فيتمثل في التسرع بالتوصل لهذا الاستنتاج, والاستناد إلى مجرد لحظة زمنية محددة مفصولة عن السياق الزمني, واستباق السيرورة التي يمكن أن تؤول إليها الأحداث والتطورات.
توصل بعض رموز اليمين الإسرائيلي إلى أن القضية الفلسطينية أصبحت ثانوية بالنسبة للثوار والمتظاهرين, وأنها ليست السـبب في عدم الاستقرار في إقليم الشرق الأوسط, ولم يفطن هؤلاء المراقبون من الإسرائيليين وغيرهم إلى أن الثوار أرادوا منذ البداية التركيـز على هــدف واحد وهو إسقـاط نظام مبارك. وقد أظهرت التطورات اللاحقة لتنحي مبارك عن السلطة وتسليمها للقوات المسلحة المصرية, افتقاد هذا الاستنتاج المصداقية, حيث رفع المتظاهرون بكثافة شعارات حول تحرير القدس من السيطرة الإسرائيلية في الجمعة التي أعقبت التنحي. ومن اللافت للنظر أنه قد غاب عن ذهن أصحاب هذا الاستنتاج «أن كل الثورات محلية»، من زاوية الأسباب التي أفضت إليها والأهداف التي تنشد تحقيقها, ولكــنها نادراً ما تتوقف عند الحدود المحلية وتظهر تأثراتها على البيئة الإقليمـية إن عاجلاً أو آجلاً على غرار ما حدث في الثورة الفرنسية عام 1789, والثورة البلشفية عام 1917, وغيرها من الثورات, أخذاً في الاعتبار أن لكل حالة ولكل ثورة خصوصيتها التي تميزها عن غيرها. في هذا السياق فإن الثورة المصرية والثورات العربية ستعزز من مواقف الدول العربية في مواجـهة إسرائيـل وفي مقدمتها مصر, ذلك أن الثورة المصرية قد فتحت الباب (أو هكذا يفترض) أمام بناء نموذج ديموقراطي ومؤسسات تمثيلية تشريعية وتنــفيذية قائمة على الانتخاب الحر النزيه, وهو ما يعني نهاية حكم الاستبداد الذى يفرض إملاءاته على الشعب. والحال أن شعبا حراً من الاستبداد بمقدوره بدرجة أعلى مساعدة الشعب الفلسطيني الساعي إلى التحرر من الاحتلال, خاصة بالنسبة للشعب المصري الذي لم يتخل عن الشعـب الفلـسطيني في أكثر الظروف قساوة واستبداداً. من ناحية أخرى فإن الحقبة المقبلة سيكون للرأي العام تأثير في صنع القرار واتخاذه بدلاً من الدوائر الضيقة من المتنفذين في النظام السابق، الذين احتــكروا اتخاذ القـرارات ولم يعبأوا بالرأي العام. على صعيد آخر فقد جردت الثورة المصرية والثورات العربية إسرائيل من أحد أوجه تميزها, ألا وهو الادعاء بأنها واحة الديموقراطية في الإقليم, رغم وجود الديموقراطيات الأخرى التركية واللبنانية.
كانت إسرائيل تفضل عقد السلام مع نظم حكم دكتاتورية مستبدة, وحكمت سلوكها وفق المعادلة التي تقول «الاستقرار مع الاستبداد أفضل من الديموقراطية»، وأصبح لزاماً عليها عاجلاً أم آجلاً عقد سلام ترضى عنه الشعوب, بدلاً من السلام مع مئات المنتفعين والمستفيدين من القلة التي تسيطر على نظم الحكم. من الممكن أن تستمر مصر في الأفق المنظور بالالتزام بـ«معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية», بيد أن ذلك لا يحول دون تبني نهج جديد للسياسة المصرية إزاء إسرائيل, فلن يكون النظام المقبل في طور البقاء «كنزاً استراتيجياً لإسرائيل»، بل بمقدور هذا النظام أن يرفض سياسة الإملاء وفرض الهيمنة على المنطقة بالقوة والردع, ولن يسوّغ ويبرر مفاوضات عبثية مع إسرائيل تعتبرها غاية في حد ذاتها, لكسب الوقت وتيئيس الفلسطينيين. ولن يقبل باستمرار الحصار على غزة, وقد ينسج علاقات جديدة مع حركات المقاومة، ولن يوفر غطاء لضربة إسرائيلية لإيران. وقد وجدت بعض التصورات الطريق إلى الواقع, حيث تمكنت مصر بعد الثورة من صياغة ملامح مبادرة مصرية جديدة تشكلت تدريجيا، حيث دان نبيل العربي، وزير الخارجية السابق، الحصار على غزة ودعا إلى مؤتمر دولي للسلام, بديلاً للمفاوضات الثنائية العبثية, وتم عقد المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية دون تنسيق مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وأعلنت مصر فتحها لمعبر رفح دائما. يعزز من ذلك أن مصر منذ منتصف الخمسينيات والستينيات, قد استطاعت أن تبني نموذجاً متكاملاً للسياسة الداخلية والإقليمية والدولية في حقبة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تمحور حول التحرر الوطني والحياد الإيجابي والاشتراكية, وامتد تأثير هذا النموذج لما وراء حدود مصر.
بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، فإن النموذج المنشود شعبياً وثورياً من الممكن أن يقوم على الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان والحرية وتعزيز القدرات التنافسية للاقتصاد المصري, وتحقيق العدالة الاجتماعية عبر إعادة توزيع الثروة, ودعم المساءلة والشفافية والمراقبة، وبمقدور مصر لو تمكنت من بناء هذا النموذج أن تكون قدوة لبقية الأقطار العربية. إن نجاح مصر في بناء مثل هذا النموذج, من شأنه أن يعزز المصانع الوطنية المصرية, وأن يؤثر إيجاباً على تبنيها سياسة خارجية مستقلة في مواجة إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وسيمكنها من استعادة دورها الإقليمي والعربي. وهذا النجاح المأمول والافتراضي لمصر في بناء هذا النموذج قد يفضي في المدى المتوسط (5-10سنوات) إلى اعادة النظر في المعاهدة المصرية - الإسرائيلية أو تعديل بعض بنودها, خاصة تلك التي تقيد السيادة المصرية على سيناء, حيث إن هذه المعاهدة مع إسرائيل في نظر الكثيرين من المصريين قد أصابت مصر بالشلل, وسمحت لإسرائيل وأميركا بالدفاع عن مصالحهما دون تردد, حيث سمحت المعاهدة لإسرائيل بضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981وشنت عدوانها على لبنان عام 1982 وعلى لبنان مرة أخرى عام 2006 وعلى غزة 2008 وضاعفت إسرائيل عدد المستوطنين, وأعلنت القدس عصمة موحدة لها وقصفت المنشآت السورية. أما مصر فقد قدمت مساهمات سياسية وعسكرية في حرب الخليج 1990-1991, وقادت الحملة ضد إيران وتهديدها وغذت وهم السلام في المنطقة ومارست ضغوطاً على السلطة الفلسطينية للاستمرار في التفاوض العبثي. وبصرف النظر عمن سيحكم مصر في الشهور المقبلة، فإن السياسة المصرية إزاء إسرائيل, لن تعود إلى سيرتها الأولى, لأن الشعوب تتعلم في زمن الثورات أكثر مئات المرات من الزمن العادي. وقد تشهد العلاقات المصرية -الإسرائيلية تغيرات كبيرة، خاصة مع تصلب المواقف الإسرائيلية إزاء الشعب الفلسـطيني ودخول الرأي العام المصري على الخط في ما يتعلق بهـذه العلاقات. وربمــا لا يتحدد مستقبل هذه العلاقات المصرية - الإسرائيلية وفق الإدراك والتصور المصري فحسب لحدود العلاقة مع إسرائيل, ودور مصر الإقلــيمي والعربي, ذلك أن هذا التصور سيتفاعل مع التصور الإسرائيلي لطبيعة العلاقات مع مصر في مرحلة ما بعد الثورة، خاصة أن إسرائيـل بعد الثــورة المــصرية قد شهدت تظاهرات لليسـار للمطالبـة بدولة فلسطـينية استنـادا إلى قراءة دلالات الثورات العربية ومسارها وأصبح لديها كتلة من السكان تتساءل عن المصير والمستقبل. وقد تسهم هذه المؤشرات في تقييد قدرة الحكومة الإسرائيلية على تزييف وعي الإسرائيليين باستحالة قيام دولة فلسطينية.
يتوقف الأمر على توازن القوى الداخلي في إسرائيل، بين القوى اليمينية واليسارية هناك، وقدرة حكومة نتنياهو على الصمود أو قابليــتها للانهيار. ما يهم إسرائيل في المقام الأول هو الإبقاء على معاهدة السلام مع مصر، في حين أن تعرض العلاقات مع مصر لتغيرات في المجالات الاقتصادية والتجارية يأتي في الدرجة الثانية؛ ما دام الجوهر باقياً أي استمرار المعاهدة. في مواجهة هذه التطورات فإن إسرائيل تتهـيأ للأســوأ، أي المواجهة مع حصيلة هذه التطورات الإقليمية وشكل النظم المقبلة وقدرة الاتفاقيات على الصمود. تتخذ إسرائيل منحى معادياً للديموقراطيـة وتشكك من الآن فيها، فهذه الديموقراطية من وجهة النظر الإسرائيلــية ليست هي الديموقراطية الغربية العلمانية, لأنها ستكون بعيدة عن القيم الغربية. وتروج إسرائيل لفكرة الحليف الثابت المستقر في الإقليم للولايات المتحدة, والذي تمثله إسرائيل في محيط إقليمي مضطرب, وغير مســتمر وهو ما يعزز الإبقاء على القوة العسكرية باعتبارها الضمانة الوحيدة في مواجهة الإقليم المضطرب. وتتوقف محصلة هذه التفاعلات في الرؤى والتصورات على توازن القوى السياسي الناشئ، إن في مصر وإن في العالم العربي وقدرة مصر والعالم العربي على استمالة القوى الدولية والمجتمع الدولي لمصلحة أجندة جديدة تكفل التسوية والاستقرار وإنصاف الشعب الفلسطيني.
