تحتفل جماعة الإخوان المسلمين بالذكرى التسعين على تأسيس الجماعة الإخوانية، التي تأسّست في شهر آذار/مارس من العام 1928 على يد المُرشِد الأول حسن البنا، وهو العام الذي يعتبره المؤرّخون ميلاداً للإسلام السياسي، وقد انتشر فكر الجماعة في أنحاء العالم، ودخلوا في صراعات مع كل الحكومات التي عاشوا معها، سواء في مصر أو الدول العربية.
ولكننا نرفض مُصطلح الإسلام السياسي، كما نرفض مُصطلح الأصولية، لأنها مُصطلحات غربية تهدف في المقام الأول إلى النيّل من الإسلام كدينٍ روحي إيماني تلقائي، من خلال التمييز والتفريق ثم الدمج بين الإسلام كدين، والسلوك الاستبدادي لخاطِف للدين، عبر أجواء التاريخ، بالإضافة أن جماعة الإخوان استهدفت الحُكم منذ بداية التأسيس، حتى لو زعموا أنهم يستهدفون المجتمع بالتربية إلى حين الوصول إلى الحُكم، فقد اعتبروا أنفسهم جماعة المسلمين وليست جماعة من المسلمين، كما انتقدهم الكاتب الصحفي الراحل "حسن دوح" عندما خرج من الجماعة، والموضوع يطول ونحاول الاختصار بقدر حجم المقال.
إن تأسيس وانتشار فكر الجماعة مرتبط بالسلوك السلطاني الإسلامي الذي ساد الشعوب الإسلامية منذ تأسيس الدول الأموية، فقد تخيّل المسلمون أن الخلافة من ضرورات الدين، وعندما رأوا سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، رأوا في الجماعة امتداداً لإحياء فكرة الخلافة، ثم اعتبروا أنفسهم جماعة المسلمين الذين يُمثّلون الإسلام المُحمّدي الممتد عبر الزمن من الصحابة والتابعين ثم خلفاء الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وخلال الأربعة أعوام ما بين سقوط الخلافة 1924 وظهور الإخوان 1928، حدثت محاولات لمُبايعة الملك المصري فؤاد الأول خليفة للمسلمين، وكذلك محاولة الملك السعودي عبد العزيز آل سعود، الذي كان يُسمّى سلطان نجد والحجاز خطف لقلب الخلافة، إلا أن تجاوز الزمن للفكرة ذاتها أبطلتها.
ثم صُدر كتاب "الإسلام وأصول الحُكم" للشيخ الأزهري على عبد الرازق عام 1925 ليضرب فكرة عودة الخلافة على أرض الواقع في مقتل، ولكن القلوب الإسلامية ظلّت مشتاقة للخلافة الواحدة والبيعة الواحدة، رغم مظاهر عدم المبالاة بمن يحقّقها، ولعب من ثمّ الإخوان المسلمون على ذلك الوتر الحسّاس، ولكن المجتمع المصري كان يعيش في نفس الوقت فترة الليبرالية، بزعامة حزب الوفد التاريخي بقيادة الزعيم مصطفى النحاس، وشعبية النحاس الطاغية جعلت التظاهرات تخرج تقول"الشعب مع النحّاس"، وعندما غضب الملك فاروق، أخرج الشيخ حسن البنا تظاهرات تقول "الله مع الملك"، وخرج المُرشد الثاني للجماعة "حسن الهضيبي" بعد لقائه بالملك فاروق قائلاً:"لقاء كريم مع ملك كريم"، أي أنهم عادوا للفكر السلطاني الذي مارسه الخلفاء والسلاطين والأمراء عبر تاريخ المسلمين، وكانت بداية تورّط الإخوان في السياسة، والعودة إلى تقاليد الاغتيال السياسي فتورّطوا في قتل رئيس الوزراء أحمد ماهر عام 1945، ثم تورّطوا في قتل القاضي أحمد الخاذنار أول عام 1948، وفي عام 2013 حاول أعضاء من الجماعة اقتحام محكمة "باب الخلق" في القاهرة لسرقة أوراق قضية الخازندار التي مازالت مستنداتها فيها، ولكنهم فشلوا في ذلك، كما تورّط الإخوان في قتل رئيس الوزراء الثاني محمود فهمي النقراشي في كانون أول/ديسمبر 1948، وكانت النتيجة مقتل المُرشد الأول حسن البنا في شباط/فبراير 1949، ثم دخلوا في صراعات بعد التحالفات مع ضبّاط ثورة تموز/يوليو 1952، وحاولوا اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في الإسكندرية عام 1954، ودخلوا السجون عام 1964، وما بين العامين ومن داخل مستشفى السجن، ألّف "سيّد قطب" كتابه الخطير "معالم في الطريق"، الذي أضحى السبيل إلى التكفير والقول بالمجتمع الجاهلي، واعتبر الإخوان دم سيّد قطب مثل دم الإمام الحسين في كربلاء، وهيهات ما بين باحث عن السلطة.
