لم تكد صناديق الاقتراع في تونس ومصر تفرز بعد الاطاحة بالرؤساء غلبة اسلامية «أخوانية» و«سلفية» واضحة حتى انهالت الاسئلة على الاسلاميين كافة، خصوصا ما يتصل بطبيعة الحكم وبمدى تقبل الاسلاميين للآخر، أو بالمخاوف من تطبيق الشريعة التي رفع لواءها بعض قادة «السلفية» في مصر. هكذا تحولت النقاشات ما بعد الثورة الى أولويات ما سيفعله الاسلاميون بالبلاد والعباد.
عندما غادر حسني مبارك وزين العابدين بن علي الحكم، كان البلدان في أسوأ حال. لقد نخر سوس الفساد والأزمات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولم يترك الرئيسان بابا من ابواب الخلاص للشعب في مصر او في تونس. ولولا هذا الفساد وتلك الازمات ربما لم يكن ثمة مبرر للثورة ولا للرغبة في التغيير أو الإحتجاج، ما يعني ان التركة الثقيلة للأنظمة التي تهاوت، هو أمر طبيعي ولا يمكن أن يكون ذريعة لتبرير ما، على عاتق القوى الجديدة من صعوبات ومهام، أو للتذرع بما لا يمكن القيام به، أو مواجهته في القادم من الايام.
يختلف الاسلاميون بين بلد وآخر، من حيث التنظيم ومن حيث الأولويات. كما اختلفوا من حيث ما تعرضوا له في السنوات السابقة من قمع واضطهاد، فرضت عليهم اساليب عمل مختلفة ساهمت في تشكيل شخصياتهم القيادية وفي التأثير على رؤاهم السياسية سواء باتجاه العمل السياسي السري أو العنفي، أو العلني والشرعي، او حتى للعلاقة مع الحاكم، أو لطبيعة التحالفات مع القوى الأخرى. لكن شعبية الاسلاميين الواسعة التي أوصلتهم الى مقاعد السلطتين التشريعية والتنفيذية جعلتهم في مهب اسئلة ما بعد الثورات العربية، التي ازدادت تسارعا بعدما طوى الأخوان على سبيل المثال عزوفهم المفترض عن السلطة، وذهبوا الى الترشح للرئاسة في مصر... وبعدما باتت «النهضة» ايضا في موقع ادارة الحكم في تونس.
هكذا تحول الاتجاه الاخواني عموما ويليه السلفي تحديدا ولأول مرة في التاريخ المعاصر الى المسؤول المباشر الذي سيتحمل مسؤولية سياسات بلاده المستقبلية، والى موضع ترقب وحتى رهان القوى الاقليمية والدولية. وكتب الكثير من التحليلات ومن السيناريوهات حتى الغربية عن ادوار الاسلاميين المرتقبة أو الممكنة في تحديد اتجاهات المحاور او التوازنات المقبلة في الشرق الاوسط بعد الرؤوس التي سقطت، والنظم الجديدة التي ستبصر النور في البلدان .
يؤكد الاسلاميون باتجاهاتهم كافة «إخوانية» و«سلفية» ان اولوياتهم هي اولويات داخلية. لا فرق في ذلك بين الاتجاه الاخواني الذي يريد البحث أولا عن حلول للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية وترسيخ اسس الدولة والمؤسسات.. وبين الاتجاه السلفي الذي يريد تطبيق الشريعة أولا. ومن الواضح ان الخلاف قائم بين الاتجاهين حول هاتين الاولويتين الداخليتين. علما بأن هذا الخلاف يمكن حله لاحقا بالأطر الدستورية التي يمتلك «الاخوان» فيها الأكثرية سواء في مصر او في تونس. لكن من جهة ثانية يتفق الطرفان على تأجيل الأولويات الأخرى. أي ما يتصل بالسياسات الخارجية وبالسياسات الاقتصادية، وبالعلاقة مع الغرب، اوروبا والولايات المتحدة من جهة، وباتفاقيات كامب ديفيد والصراع العربي ـ الاسرائيلي من جهة ثانية.
