تدخل العملية الديمقراطية العراقية مرحلة استعراض برامج الأحزاب ودعاياتها مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقررة في الـ12 من مايو القادم، ويحتدم صراع المتنافسين على نيل الحصة الأكبر من مقاعد البرلمان.
وإذا ما كان يترقّب الشارع العراقي تركيبة الائتلافات ما بين الكتل والأحزاب وشعاراتهم وحواراتهم الدعائية، فإن الخارج أشدّ ترقباً لما يجري، ويرسم على المجريات خارطة عمل تخدم مصالحه في الداخل العراقي.
وقبل أن نخوض بالأجواء العراقية الحالية وسباق الانتخابات، علينا أن نستذكر الماضي القريب، مطلع الانتخابات السابقة في 2014 عندما كان الظلام مهيمناً على العاصمة العراقية، وناقوس الخطر يدق في شوارعها الموحشة، وصلاح الدين والأنبار والموصل بيد "داعش" ومصير بغداد مهدد بخطر لا يفصلها عنه سوى بضعة كيلومترات، إنها حرب وجود كادت أن تقضي على الديمقراطية ومن يتغنى بها من القادة، ومن يطمح أن يتمتع بحقوقها من صناع المستقبل العراقي "الناخبين".
شاءت الأقدار وتلاحمت الرجالات، التي تصدت لذلك المخطط الكوني بعد رحلة قاسية طالت حتى ثلاثة أعوام، رسم العراق فيها أكبر إنجاز إقليمي على مدى عقود، وهذا ما كلّف أبناء الشعب ثمناً باهظاً جسدته دماء الأبطال.
رجالات صورهم المعلقة في شوارع العراق بدأت تتساقط منذ الساعات الأولى لانطلاق العملية الدعائية للمرشحين، من أجل تعليق صور المرشحين ولافتاتهم الدعائية في بغداد وعموم المحافظات العراقية، وهو ما أثار حفيظة الشارع العراقي برمته، وأشعل ضجة في مواقع التواصل الاجتماعي من إزالة صور الذين استشهدوا خلال الحرب على داعش، وعلى الفور تلتها دعوات للحد من هذه الإهانة بحق أولئك الرجالات الذين قدموا الغالي والنفيس للعراق وشعبه ومقدساته.
ومن هنا أيضاً نشهد هجمات متوالية على هذه الثلة المجاهدة ومن يمثلها لأهداف دقيقة ومدروسة، فمن استطاع أن يضرب "داعش" ومن خلفها بيد من حديد ومن أعاد هيبة البلد وسيادته، هو من سيفرض نهجه على طاولة الحوار وسيخطو بثبات نحو صناعة قرار سياسي محكم يحفظ هيبة البلد الدبلوماسية والسياسية كما في الميدان.
نعم.. إنه لرعب للخارج إذا ما استقل العراق سياسياً، وإذا ما استقلت القيادة عسكرياً، وإذا ما انتزع الاقتصاد رداء الهيمنة الخارجية محافظاً على هيبة الدولة واعتمد على طاقاته الداخلية ومنظريه ومفكريه.
فرجالات الميدان أثبتوا وبجدارة قدرة العراق على تفتيت المخططات العسكرية المتمثلة بالإرهاب، وأثبتوا أنهم الأجدر بتعرية ما يحاك ضد البلد من مؤامرات سياسية تهدف إلى تقسيم البلد، استطاعوا احتواء أكبر أزمتين إقليميتين على مدى عقود مضت، تحقق كل هذا رغم أن العراق كان متأرجحاً سياسياً، مترنحاً اقتصادياً ومتزلزلاً في منظومته العسكرية الفتية.
ولم تتحقق الانتصارات هذه بوسائل خارقة للطبيعة، إنما بالاعتماد على الذات واستقلال القرار العسكري العراقي في مواجهة هذا المخطط، ومن خلال تضحية قلّ نظيرها في عالم الحروب، سطّرت أروع القصص، التي ستبقى سيمفونية لأجيال اليوم ومن يليها.
وما إن أزيل خوف "داعش" حتى بات يروّج لعدم كفاءة أولئك الرجالات، وعدم فعاليتهم في عالم السياسة، وأنهم رجالات ميدان فحسب!
ما يحتاجه العراق اليوم إخلاص في العمل ومصداقية تكاد تغيب وهمّة ثورية في الإصلاح وضرب للفساد، وإعادة سيادة القرار العراقي والعسكري المتمثل بالتدخل الأمريكي في محاولة لإظهار عدم قدرة القيادة العسكرية العراقية على إدارة نفسها بنفسها رغم ما أثبتته في الحرب على "داعش" ورغم ما تحقق، إلا أن الإصرار الأمريكي بوجود مستشارين عسكريين إلى جنب المنظومة العراقية سيكون أساساً مقوّماً لها، مع أن العكس هو ما ثبت مؤخراً.
لذا بات جلياً أن أشد هجمة خارجية وتحديداً أمريكية هي تلك التي تقصف قيادة الحشد الشعبي، القيادة التي ارتدت الزي العسكري في يوم وجدته ضرورة حتمية، وخلعته التزاماً منها بأدب السياسة، لتفسد الطبخة الغربية في السياسة كما أفسدتها من قبل في الميدان ومخطط التقسيم.
وتبقى صناديق الاقتراع هي الكلمة الفصل في إشراك من تشاء برسم خارطة طريق عراقية جديدة، ستكون حاسمة ومصيرية للبلد في زمن الانتصارات وتحطيم هيبة المخططات.!