السيناريوهات
أول السيناريوهات: بقاء «المجلس العسكري» في الحكم, رغم الجدول الزمني الذي أعلن مؤخراً وتسليمه السلطة للمدنــيين نهـاية يونيو/حزيران عام 2012، وذلك بافتراض حدوث تطورات واحتــجاجات قد تؤدي إلى الفوضى وخلط الأوراق تحيل مصر إلى ساحة مواجهات. وفي هذه الحالة سيجد «المجلس العسكري» مبرراً للاستمرار في الحكم بدعم شعبي وجماهيري للاستقرار وتجنب الفوضى. وقد يكون هذا السيناريو ضعيفاً، نظراً للإعلان المتكرر من «المجلس العسكري» عن تسليمه السلطة إلى المدنيين. ولكن إذا حدث فإن العلاقات المصرية - الإسرائيلية لن تشهد تغيرات كبيرة وقد تستمر وتيرتها الحالية، أي استمرار السفــراء والسفارات والعلاقات القانونية والديبلوماسية والإبقاء على المعاهدة المصرية - الإسرائيلية دون تعديل, خاصة مع استجابة إسرائيل لزيادة عديد القوات الأمنية المصرية في المنطقة (ج) المجاورة لحدودها. وهذا السيناريو له حظــوة لدى إسرائيــل والولايات المتحـدة الأميركـية على الأقل ضمنياً؛ فكلاهما يعرف قادة الجيش المصري وهيــئة أركانه, وجميعهما قد يحمل لنظام مبارك وسياساته تقديراً من نوع ما أو ولاءً بدرجة معينة, وفي هذه الحالة لن يكون ثمة انقلاب في العلاقات المصرية -الإسرائيلية.
ثاني السيناريوهات: أن تفضي التطورات الجارية في مصر, الانتخابات التشريعية في مراحلها الثلاث إلى فوز ساحق لـ«الإخوان المسلمين» و«السلفيين» وإلى تخلي «المجلس العسكري» عن حكم البلاد بعد انتخاب رئيس الجمهورية، واستكمال المؤسسة التشريعية وتشكيل حكومة بقيادة «الإخوان المسلمين» و«السلفيين». وفي هذه الحالة تتوقع إسرائيل أن يتم إلغاء المعاهدة أو تعديلها، وإجراء تغييرات جوهرية في مضمون هذه العلاقات, خاصة مع دعم هذه القوى ـ إن لم تكن لخيار الحرب ـ لخيار المقاومة وثقافة المقاومة, خاصة أن «حركة حماس» في فلسطين هي الامتداد الإخواني الفلسطيني, واحتمال تشكيل محور للمقاومة مع الفصائل الفلسطينية الأخرى في لبنان و«حزب الله». وتتوقع إسرائيل أن تواجه سيطرة «حماس» على الأراضي الفلسطينية وسيطرة «حزب الله» على لبنان و«الإخوان المسلمين» على مصر. تبدي إسرائيل تخوفها من هذا السيناريو، لأنها تنظر إلى «الإخوان المسلمين» كمتطرفين دينياً ويطالبون بفلسطين التاريخية على غرار «حماس». والنقطة المثيرة للجدل والانتباه في هذا السيناريو هي تجاهل الفارق بين البقاء في المعارضة والوصول إلى الحكم, فثمة احتمال أن تتغير المواقف والسياسات بعد الوصول إلى الحكم نظراً لطبيعة المسؤوليات وتداعيات القرارات التي تُتخذ وقد تكون خبرة «حركة حماس» داعمة لهذا الافتراض، لأنها واجهت معضلة الجمع بين الحكم والمقاومة في آنِ واحد.
ثالث السيناريوهات: يتمثل في احتفاظ رئيس الجمهورية المقبل في مصر بصلاحيات الرئيس في النظام نصف البرلماني ونصف الرئاسي كما هو الحال في فرنسا مثلاً, وهي صلاحيات الدفاع والأمن والخارجية وعقد المعاهدات الدولية، وذلك وفق صيغة الدستور المقبلة في مواجهة من يريدون نظاماً برلمانياً يحظى فيه الرئيس بصلاحيات رمزية. وفي هذه الحالة ستبقى العلاقات مع إسرائيل بيد الرئيس المقبل وكذلك المعاهدة وتعديلها، أو الإبقاء عليها، كما هي وفق تفاهمات من الجانب الإسرائيلي.
عبد العليم محمد