بعد عام على الثورات لا يزال الاسلاميون في حالة قلق ولديهم مخاوف من «فلول» النظام السابق في تونس وفي مصر، فهؤلاء لم يغادروا مواقع القدرة والسيطرة في معظم المؤسسات الامنية والادارية والتعليمية، وفي معظم اجهزة الدولة ومؤسساتها... ولم تتمكن الثورة بسبب «مرحليتها» وبسبب غياب القيادة الواحدة الموحدة لها من التجرؤ على اقتلاع هؤلاء الفلول من تلك الاجهزة والمؤسسات على الرغم من خطورتهم المستمرة على الثورة وعلى مشروعها للتغيير. ثمة مشكلة كبيرة هنا. فمن المعلوم ان هؤلاء كانوا أعمدة النظام السابق.
وعدم التعرض لهم يعني استمرار أذرع هذا النظام على الرغم من التغيير الذي حصل. وهذا يعني ان التغيير الحقيقي والعميق يحتاج كما يقول الاسلاميون الى وقت طويل. أي الى ما بعد اقرار الدستور في تونس وما بعد الانتخابات الرئاسية في مصر. نعم هذا ممكن نظريا. ولكن من قال ان هؤلاء «الفلول» سوف يغادرون بمثل تلك البساطة مواقعهم الامنية والادارية والمختلفة؟ ومن قال ان الخارج الغربي الذي كان يدعم بن علي ومبارك لن يدعم هؤلاء في مواقعهم ولن يشجعهم على الصمود والبقاء لكي يكونوا ورقة ضغط على النظام الاسلامي الجديد ما يعني ان تميز الاسلاميين على هذا المستوى هو تميز مؤجل، وانهم لن يكونوا حتى اشعار آخر نموذجا مزعجا لهؤلاء «الفلول». لا بل يبدو من خلال الكثير من المعطيات ان مخاوف الاسلاميين من سطوة هؤلاء الأمنية هي اكبر من خشية «الفلول» من القوى الاسلامية.
التميز الآخر المؤجل هو في دور الاسلاميين الاقليمي بعد الثورات. إذ كيف يمكن للاسلاميين الذين يعتبرون أن اولوياتهم بعد الثورات في بلدانهم هي أولويات داخلية. وهم لا يريدون لأي قضية أخرى ان تعطل هذه الاولويات. ان يكونوا حاضرين على مستوى التحديات الاقليمية التي لا تنتظر ولن تنتظر اي قوة او اي طرف لترتيب اوراقه لتفسح له المجال بعد ذلك ليكون لاعبا وشريكا في التحولات التي تحصل في المنطقة؟ وهل الحرص على تقديم التطمينات والوعود للغرب بعدم التعرض لمصالحه أو لأمن اسرائيل سيضمن تسامح هذا الغرب مع نجاح تجربة الاسلاميين وتعبيد الطريق لها لتقديم النموذج الاسلامي المختلف؟ واذا صمت الاسلاميون عن هذه المصالح اليوم فما هو المبرر لمواجهتها او للانقلاب عليهاغدا؟
كيف يمكن على سبيل المثال لزعيم «حركة النهضة» الشيخ راشد الغنوشي بعد حصول حركته على ٤٠ في المئة من اصوات الناخبين، ان يقول في معهد واشنطن، انه مهتم بتونس وأن أولويته تونس في حين أن الآخرين أولويتهم ليبيا او فلسطين.. وانه لا يريد سوى ان تنجح التجربة في تونس.. لكنه مع ذلك يترك تونس لتنحاز الى أحد محاور الصراع الحاد حول سوريا ويستضيف «مؤتمر اصدقاء سوريا» على الرغم من الخلاف بين القوى الاقليمية وحتى الدولية حول طبيعة هذا المؤتمر، وحول المشاركة فيه اصلا... أي كيف انحازت «النهضة» الى هذا المحور في الوقت الذي تجنب فيه الغنوشي في المعهد نفسه تأكيد الانحياز ضد اسرائيل عندما قال «ليس في دستور تونس ما يمنع العلاقات مع اسرائيل».. ما هو النموذج الذي تقدمه النهضة هنا؟
