في أواخر شهر ديسمبر الماضي، قام الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بزيارة سرّية إلى قاعدة عسكرية أمريكية في العراق وعند وصوله إلى تلك القاعدة أعرب "ترامب": "سنسحب قواتنا العسكرية من سوريا وسوف نستعين بالعراق من أجل السيطرة على هذا البلد"، وبعد ذلك انتشرت الكثير من الأخبار التي أكدت بأن واشنطن لديها العديد من الخطط التي تريد تنفيذها في العراق، وعلى هذا الأساس انتشرت خلال الأسابيع القليلة الماضية أخبار أشارت إلى أجزاء من المؤامرة الأمريكية التي تستهدف أمن واستقرار العراق، إن لهذه القضية أبعاداً أخرى، ولهذا فإن علينا أن نسلط الضوء هنا على نقطتين وسؤالين مهمين، هل ستنجح الخطة الأمريكية المتمثلة بزيادة القوات العسكرية في العراق كما يعتقد الأمريكيون؟ وهل الغرض الرئيسي من هذه التعبئة العسكرية التي قد تهدد حالة الاستقرار والأمن في العراق، كما قال "ترامب" هو لضرب سوريا، أو لديه غرض آخر؟، لمناقشة هذه القضايا والإجابة على هذه الأسئلة، يجب علينا تسليط الضوء على النقاط التالية:
1- من المؤكد أن الأمريكيين لن يكون لهم أي تأثير على المعادلة الأمنية السورية إذا سحبوا قواتهم من سوريا، وهذا ما تؤكده التقارير الإخبارية السابقة التي أعربت بأن واشنطن لم تكن قادرة على التأثير في سوريا على الرغم من وجود حوالي 3000 جندي وحوالي 10 قواعد عسكرية منتشرة في الأراضي السورية، لذا يمكننا القول هنا بأن تلك التصريحات التي أطلقها ترامب أواخر الشهر الماضي من القاعدة الأمريكية في العراق لن تتحقق، ولهذا فإنه يجب إزالة القضية السوري من هذه المعادلة.
2- في الأسابيع الأخيرة، مارست السلطات الأمريكية الكثير من الضغوط مرة أخرى على المسؤولين العراقيين، لإجبارهم على التخلي عن مساعدة الجانب الإيراني لكي يتجاوز العقوبات المفروضة عليه والأخذ بعين الاعتبار القواعد العسكرية الأمريكية في علاقاتهم الدبلوماسية مع طهران، ولقد كشفت مصادر موثوقة قريبة من "هادي عامري"، أن وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" أكد في زيارته الأخيرة للعراق على ضرورة توقف التعاون الإيراني العراقي، وخاصة في قطاع الطاقة، وبهذا فقد تم حل أحد أهم أسباب سفر الرئيس العراقي "برهم صالح" إلى أمريكا، لكن من الواضح أن الأمريكيين على علم جيد بمتانة وصلابة العلاقات الطبيبة بين البلدين، ويعلمون أيضاً أن الحفاظ على العلاقات مع إيران وتعزيزها يعدّ أمراً مهماً بالنسبة للعراق ولا يمكن الاستغناء عنها.
3- يحاول الأمريكيون، من خلال تأكيدهم على ضرورة زيادة قواعدهم العسكرية، زيادة قدرتهم على ممارسة سلطتهم على كل الأحزاب العراقية، ويسعون أيضاً إلى تحسين صورتهم السابقة التي انهارت في نظر الجماعات المؤيدة لهم، ولهذا فلقد قدمت واشنطن الكثير من الأموال للأحزاب والجماعات الموالية لها لكي تفوز في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي عقدت خلال الفترة السابقة ولكن أمريكا لم تجنِ من هذه اللعبة إلا الخسارة وهذه لم تكن الخسارة الوحيدة التي مُنيت بها، فقد تم الإعلان عن القضاء بشكل نهائي على تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق على يدي اللواء "قاسم سليماني"، حيث إن هذا أيضاً يعدّ أحد الأمثلة البارزة على هزيمة أمريكا من قبل جبهة المقاومة خلال العامين الماضيين. والآن من الذي سوف يصدق أن أمريكا لديها مبادرة من أجل العراق؟
4- ومن خلال استعراض التطورات الأخيرة في المنطقتين الشمالية والجنوبية من العراق - أربيل والبصرة – فإننا سنجيب على هذا السؤال، إن المنطقة الشمالية لا تزال تطالب بفرض سيطرتها على محافظة كركوك النفطية، ويطالب الجنوبيون من الحكومة تحسين سبل عيشهم، وهذان هما السببان اللذان استعانت بهما واشنطن للتحرك بحرية في العراق، وبعد فشل مشروع الاستفتاء الكردي الذي دعمته أمريكا، بدأت واشنطن بعد فوز "عادل عبد المهدي" بمنصب رئاسة الوزراء بالتواصل مع مختلف الجماعات الكردية لإحياء قضية كركوك والمطالبة بانتخاب ثمانية وزراء من الأكراد ولكن الجانب الأمريكي فشل مرة أخرى في اختراق الصفوف العراقية.
