مصر أعلنت قبل عامين عن اكتشاف حقل غاز ضخم في البحر المتوسّط مُجاوِر للحقول الفلسطينية التي اغتصبتها إسرائيل، وهو حقل (ظُهر) وأن هذا الحقل يحتوي على 30 تريليون قدم مكعب، وأنه سيكفي للاستهلاك المحلي وللتصدير أيضاً، وأنه قد بدأ في العمل نهاية 2017 وسيزداد إنتاجه مع 2018.
لقد أثارت صفقة تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر، والتي وقِّعَت قبل أيام، جدلاً واسعاً في الشارع العربي، وباستثناء بعض النُخبة الإعلامية والسياسية الحاكِمة في مصر، لن تجد مَن أيَّد تلك الصفقة التي وصفها نتنياهو بـ(يوم العيد) وبأنها الاتفاقية الأهم مع مصر بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد 1978. ورغم تحايُل بعض المسؤولين في مصر، وإعلامهم المُدجَّن، بتجميل "وتزيين" الاتفاقية، إلا أن وجهها القبيح والفاشِل، سياسياً، واقتصادياً كان هو الأبرز والأصدق، والذي سُرعان ما يطفو على السطح كلّما حاول البعض إماتته أو تجاهله، لأن الذي جرى وباختصار، كان حلقة شديدة الخطر والخطأ من حلقات التطبيع الحرام (وكل التطبيع مع العدو الصهيوني في عرفنا حرام) والآثار السلبية قبل الاقتصادية لهكذا خطوة للأسف ستكون هي الأبقى، والأبعد أثراً على الأمن القومي العربي (والمصري في قلبه) ولن يمحو هذا الأثر، تلك الحملات الإعلامية الساذِجة أو تصريحات المسؤولين شديدة السطحية وفاقِدة الحسّ الوطني والقومي.
الآن وبعد أسابيع من توقيع الاتفاقية، وبعد أن هدأت مدافع (الكلام) قليلاً، وبدأت مدافع (الفعل)، والحفر والتصدير دعونا نعيد قراءة الاتفاقية، ومخاطرها، وتطبيعها القبيح مرة أخرى؛ دعونا نسجّل هوامشَ رفضنا لتلك الاتفاقية، انطلاقاً من مخاطِرها على الأمن القومي المصري والعربي في النقاط التالية:
أولاً: بداية لابدّ من أن نؤكّد أن مَن وقّعوا تلك الاتفاقية، ليست شركات القطاع الخاص بقيادة أحد أشهر المُطبّعين (وإسمه علاء عرفة رجل التطبيع في قطاع النسيج منذ توقيع اتفاقات الكويز الشهيرة الموقّعة مع الكيان الصهيوني في 14/12/2004) ، وهو الشريك والوارِث لمُطّبع سابق إسمه (حسين سالم) كان صديقاً وشريكاً للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك الذي ثار عليه الشعب المصري وخلعه في ثورة 25 يناير 2011، إن الإلحاح الرسمي السياسي والإعلامي على أن مَن قام بعقد الصفقة شركات قطاع خاص (شركة دولفينوس) وألا صلة للدولة بها، هو من قبيل التحليل الساذِج، أو الإحساس بالعار! والذي تردّ عليه الوقائع، بل وكُتّاب النظام الحاكِم أنفسهم وآخرهم الكاتب المعروف (مكرم محمّد أحمد) في مقالتيه في جريدة الأهرام في (24/2/ و25/2/2018)، والذي أكّد فيهما أن الدولة هي راعية (وصاحبة) هذا الاتفاق، وحتى لو لم يقل ذلك، فإن نتنياهو سبقه بقوله في مؤتمره الصحفي الذي أعلن فيه الصفقة وبشّر بها الإسرائيليين، ونزد على ذلك أن أحد أهم شروط اتفاقية كامب ديفيد في مجال العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل هي ضرورة معرفة وإشراف أجهزة الدولة السيادية (المخابرات تحديداً) في كلا البلدين على أية اتفاقية اقتصادية صَغُرَت أم كَبُرَت، وما بالنا باتفاقية بحجم 15 مليار دولار و64 مليار متر مكعب من الغاز، لمدّة عشر سنوات وخطوط وأنابيب تشقّ الأرض لمئات الأميال في صحراء تخوض فيها الدولة حرباً مفتوحة مع داعش وأخواتها، هل يُعقَل أن تكون شركة خاصة مهما كَبُر حجمها، هي المُناط بها هكذا اتفاقيات وما يتبعها من بناء منظومة أمنية مُتكامِلة؟