لقد تعرض الاسلاميون الى التشكيك في سياساتهم المستقبلية المتوقعة. كيف سيحكمون، وهل سيطبقون الشريعة، وكيف سيتيحون للآخر غير المسلم فرصة التمثيل... لكن ذلك كله لم يكن في الواقع موضع الاتهام الأقسى او التشكيك الأشد. فقد أكد الاسلاميون في تونس وفي مصر انهم لا يريدون تطبيق الشريعة التي تخشاها بعض الاتجاهات السياسية والاجتماعية والدينية، وانهم سيعملون مع حكومات ائتلافية، وانهم لن يفرضوا الحجاب ولن يمنعوا الخمور ولا ارتياد الناس او السياح المسابح او الملاهي، وانهم سيعملون على قاعدة المواطنة مع الاقليات الدينية. وقد كانوا صادقين في هذا التوجه انسجاما مع اولوياتهم الاقتصادية والاجتماعية. اما بعض الدعوات السلفية المغايرة، التي تستعجل تطبيق الشريعة، أو ترفض الاقباط في المواقع التنفيذية فواجهت الاعتراض من الاتجاه «الأخواني» قبل غيره... لكن اصحاب هذه الدعوات كما هو معلوم لا يسيطرون على المجالس التشريعية التي ستصدر عنها مثل هذه القرارات التي تجيز او تمنع. النقد الأقسى الذي يمكن ان يؤثر سلبا على تجربة الاسلاميين المستقبلية هو محاباة الغرب. لم تكن التهمة افتراء محضا. فقد اصبحت اللقاءات في واشنطن علنية مع قيادات اسلامية في النهضة التونسية ومع الأخوان في مصر، بعدما قيل الكثير عن لقاءات سرية حصلت في السنوات السابقة...
ليس ما يمنع من حيث المبدأ اي حوار بين الاسلاميين وبين الغرب الأوروبي او حتى مع الولايات المتحدة. لكن ما قد يثير التحفظ او النقد هو مضمون هذا الحوار وتوقيته. ففي التوقيت جاء هذا الحوار بعد فوز الاسلاميين بانتخابات شرعية وشعبية بكل المقاييس وباعتراف خصومهم في الداخل والخارج. ولم يشكك أحد من علمانيين ويساريين وحتى «فلول» وفق المصطلح المصري بنتائج فوز الاسلاميين. بل جل ما قيل كان بأن يتعهد الاسلاميون التزام العملية الديمقراطية التي اوصلتهم الى الحكم.. إذا ذهب الغنوشي الى «معهد واشنطن» المعروف بولائه الصهيوني ليتحدث عن أولوية تونس بالنسبة اليه... أي ان زعيم حركة النهضة الاسلامية يريد ان يشيع الاطمئنان بان لا طموحات اسلامية واسعة لديه مثل الوحدة أو فلسطين... وهو يريد ان يؤكد على «تعقل الحركة الاسلامية» وعلى اختلافها عن ايران. نعم في الواقع هذا صحيح . ما جرى في تونس يختلف عن ايران، والغنوشي ليس امام الخميني، والثورة في تونس لا تشبه الثورة في ايران... ولكن ما علاقة الغرب بذلك كله؟ لماذا تقدم الحركة الأكثر شعبية في تونس، والتي قد تمتد شعبيتها الى بلاد عربية واسلامية خارج تونس ايضا، وهي في الموقع الأقوى شرعيا ودستوريا، مثل هذه التطمينات للغرب؟ «النهضة» لا تحتاج لأي مباركة خارجية، ولا لأي مصادقة خارجية على شرعيتها.... كما كان يفعل بن علي أو حسني مبارك. لقد افتقد مثل هؤلاء الرؤساء الشعبية الداخلية التي كانوا يحصلون عليها بتزوير الانتخابات ما كان يضطرهم الى الذهاب الى واشنطن أو الى باريس للحصول على شرعية الحماية من الخارج الغربي. بهذا المعنى أصل الزيارة في هذه اللحظة لم يكن حاجة لا لتونس ولا للغنوشي ولا لشرعية الاسلاميين فيها.. بل ربما كان المطلوب هو العكس تماما. أن يأتي من يمثل الادارة الاميركية أو الخارجية الفرنسية الى تونس للقاء الغنوشي في مكتبه، وان يقدم هؤلاء الإعتذار أولا عن دعمهم السابق لنظام بن علي الذي أرادت وزيرة الدفاع السابقة ميشال اليوي ماري ان ترسل اليه الحماية في بداية الثورة.. وأن يقدم الغربيون الضمانات بالتعامل الندي مع النظام الجديد في تونس وأن يتعهدوا احترام تجربة الاسلاميين وعدم عرقلتها... لعل في ذلك بعض التكفير عن صمت الغربيين الطويل، الذي لم يخدش ديمقراطيتهم، عن اضطهاد الاسلاميين، وعن تشريدهم في المنافي وعن زجهم في السجون طوال العقود الثلاثة الماضية.
