براغماتية أردوغان تفتح الباب أمامه اليوم لإعاد بناء الدور التركي إقليمياً في تنافُسه مع إيران في العراق وسوريا وكردستان وفي دول الخليج (الفارسي) ودول الطوق وفلسطين.وفي الوقت الذي تحكم فيه العداوة علاقة إيران بإسرائيل وبحلفائها شششالمقبلين، تحكم المنافسة البرغماتية محدّدات السياسة الخارجية التركية تجاه هذين الطرفين اللذين يبحث كل منهما عن إنهاء وجود الآخر.
بنظامٍ دستوري رئاسي تحظى فيه مؤسّسة الرئاسة بالهيمنة على عملية صناعة القرار السياسي، وفي وسط التجاذبات الإقتصادية بين الصين والولايات المتحدة وروسيا، يبدو أن الدور التركي الإقليمي التنافسي مع إيران سيزداد في المنطقة.
تشهد المنطقة العربية ولازالت تصاعد أقطاب إقليمية ( إيران، تركيا)، فبعد سنوات طويلة من التخفّي وراء دور الضحية في الهولوكوست، تخرج اليوم إسرائيل لتُعلن عن نفسها قطباً إقليمياً قوياً في المنطقة، يبحث عن أتباعه وعن مناطق نفوذه وعن خصومه وأعدائه.
لم تعد اليوم إسرائيل قادرة على إخفاء إقتصادها القوي في مجال التكنولوجيا والزراعة والمياه وفي تجارة الأسلحة، وفي الوقت الذي ارتكست فيه معدّلات التنمية في الدول العربية، ازداد توهّج الإقتصاد الإسرائيلي. تُقدِّم إسرائيل اليوم نفسها للعالم الغربي قوّة إقليمية ديمقراطية، ونموذجاً يجب أن يُحتذى ويُتّبع.
في مقابلِ هذا البحث عن مناطقِ النفوذ والتوسّع، ازداد ضمور الدور الإقليمي المصري، الذي أصبحت تُكبّله إرادة دول البترودولار، التي لم يزدها وجودها الإستراتيجي في قلب منابع الطاقة العالمية إلا ضعفاً وتبعيّة للدول العُظمى. إسرائيل تفرض سطوتها اليوم على تلك الدويلات التي أنشأتها بريطانيا بعد الاستعمار، وورثتها أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، وتسترجع ميراثاً تقلّب بين الأيدي الغربية طيلة قرنٍ من الزمان.
المنطقة العربية تشهد اليوم تزايُد دور الأقطاب الإقليمية في زمنٍ لم يعد فيه الأميركيون قادرين على تحمّل تكاليف جثث جنودهم خارج العالم الجديد، لتنفتح الساحة لصراعات القوى الإقليمية المنافسة لإسرائيل: تركيا، إيران. تبحث إسرائيل عن اقتسام خارطة العالم العربي مع إيران مذهبياً، لأن ذلك سيؤدّي إلى حروبٍ أهليةٍ دائمةٍ يستطيع الكيان الصهيوني من خلالها تملّك المحور السنّي عسكرياً وإقتصادياً.
لا ترضى إسرائيل عن تقارُب حماس مع إيران، لأن هذه العلاقة تُهدِّد مخطّط التوازُنات الإقليمية الجديدة. ومن جهةِ أخرى تمثّل تركيا مُنافِساً حقيقياً في استقطاب "المحور السنّي" الذي يتم صوغه اليوم بعد مرور مئة سنة على خريطة سايكس بيكو التي أكلتها أرضية الفِتَن العربية.
على صعيدٍ آخر تنفتح العلاقات التركية الإيرانية اليوم على واقعٍ جديدٍ عنوانه الأساس قوّة كاريزما أردوغان في قيادة المنطقة، وتوجّه تركيا نحو بناء حلفٍ جديدٍ مع روسيا التي أصبحت قُطباً مُنافِساً لأميركا بعد أن كانت عدواً لدوداً. تركيا اليوم تبحث عن ريادةٍ إقتصاديةٍ في عالمٍ تسوده حرب إقتصادية باردة لا هوادةَ فيها بين الصين والولايات المتحدة، والتي ستُحدّد نتائجها مصير النظام العالم الجديد في العشر سنوات المقبلة.
وبمقابل هذه الوضعية المريحة نسبياً لتركيا في علاقتها مع محوري الصراع في المنطقة، لا زالت ولاءات تركيا مع الأقطاب الدولية غير مُستقرّة تماماً، فدعم الولايات المتحدة يزداد منذ سنوات للكرد المعارضين، وللتيارات الإسلامية التركية المعارضة لأردوغان، كما أن دول تفضّل الحليف الإسرائيلي عن ذاك التركي الذي يدعم مشروع حركة الإخوان المسلمين في العالم العربي.
من جهةٍ أخرى تعتمد بنية الإقتصاد التركي على نظامٍ نقدي عالمي وعلى إقتصادٍ خاضعٍ لرؤوس الأموال الأجنبية التي لا زالت الدولة غير قادرة على السيطرة عليها حتى الآن. ورغم أن النظام الرئاسي الجديد سيبحث جاهداً عن سياساتٍ إقتصاديةٍ صارِمةٍ يتمكّن من خلالها بناء إقتصاد وطني حقيقي، فإن طابع العولمة الذي يغزو العالم اليوم، قد يجعل من الصعب على تركيا الخروج من التبعيّة إذا لم تبحث عن تحالفاتٍ إقتصاديةٍ وإستراتيجيةٍ جديدة، قد تؤثّر على وجودها في حلف الناتو المتهالك.
يبحث أردوغان عن إحياء القوّة العثمانية وعن إعادة النظر في اتفاقيات سيفر ولوزان وغيرهما، يُشكّل إعلانًا جديداً عن عودة القوّة الإقليمية التركية في المنطقة، التي ستطرحها القضية الفلسطينية أمام أسئلة صعبة، قد لا يجد لها أردوغان جواباً شافياً في تاريخ سلاطين بني عثمان.
براغماتية أردوغان تفتح الباب أمامه اليوم لإعادة بناء الدور التركي إقليمياً في تنافُسه مع إيران في العراق وسوريا وكردستان وفي دول الخليج(الفارسي) ودول الطوق وفلسطين. وفي الوقت الذي تحكم فيه العداوة علاقة إيران بإسرائيل وبحلفائها المقبلين، تحكم المنافسة البرغماتية محدّدات السياسة الخارجية التركية تجاه هذين الطرفين اللذين يبحث كل منهما عن إنهاء وجود الآخر.
أحمد فال السباعي