ثانياً: لقد تأكّد الآن وبعد أسابيع من توقيع الاتفاقية أن جوهر سعادة الجانب المصري (خاصة الحكومي بها) والذي ردّده كالبّبغاوات إعلامها من دون تمحيص أوتحليل، هو أن هذه الاتفاقية ستجعل من مصر "مركزاً اقليمياً للطاقة، وسيتّجه إلينا العالم، خاصة الدول الاقليمية، للتعامُل في مجال الطاقة، وتلك أكذوبة كُبرى، ففضلاً عن أن القِيَم الوطنية والقومية (مثل حقوقنا العربية والإسلامية في فلسطين) لا تُقاس بالدولار وأن مَن يفعل ذلك وفي هذا التوقيت الذي يتم فيه تهويد القدس وضياع الحقوق الفلسطينية بالكامل، هو مجرّد (تاجِر) وليس (وطنياً)، بل أنه حتى في مجال التجارة وحكاية المركز الاقليمي للطاقة، يُعدّ تاجراً خائِباً، لأن الحقائق الآن تقول: إن روسيا تبيع لأوروبا الغاز المسيّل بمبلغ يتراوح بين (4-7 دولارات للمتر المكعب) في حين أن تكلفة تصدير وتخزين ثم تسييل الغاز الإسرائيلي (المسروق أصلاً من المياه الاقليمية لفلسطين ولمصر وتلك قصة أخرى مُخزية!) ستتكلّف إلى أن تصل إلى الأسواق الأوروبية حوالى (10 دولارات) لأن إسرائيل أساساً ستصدّره كغازٍ خام بـ(6.8 دولارات) وبإضافة تكاليف النقل والتخزين والتسييل ثم إعادة التصدير سرتفع الثمن كما قلنا إلى أكثر من عشرة دولار للمتر المكعب، ماذا يعني هذا؟
إنه يعني ببساطة أن (التصدير) إلى أوروبا الذي هو الهدف الاستراتيجي المُعلَن من اتفاقية الغاز لن يتم لتكلفته العالية ولوجود بدائل أوروبية أرخص، وإذا أضفنا إلى ذلك أن هذا النقل للغاز الإسرائيلي إلى أوروبا يحتاج إلى مد أنبوب ضخم يمضي تحت عُمق 3581 متراً تحت سطح البحر إلى أوروبا وتكنولوجيا تركيبه لم تتوافر دولياً بعد ، أو في حال توافرها يحتاج ليُنفّذ إلى قرابة العشر سنوات، فإن معنى ذلك أن هذا الغاز المُسال لن يُصّدر، ومن ثم لن نصبح مركزاً اقليمياً للطاقة كما روّج بعض الساسة والإعلاميين في بلادنا .!!
ثالثاً: إذن.. ماذا ستفعل مصر بهذا الغاز القادِم من إسرائيل والذي لن تتمكّن شركات (المُطبّع علاء عرفة) من تصديره؟ الإجابة وببساطة سيذهب إلى السوق المصري لينافس المنتج المحلي، وهنا جوهر الاتفاقية ومخاطرها الاستراتيجية لماذا؟ لأن مصر أعلنت قبل عامين عن اكتشاف حقل غاز ضخم في البحر المتوسّط مُجاوِر للحقول الفلسطينية التي اغتصبتها إسرائيل، وهو حقل (ظُهر) وأن هذا الحقل يحتوي على 30 تريليون قدم مكعب، وأنه سيكفي للاستهلاك المحلي وللتصدير أيضاً، وأنه قد بدأ في العمل نهاية 2017 وسيزداد إنتاجه مع 2018.. إذن لماذا يتم استيراد غاز خارجي، والأدهى من كيان عدواني سارِق للحقوق والثروات؟! هنا تأتي التساؤلات والتي لا تجد إجابة وطنية شريفة وقاطِعة، لكنها تجد إجابات ساقِطة ومُتهافِتة، وفاقِدة لأدنى ِقيَم الوطنية، ناهيك عن (الخيبة) الاقتصادية!! والادّعاء بأن هذه الصفقة جاءت ضمن لعبة (التعويضات) على تفجير خطوط الغاز المُصدّر إلى إسرائيل منذ 2005 إبّان ثورة يناير، والتي حصلت إسرائيل على أحكام بشأنها بما يُعادل (مليار وسبعمائة مليون دولار)، فإنه مردود عليه أن ثمة وسائل أخرى كانت أجدى، وأنفع وأكرم، للردّ على تلك الدعاوى القضائية الظالِمة، والمُعتدية على حقوقنا وحقوق الشعب الفلسطيني، لكن عقليّة رجال الأعمال الهادفين إلى الربح من دون اعتبار لأمن الوطن ومستقبله، هي التي خطّطت ونفّذت ورسمت الطريق، الذي سار عليه السياسيون (فوقّعوا) تلك الاتفاقية (ووقعوا) في شراكها الاستراتيجية القاتِلة، والتي ستظهر ملامحها في المستقبل خطراً داهماً على الأمن القومي المصري، وسمعة نظامه السياسي الذي للأسف، ضخّ بتلك الاتفاقية الحياة في اقتصاد، وأمن، الكيان الصهيوني.