والمسألة ليست شكلية على الاطلاق، وليست تفسيراً غير صحيح لما قيل في هذا اللقاء أو ذاك، وهو ليس اقتطاعا لجملة من هنا أو هناك. المسألة هي في «النموذج» الذي تقدمه الحركة الاسلامية في تونس او في مصر بعد اقترابها من السلطة، أو بعد وصولها اليها. أي هل ينبغي في مثل هذه الحالة أن تكون الأولوية هي تطمين الغرب الى نوايا الاسلاميين الطيبة خوفاً من تهمة التطرف أو خوفاً من الضغوط أو العقوبات الاقتصادية؟ أم ان الخوف هو على نجاح التجربة باي ثمن ممكن؟
السؤال هو عن مصدر الشرعية. هذا المصدر هو الشريعة أو هو الشعب. والنقاش هو حول التوافق او التعارض بين هاتين الشرعيتين. وقد تجاوز الاسلاميون الى حد بعيد هذا النقاش. أما «شرعية» الخارج، أو حتى هاجس هذه الشرعية، وهاجس الرضا الغربي فينبغي ان يكون خارج هذا النقاش اصلاً، وهو غير مقبول اسلامياً خصوصاً بعد الثورات على أنظمة ورؤساء كانوا من أشد الناس سوءاً وتبعية لهذا الخارج!!! لقد قيل الكثير في اسباب الثورات: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وفي تطلعات «الثوار» الى الحرية والكرامة والعدالة.. إن من أسوأ ما فعله «النظام السابق» هو الارتهان للأجنبي في مسيرته الأمنية والاقتصادية والمعنوية. وقد استمر هذا الارتهان حتى اللحظات الاخيرة. فكيف يعقل ان يسارع «النموذج الاسلامي» البديل وهو نموذج العزة والكرامة والاستقلال... الى التلاقي في اليوم الأول لسقوط النظام السابق مع هذا الغرب الذي كان الحامي والمدافع الأول عن هذا النظام، والمتجاهل لسياسات القمع التي مارسها حليفه ضد الاسلاميين أنفسهم؟
ما يقال عن تونس هو نفسه ما يمكن ان يقال عن مصر ايضاً. وفي مصر المواقف اشد خطورة ودقة وحساسية.