وفي الصيف الماضي، تم القبض على عدد كبير من الأشخاص الذين لهم صلة وثيقة بالإدارة الأمريكية والحكومة السعودية التي قامت بإشعال فتيل احتجاجات البصرة وقامت بتدمير المباني، وهذا الأمر يدل على أن القضية لا تتعلق بمشكلات أهل البصرة ... بل إن القضية تتعلق بنوع النظام الحكومي وصلته بجبهة المقاومة وهذا الأمر يؤكد بأن واشنطن كانت ترغب في إشعال الفتنة في البصرة التي تعدّ المعقل الرئيسي لقوات الحشد الشعبي التي تعتبر رمز المقاومة في العراق والتي تمكّنت من القضاء على فلول تنظيم "داعش" الإرهابي.
5 - من الواضح تماماً أن قضية الوجود الأمريكي في العراق هي النقطة المقابلة لهوية المقاومة في هذا البلد التي لا يمكن فصلها بأي ثمن، وعلى مدى السنوات الخمسين إلى الستين الماضية، تعرض الشعب العراقي مراراً وتكراراً للعديد من الضربات الموجعة من القوى الدولية وعملائه الإقليميين، والآن يشهدون أيضاً استفزازات عملاء سعوديين ضد بلدهم، ومن جهة أخرى، إن الاعتقاد السائد في المثل العليا الشيعية التي تدعو إلى عدم القبول بهيمنة أعداء الإسلام، يساعدهم على التوحد تحت راية واحدة، لذلك، إذا كان القادة الغربيون لديهم بعض الموالين العراقيين الشيعة، فإنه من المستحيل أن يبتعد العراق عن حضن المقاومة في المنطقة، وهنا يجب على القادة الغربيين أن ينظروا قليلاً إلى الوراء وأن يتفحصوا جيداً علاقات إيران مع حكومات علاوي وجعفري والمالكي وعبادي، لكي يعرفوا جيداً بأن العلاقات بين طهران وبغداد كانت جيدة للغاية، حتى خلال عهد "إياد علاوي"، الذي كان يعتبر أحد أبرز السياسيين العراقيين الموالين لأمريكا.
إن أمريكا تعتقد أنه من خلال الضغط العسكري على شمال وجنوب العراق، فإنها ستتمكن من جهة، أن تُضعف حكومة بغداد وعلى وجه الخصوص مكانة رئيس الوزراء "عادل عبد المهدي"، حتى لا يتمكن من الحفاظ على علاقات بلاده الطيبة مع طهران خلال الفترة القادمة، ومن ناحية أخرى، الإخلال بأمن منطقتي الاستثمار المهمة لإيران.
إن أمريكا تعرف جيداً أنه خلال السنوات الـ15 الماضية، تمكنت إيران من القيام باستثمارات مهمة في محافظات السلمانية وإربيل، وكذلك البصرة والناصرية في قطاع الطاقة، إن الأمريكيين يعلمون جيداً، بأن إيران إذا تمكنت من التعاقد مع بلد أو بلدين من البلدان المجاورة لها في مجال الطاقة، فإنها ستتمكن من التغلب على العقوبات الأمريكية، وبالتالي فإن قطع العلاقات العراقية الإيرانية يعتبر ضرورة استراتيجية لواشنطن، ومن ناحية أخرى، تعلم السلطات الأمريكية جيداً، بأن قطع العلاقات المتعلقة بمجال الطاقة بين البلدين ما هو إلا لعبة دومينو، لها العديد من الآثار السياسية والأمنية والاجتماعية على جميع أنحاء العراق، وهذا أمر لا يمكن أن يقبله الشعب العراقي.
بقلم: الدكتور "سعد الله زارعي" الخبير السياسي في قضايا غرب آسيا