رابعاً: ستؤدّي هذه الاتفاقية إلى ترسيخ الشرعية المُفتقَدة للكيان الصهيوني في الاقليم ،لأنها ربطت اقتصادياً وحياتياً بين كيان استعماري قاتِل (ومُغتصِب للحقوق العربية بما فيها الغاز ) وبين دول عربية مركزية، وهو ربطُ لاتزال غالبية الشعب المصري (والأردني) ترفضه رغم مرور عشرات السنين على توقيع اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة ورغم وجود السفارات، والتبادُل الدبلوماسي، إن هذا الربط يُعدّ بمثابة إكراه بالقوّة، لأجيال قادِمة على قبول، ما يرفضه المنطق، والحق، والفطرة الإنسانية (والعربية) السليمة، إن هذا الربط عبر الغاز ولمدّة عشر سنوات، سيولّد أيضاً ربطاً وإكراهاً بالدفاع عن الكيان الصهيوني، أو على الأقل عدم مُحاربته عندما يشنّ حرباً على لبنان مثلاً (وهو أمر مُحتمَل جداً في الأيام القادِمة بسبب حقول الغاز في المتوسّط وفي (بلوك 9)، وسيفرض على الجيشين المصري والأردني، خيارات لم تكن في أجندتهما التاريخية، كل ذلك لأن شهوة بعض رجال الأعمال، والسياسة للمال الحرام، دفعتهم ليقرّروا عبر الغاز المستقبل الدامي للأمن القومي لمصر وللمنطقة، من دون اعتبار لأية قِيَم وطنية أخرى تعلو على هذا الربح، وذاك التطبيع.!!
والسؤال الآن: هل لايزال هناك أمل في تراجُع الدولة المصرية عن تلك الاتفاقية التي (أوهامها) أكثر من (حقائقها) و(مخاطرها) أكثر من (منافعها)؛ الإجابة للأسف، لا، وإن كانت التطوّرات على الأرض، وحركة الشارع المصري والعربي الضاغِطة في الاتجاه المُعاكِس، اتجاه المقاومة ورفض التطبيع، قد تقدّم لنا مُفاجآت جديدة في هذا المجال. فضلاً عن أن عدوانيّة الكيان الصهيوني، وأطماعه الدائمة في النفط والغاز، والثروات (بالمناسبة إسرائيل سرقت من سيناء إبان احتلالها 1967-1982) ما يوازي 500 مليار دولار نفطاً وسياحة وآثاراً وثروات ، ولدينا (الوثائق والتي كتبنا عنها لكن أحداً من أهل الحُكم لم يتّجه إلى هذا الطريق لأنه طريق ذات الشوكة الذي لا يعرفونه للأسف !) ربما تلك العدوانية، تُفجّر، ما تم، من اتفاقات وآخرها اتفاقية تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر.
لكن بالتأكيد نحن للأسف أمام حلقة، من حلقات الهزيمة، "للإرادة"، و"القِيَم"، وخيانة شديدة السطوع لدماء قرابة المائة ألف شهيد مصري في حروبنا مع العدو الصهيوني ...وهي دماء لا نعتقد أن بضعة مليارات من الغاز(لن تذهب أصلاً للشعب بل لحفنة من المُطبّعين ) ، قادرة على تعويضها ... فقِيَم الشهادة والحق والكرامة تم التعامُل معها في هذه الصفقة ، بمنطق "الجدوى"، و"الثمن"، و(الجون !) وليس بمنطق الشرف والأمن القومي ... وما أبعد الشقة بين المنطقين!
رفعت سيد أحمد