نظراً لموقع مصر الجيوساسي ودورها في الصراع العربي- الاسرائيلي، وتاريخها في المنطقة العربية والاسلامية والافريقية.. لقد تناقلت وسائل الاعلام اخبار اللقاءات بين مسؤولي الأخوان وبين المسؤولين الاميركيين بعد الثورات وبعد الانتخابات التي فاز فيها الأخوان بأغلبية المقاعد البرلمانية. هل قدم الاميركيون الاعتذار «للأخوان» عن سياسات الدعم السابقة للرئيس مبارك، أم أن المطلوب من الاسلاميين التعهد باحترام حقوق الاقليات والعملية الديمقراطية واتفاقيات كامب ديفيد الموقعة مع الاسرائيليين؟ وهل سيكون الاميركيون أكثر حرصاً على الاقباط المصريين من الأخوان المسلمين، وقد تبين ان أكثر ما تعرض له هؤلاء من اساءات ومن تهديد لم يكن بعيداً عن سياسات النظام السابق ورجالاته الأمنية؟
الا تستحق الولايات المتحدة ان تشعر بالقلق ولو الموقت، على مصالحها ثمناً لدعمها السابق غير المشروط لحسني مبارك الذي امتلأت سجونه بالاسلاميين عموماً وبـ«الأخوان» خصوصاً؟
لماذا يجب ان يصمت الاسلاميون عن اتفاقيات كامب ديفيد؟ السلفيون متشددون في ضرورة تطبيق الشريعة اليوم قبل الغد، ولكن «كامب ديفيد»، بالنسبة اليهم، هي اتفاقية دولية يجب احترامها.. ولكن يمكن مراجعة بعض بنودها المجحفة بحق مصر اقتصادياً على سبيل المثال. حتى القيادي الإخواني البارز عصام العريان يهدد بمراجعة هذه الاتفاقيات، ولكن.. رداً على واشنطن التي ألمحت الى وقف المساعدات المالية الى مصر بعد الخلاف بين البلدين إثر احتجاز السلطات المصرية مجموعة اميركيين كانت توزع الاموال لمساعدة «المجتمع المدني المصري». عندها هدد القيادي الأخواني بمراجعة اتفاقيات كامب ديفيد لأن في بنود هذه الاتفاقيات التزاما اميركيا بتقديم مثل هذه المساعدة لمصر! وليس لأنها تخالف المبادئ الأخوانية الاسلامية أو لأنها تقيد مصر وتعطل دورها الاقليمي... وهذا «النموذج» من التهديد لا يليق في الواقع لا بهذه الشخصية التي تعرفها سجون مبارك جيداً ولا بالحركة التي تمثل...
ما هو هنا «النموذج» الذي تقدمه الحركة الاسلامية بعد الثورات، من مصر الى المصريين والى باقي العرب والمسلمين؟
وما هو النموذج «الأخلاقي» الذي يقدمه «الأخوان» أهم وأكبر حركة اسلامية شعبية على امتداد العالم العربي، عندما يتراجعون عن التزامهم بعدم الترشح للرئاسة المصرية من دون اي تبرير لهذا التراجع؟ أما مشروعية السؤال هنا فلا علاقة لها باسم المرشح أو بالتفاضل بين المرشحين. بل بهوية الحركة الاسلامية التي يتوجه اليها هذا السؤال، وليس بأي حركة أخرى يمكن ان تقول ما تشاء ثم تفعل خلاف ذلك ما تشاء.
أي «نموذج» يمكن، أو تريد، أو ينبغي ان تقدم الحركة الاسلامية في تونس او في مصر؟ لا نموذج اسلامي في السلوك والممنوعات، نظراً لاستبعاد الشريعة على الأقل في المرحلة المقبلة التي ستمتد لسنوات. هل سيكون «النموذج» هو في ادارة البلاد اقتصادياً؟ وهل يمكن تقديم مثل هذا «النموذج» الاقتصادي-الاجتماعي اذا كانت، كما يبدو، شروط البنك الدولي وشروط صندوق النقد الدولي ومعهما شروط المساعدات الأخرى للنظام السابق، ستتكرر هي نفسها مع الاسلاميين في الحكومات الجديدة؟
لو كانت الثورات من صناعة الغرب لوجب الامتنان له والالتزام بمصالحه. ولو كان الغرب هو المهيمن وهو القادر على كل شيء لما سمح لتلك الثورات ان تحصل اصلاً. لكن الغرب هو الذي يتراجع. ومن يتقدم هم الاسلاميون وشعوب المنطقة والعالم. والشواهد على ذلك كثيرة من اصل الثورات العربية الى واقع ايران مع الغرب، الى اتجاهات تفلت اميركا اللاتينية من الهيمنة الاميركية وصولاً الى صعود روسيا والصين في المعادلتين الاقليمية والدولية... وهذا يعني ان الاسلاميين الذين صمدوا طوال عقود في مواجهة استبداد حلفاء الولايات المتحدة واسرائيل في أكثر من دولة عربية واسلامية ثم اسقطوا هؤلاء الحلفاء قد ساهموا بدورهم في اضعاف السيطرة الاميركية على منطقتنا والعالم.