وطالب للإصلاح السلمي كما في الحال الحسينية، على أن الرئيس أنور السادات أخرجهم من السجون لمواجهة المدّ الناصري، ولكنه في النهاية راح ضحيّة الإسلام السياسي، من اليمين الإخواني وحتى أقصى يسار الفكر التكفيري الوهّابي، ودامت الحال على ما هي عليه حتى اليوم، ولقد قال الراحل جمال البنا الشقيق الأصغر لحسن البنا عن الجماعة "إنهم مثل أسرة البوربون في فرنسا، لا ينسون شيئاً ولا يتعلّمون من شيء"، لأنهم بعد أن وصلوا إلى الحُكم عام 2012، بدأت عملية إقصاء رهيب لكل التيارات السياسية والدينية، وظهر التكفيريون الدمويون، ودخلوا في صراعات مع القضاء والإعلاميين والشرطة والجيش، فانتهوا اجتماعياً، وإن لم ينتهوا على المستوى السياسي.
لا نسرد تاريخ الإخوان المسلمين بقدر ما هو تأريخ لحركات الإسلام السياسي التي خرجت أو تأثّرت بالفكر الإخواني، ومهّدت الطريق للفكر الداعشي في القتل والترويع، حيث نجد أن الإسلام في الشتات في الستينات من القرن الماضي، عاش أغلبهم في المملكة العربية السعودية، فتوهبنوا وصاروا وهّابيين فعلاً وقولاً، وتبنّى هؤلاء الفكر السعودي الذي كان يُناهض الرئيس جمال عبد الناصر، وتبنّوا فتوى الشيخ بن باز الذي أفتى بأن جمال عبد الناصر كافر حتى لو صلّى أو صام، لأنه يتعامل مع السوفيات الكفّار، كما عاشوا في دولة ألمانيا الغربية مُتّخذين مدينة "ميونيخ" عاصمة ثقافية لهم، فتعاملت معهم مخابرات الدول الكبرى، وتوجد وثائق مُتعدّدة على تأريخ الإسلام السياسي، كما نرى في كتاب "مسجد في ميونيخ"، للمؤلّف "إيان جيبسون"، الذي يتعرّض لكيفيّة تأسيس جماعات إسلامية سياسية، وتعاملاتها مع مخابرات غربية أميركية، لوقف المد الشيوعي، وكيف تحوّل المسجد إلى مفرخة للفكر التكفيري، فنرى الرابط الخفّي بين التكفير والإخوان، وإن كان الإخوان يرفضون نسبتهم للوهّابية، ولكن فكرهم يقوم على تكفير زائِر القبور، وتحريم السلام على المسيحيين أو تهنئتهم، وكلها فتاوى من صُلب العقيدة الوهّابية. الأمر المؤكّد أن الإسلام دين شامل مُتكامل، والسياسة القائمة على العدل هي صُلب العقيدة.
والإمام علي قال ضمن رسالته للأشتر النخعي عندما ولاّه مصر :"الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، ولكن السياسيين والخلفاء والسلاطين منذ البداية أخذوا من الإسلام ما يحرّض على طاعة الحاكم المسلم حتى لو ضرب الظهر وأخذ المال، وللدرجة التي يقول فيها أبو الحسن الماوردي في كتاب "الأحكام السلطانية" ، أنه لو ظهر رجل ذو شوكة وغلبة وتمكّن من قتل الخليفة القائِم، ونصّب نفسه خليفة، فلا يبيتنّ مسلم إلا وفي عنقه بيعة للمُتغلّب الجديد، هذا هو فكر السياسة في تاريخ المسلمين بمن فيهم جماعة الإخوان، وعندما ارتبط مفهوم الخلافة بمفهوم التديّن الفردي والجماعي حدثت، ومازالت تحدث الكوارث في تاريخ الأمّة، كما نشاهد في واقعنا العملي.
ومنذ تأسيس الجماعة الإخوانية وحتى اليوم، لم يترك الإخوان سلطة إلا وواجهوها، وبلداً لم يفرّقوه، حدث كما رأينا في مصر، وفي حماة في سوريا عام 1982، ودورهم مُشين في سوريا اليوم، مثل دورهم في ليبيا، لأنهم تحالفوا مع المُمثّل الإخواني العثماني رجب أردوغان، وفي كل الأحوال دائماً ما تحدث صِدامات كبيرة بين الأسرة السياسية للجماعة وبين البطش الحكومي، وفي النهاية نجد أن مقولة الإسلام السياسي مقولة غير دينية، فالإسلام دين ثوري في المقام الأول، الحياة في الموت قاهرين والموت في الحياة مقهورين، كما قال الإمام علي.
علي أبو الخير كاتب مصري.