تجاوزت إيران الساعات الأولى لدخول الحزمة الثانية من العقوبات الأميركية حيّز التنفيذ من دون أن تسجّل الأسواق المالية أو التجارية أيّ تدنٍ في أسعار العملة المحلية مقابل الدولار الأميركي، أو أيّ خلل في الحركة التجارية على عكس ما كان متوقعاً لدى البعض، أو على الأقل ما تنبّأ به وتمنّاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعليقاً على عودة العقوبات الأميركية.
قد أظهرت الساعات الأولى لسريان العقوبات التي اعتبرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنها الأقسى في التاريخ، أظهرت تماسك الاقتصاد الإيراني الذي مرّ بأشهرٍ صعبةٍ لم تكن نتيجة انسحاب أميركا من الاتفاق النووي، أو فرضها للحزمة الأولى من العقوبات كما يقول الخبراء، إنما كانت بسبب سوء الإدارة الاقتصادية والفساد وضعف الفريق الاقتصادي لحكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني، ما دفع به إلى إيجاد تغييرات في هذا الفريق بدأت بإقالة رئيس البنك المركزي، وانسحبت إلى تغيير أربعة وزراء، إثنان منهم استجوبهما البرلمان وحجب عنهما الثقة، وقد أدّت هذه التغييرات الداخلية إلى استقرار الاسواق المالية قبل دخول المرحلة الثانية من العقوبات الأميركية حيّز التنفيذ.
وقد بدا رئيس البنك المركزي الإيراني عبد الناصر همتي متفائلاً بالاستعدادات والإجراءات التي اتّخذتها الحكومة للتصدّي للعقوبات الأميركية، وكذلك بدا مسؤولون إيرانيون آخرون يتقدّمهم الرئيس روحاني مؤكّدين قدرة الجمهورية الإسلامية على الصمود واجتياز هذه المرحلة الصعبة، وتستند طهران في تفاؤلها على عدّة مُعطيات تبدو في قراءة سريعة أنها منطقية إذا استمرّت المواقف الدولية على شكلها الحالي ويمكن اختصار هذه المُعطيات كالتالي:
- العقوبات الأميركية هي عقوبات أحادية وليست دولية كما حصل سابقاً في عام 2011، حيث أدرجت العقوبات تحت الفصل السابع من قِبَل مجلس الأمن الدولي، وبالتالي يمكن الالتفاف على هذه العقوبات بطريقةٍ أسهل من السابق خاصة في ظلّ المواقف الدولية الرافضة للأحادية الأميركية والداعِمة للاتفاق النووي ولفتح قنوات تجارية ومالية مع إيران لا سيما المواقف الأوروبية منها.
- تراجُع الموقف الأميركي من "التصفير النفطي" إلى إعفاء ثماني دول من هذه العقوبات، وهذه الدول هي أبرز الدول المستورِدة للنفط الإيراني على رأسها الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا، وهذا التراجُع له أسباب عدّة:
أ- عدم استجابة مُعظم الدول لا سيما تلك التي تربطها علاقات اقتصادية مع إيران للضغوط الأميركية، وهذا الأمر يضعها بين خيارين، المضيّ قُدُماً في مواجهة العالم ما سيزيد من عزلتها الدولية، أو التراجع عن فرض العقوبات على عدد من الدول التي تستورد النفط الإيراني.
ب- المخاوِف من ارتفاع أسعار النفط الخام إلى أرقامٍ قياسية ستؤثّر سلباً على الاقتصاد العالمي وبالتالي على الاقتصاد الأميركي.
ج – عدم قدرة السعودية ودول الفلك الأميركي بتعويض النفط الإيراني في الأسواق العالمية إلى الآن.
- المواقف الأوروبية الداعِمة لإيران والمؤكّدة على الالتزام التام معها في مواجهة العقوبات، وقد تمّ التوصل إلى منظومة مالية مصرفية أوروبية لتكون بديلاً عن نظام التبادُلات المالية العالمية، أو جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك "سويفت" وستدخل حيّز التنفيذ خلال أيام قليلة بحسب الجانب الإيراني.
- اعتماد العملات المحلية مع عددٍ من الدول الصديقة والمجاورة لإيران في التبادلات التجارية الثنائية يُعطي مزيداً من القدرة لطهران على التحرّر من قيود الدولار ووزارة الخزانة الأميركية.
- موقف الأمم المتحدة الداعِم لإيران وموقف محكمة العدل الدولية الرافِض للعقوبات الأميركية واعتبارها مخالفة للقوانين والاتفاقات الدولية، لا سيما معاهدة الصداقة الموقّعة بين الطرفين عام 1955 عزّزت موقف الاتحاد الأوروبي أيضاً.
قد تكون هذه المُعطيات منطقية إلى حدٍ ما لكن السؤال الأول الذي يطرح نفسه هنا، إلى أي مدى يمكن أن تقدّم أوروبا حلولاً ناجِعة، وإلى أيّ مدى يمكن أن تواجه الشركات الأوروبية العقوبات الأميركية لا سيما وإن دول الاتحاد ليست مُستثناة من هذه العقوبات، أما السؤال الثاني فهو حول قدرة الدول الثماني التي أُعفِيت من العقوبات الأميركية على تخطّي السقف الذي وضعته إدارة ترامب لهذه الدول لشراء النفط الإيراني، لكن حتى لو لم تكن الإجابة إيجابية على هذين التساؤلين تبقى لدى طهران القدرة على الصمود وتخطّي هذه المرحلة كما فعلت سابقاً على مدى 40 عاماً وحتى في ظروفٍ أصعب وأشدّ قسوة خاصة مع بداية انتصار الثورة الإسلامية.
ملحم ريّا - طهران