وهذا يعني ايضاً ان من يحتاج الى الآخر للحفاظ على مصالحه هو الغرب وليس الاسلاميين. وأن موقع الاسلاميين موضوعياً هو في صف تلك الجبهة أو ذلك المسار الذي اضعف الهيمنة الاميركية. والولايات المتحدة تعلم ذلك وتخشاه... ولذا هي تريد من اسلاميي تونس ومصر وباقي الاسلاميين العرب الا يكونوا في هذه «الجبهة»، والا يكونوا ذلك النموذج... وثمة من يتحدث في واشنطن، بسبب ذلك، عن عدم الثقة بالاسلاميين وعن ضرورة عدم السماح لهم بالتمكن من الحكم...
لا يمكن القبول بفرضية الواقعية، اي قوة الولايات المتحدة وسيطرتها الاقتصادية والمخاوف من عدم مجيء السياح الغربيين... لتبرير التسرع في الذهاب المعنوي والنفسي الى الغرب. مثل هذه الذرائع كانت حجة الأنظمة السابقة من مبارك الى السادات، الى الانظمة الحالية، وهذا لا يمكن ان تتميز به الحركة الاسلامية، ولا يمكن ان يكون «نموذجا» مقبولاً منها خصوصاً في هذه المرحلة الانتقالية... وباستطاعة الاسلاميين وهم في السلطة ان يكونوا أكثر انسجاماً مع المسار الذي اتى بهم الى هذه السلطة وان يفكروا في «نموذج» مختلف عن النموذج السابق، أي فتح ابواب التعاون البديلة الاقتصادية والتجارية والعسكرية وسواها... مع القوى الدولية مثل الصين وروسيا وفنزويلا والهند... وهي الدول التي تشكل «المجتمع الدولي الحقيقي (نصف العالم) وتمتلك هذه الدول من القدرات ما تحتاج اليه الولايات المتحدة نفسها.. ومن البديهي ان يتعاون الاسلاميون ايضاً مع ايران ومع تركيا في مجالات تفوق هذين البلدين، وهي كثيرة ايضاً... وفي مثل هذه الاحتمالات سوف يأتي الاميركيون على عجل للاعتذار عن المراحل السابقة وللإعراب عن حسن النوايا ومعها تقديم التطمينات والوعود باشكال الدعم والتعاون المختلفة. لكن ثمة احتمالا آخر قد يلجأ اليه الغربيون اذا توجه الاسلاميون شرقا.
وهو الحصار والعقوبات وممارسة الضغوط. نعم، هذا ثمن قد يضطر الاسلاميون الى دفعه. ولكن ماذا يعني اذا لم يعاقب الاسلاميون على وصولهم الى السلطة؟ يجب ان نتوقع ذلك. لأن الاسلاميين، و«الأخوان» في مقدمتهم، هم ضد المصالح الاميركية وضد اسرائيل ووجودها، وهم مع المقاومة ومع الاستقلال والعزة والكرامة. وعندما لا يعاقب الاسلاميون ولا يحاصرون، علينا ان نقلق وأن نفكر مرات ومرات لماذا لا يحصل ذلك.
من الطبيعي ان يكون الاسلاميون نموذجاً مزعجاً للغرب ولاسرائيل. وهؤلاء اليوم لا يفكرون ولا يعملون سوى من اجل منع الاسلاميين بعد الثورات من ان يكونوا هذا «النموذج.«
لا شك ان التجربة في بداياتها وتحتاج الى الكثير لمواجهة ما يتربص بها من عقبات وصعوبات... لكن »النموذج الاسلامي» المفترض يستحق الأثمان التي لا تؤجل.
طلال عتريسي أستاذ في الجامعة اللبنانية