كيف ينظركيسنجر إلى أحداث الوطن العربي؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)

(هنري كيسنجر) الدبلوماسي الأميركي العجوز لم ينل منه الكبر، وسيبقى الشخصية الأبرز في القرن العشرين في مجالات السياسة الدولية، وخاصة في مجال السياسة الأميركية الخارجية، أليس هو الذي حقق الانفتاح الأميركي على الصين، والذي كان لسياسته الدور الأكبر في تسريع تفكيك الاتحاد السوفياتي، والذي كان له الفضل الأكبر في ضمان أمن إسرائيل لعقود طويلة، حين كبّل مصر السادات ومبارك بقيود كامب ديفيد، وأنهى دورها العربي والإقليمي؟

الجواب... نعم، ثعلب وعجوز السياسة الأميركية يطلُّ بين الحين والآخر على عالم السياسة، إما بمقابلة أو بمقالة صحفية، ليدلي بآرائه فيما جرى ويجري من أحداث، وليضع أمام ساسة بلاده بعض المقترحات ووجهات النظر.

لحظة انترنت

في هذه الإطلالة الجديدة نشرت له صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية مقالاً تحت عنوان (مبدأ جديد للتدخل) عبّر فيه عن وجهة نظر تقول: «إنه لا يولي أهمية كبيرة لإيديولوجية نظام حكم ما أو لنوعية النخبة الحاكمة وهويتها الطبقية، بمعنى آخر، ليس المهم لديه أن تكون الحكومة في دولة ما ثورية أو ديمقراطية أو دكتاتورية، بل المهم عنده فقط سياسات هذا النظام أو هذه النخبة أو الدولة تجاه أميركا».

وقد أبدى في هذا المقال دهشته للاهتمام الكبير الذي يوليه الغرب صحافةً ومسؤولين «لما يسمى الثورات العربية» التي اعتبرها أنها لا تزيد عن كونها «لحظة إنترنت» يتوقف المرء عندها قليلاً، ثم ينصرف عنها إلى مشاغل حياتية أخرى، وبالتالي يقول بحزم لا يجوز لحكومةٍ في الغرب التوقف طويلاً عند هذه الثورات!

قلق كيسنجر

ويظهر أن كيسنجر أصبح قلقاً في الفترة الأخيرة مما يردده بعض سياسيي وإعلاميي الغرب لمقولة إن الغرب أساء كثيراً للعرب بدعمه لحكومات دكتاتورية متحالفة معه ومع أميركا خاصة، كما زاد قلقه أكثر، دعوة هؤلاء السياسيين والإعلاميين إلى التكفير عن ذنوب الغرب تجاه ذلك الدعم والتركيز جدياً على إحلال الديمقراطية في الدول العربية.

ويجمع العديد من المراقبين والمحللين السياسيين على أن ما دفع كيسنجر إلى وجهة النظر هذه المتمثلة بنصيحته لمسؤولي السياسة الخارجية الأميركية بالحذر من التورط في هذا المجال، هو ميل واشنطن وبعض عواصم الغرب الحليفة لها إلى إنفاق وقتٍ وجهدٍ كبيرين للتدخل في شؤون دول الثورات العربية لأسباب إنسانية، تجاوباً مع الحملة التي تدعو إلى التعويض عما فات؛ إذاً يخشى كيسنجر أن تتورط بلاده في سياسات خارجية تحملها مسؤوليات هي في غنى عنها، وقد لا تفيد المصالح القومية الأميركية وفي مقدمتها أمن إسرائيل!!

فالتدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى ليس مطلوباً من وجهة نظره- إلا إذا كان يخدم أهداف ومصالح أميركا القومية، وأن يتناسب هذا التدخل مع قرب الدولة (المتدخل) في شؤونها أو بعدها في سياستها الخارجية من الدوائر المركزية لاهتمامات أميركا، وإذا كان هذا التدخل يعود بفائدة مباشرة على مصالح أميركا في تلك الدولة أو ذلك الإقليم.

صراحة تامة

لقد كان كيسنجر صريحاً أكثر من اللازم، ودون أي لف أو دوران عندما قال: إن هناك مبالغة في الغرب في تصوير حقيقة الثورات العربية، موضحاً أن البعض في الغرب بل كثيرين اعتقدوا أن الثورات العربية تقوم على دعامتين جوهريتين هما الشباب والديمقراطية، مضيفاً إن الشباب خرجوا من المعادلة عندما أزاحهم التقليديون سواء أكانوا عسكريين أم إسلاميين مع جميع القوى الإلكترونية عن سباق النفوذ والقوة, أما ما يتعلق بالديمقراطية، فمن الواضح أنها لم تعد هدفاً وأنها لن تتحقق، ضارباً المثل بليبيا، كما لا يتنبأ كيسنجر بأن ما جرى من تغيرات وتحركات في اليمن ومصر والبحرين وسورية هدفه ديمقراطي أي لا يقود إلى الديمقراطية في الوقت الحاضر ولا على المدى البعيد.

إن هذا يشير إلى أن كيسنجر لا تهمه قضية الديمقراطية في الشرق الأوسط، بدليل أنه لم يقدم أي رابط يربط بين قيام نظام ديمقراطي في أي دولة عربية وبين مصلحة أميركية تتحقق بفضل قيام هذا النظام، وهذا ما يشير مرة أخرى إلى أن شكل النظام الذي ستقود إليه هذه التغيرات والثورات ليس مهماً للسياسة الأميركية، أو لا يدخل في اهتمامات المسؤولين في واشنطن.

ويرد كيسنجر على بعض من يتوهم بأن أميركا لن تكرر خطأ دعم حكام مستبدين أو التحالف معهم بقوله: قبل أن نحكم على سياسة ما بأنها خطأ أم صواب، يجب أن نعترف بالإنجازات التي حققتها تلك السياسات التي دعمت من خلالها الإدارات الأميركية المتعاقبة الاستبداد العربي وهي:

المساعدة في تحقيق انتصار أميركا في الحرب الباردة.

تأمين مصالح أميركا القومية في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها النفط.

فرض اتفاقية صلح بين أكبر دولة عربية وإسرائيل.

تنفيذ الجوانب الحقيرة والقذرة في الحرب ضد الإرهاب مثل تولي أجهزة المخابرات في دول الاستبداد مسؤولية تعذيب المشتبه فيهم.

الالتزام بسياسات حرية السوق.

من جهة أخرى يرى كيسنجر وعدد كبير من المحللين السياسيين العرب أن القرارات التي صدرت عن جامعة الدول العربية وعن مجلس التعاون الخليجي وغيرهما خلال ما يسمونه عام الثورات، لم تصدر على قاعدة الديمقراطية، أو من أجلها، بل العكس تماماً، هي قرارات وصفت بأنها تعبر عن الإجماع، بينما في حقيقة الأمر لم تشارك في مناقشتها عدة دول عربية ثورية أو غير ثورية، إضافة إلى تحويله دفة سفينة الصراع الإقليمية في الشرق الأوسط باتجاه الصراع ضد إيران.

مسألة الأقليات

والأخطر من ذلك كله ما أعلنه كيسنجر من أن المنطقة وبالتحديد الوطن العربي، يتجه شيئاً فشيئاً نحو ما سماه نظاماً إقليمياً طارداً للأقليات، أو رافضاً ومخاصماً لها، وهذا أمر مخيف إذا ما حصل، لأنه يعني أن العرب في الطريق نحو عصر ما بعد الأقليات الذي قد يسفر عن أحد احتمالين كلاهما سيئ، الاحتمال الأول: هو تشكل نظام إقليمي عربي يخلو من الأقليات، والثاني نظام إقليمي تشكل فيه أقليات الشرق الأوسط دولاً ذات سيادة.

خلاصة القول

إن خطورة كبيرة تنبعث من رؤى كيسنجر هذه التي يشاركه فيها عدد غير قليل من المفكرين الأميركيين، والسبب هو إجماع هؤلاء على أن الوطن العربي مُقبل على نظام تهيمن عليه أفكار وعقائد متطرفة عرقياً وطائفياً مطعمة بأفكار إسلامية سلفية وطموحات عثمانية، وهذا ما يقود إلى أخطر أنواع الحروب وأشدها فتكاً ووحشية، فهل يعي العرب ذلك قبل فوات الأوان؟

قراءة 1654 مرة