لا خلاف على أن تنظيم داعش قد خسر جميع مناطق سيطرته في العراق وسوريا، وأنه يشهد حالة تراجع وانحسار غير مسبوقة، إلاّ أنه لم ينهزم بعد، ولم يتم القضاء على تهديداته التي يمتلك التنظيم ما يكفي من المرونة للتكيف مع واقع ما يمرّ به عبر مراحل متعددة بما يكفل ديمومة التهديدات التي يشكلها سواء في العراق وسوريا، أو عموم مناطق تواجد فروعه في قاراتٍ عدّة.
بعد سبع سنوات من انسحاب القوات الأمريكية، وأربع سنوات من الحرب على تنظيم داعش التي قادتها الولايات المتحدة بتحالف دولي من 68 دولة بين عامي 2014 و2018؛ لا يزال التنظيم يشكل تهديدًا جديًا على أمن العراق واستقراره بعد أن تحولت استراتيجيته من السيطرة على المدن وفرض أسلوبه في الحكم إلى ما يُشبه حرب العصابات التي أثبت أنه لا يزال يحتفظ بقدراتٍ عالية على تنفيذ الهجمات على المدن والقرى التي تقلُّ فيها مستويات الحماية الأمنية من القوات الأمنية والحشد الشعبي والحشد العشائري.
ويواصل تنظيم داعش الحفاظ على "جيوب" مقاومة للقوى المحلية، الاجتماعية أو السياسية أو العسكرية، في سياق خططه لإعادة هيكلته والتكيف مع البيئة المحيطة، وهي بيئة معادية في الغالب.
يمكن لتنظيم داعش إعادة هيكلة ما تبقى من مقاتليه ضمن مجموعاتٍ "متنقلة" تكون محصنة إلى حدّ ما من استهداف طيران التحالف الدولي الذي، وفقًا لمسؤولين أمريكيين، سوف يستمر في الحرب على التنظيم بعد قرار الانسحاب من سوريا.
قد لا يفكر قادة تنظيم داعش بإعادة السيطرة على أراضٍ أو مدنٍ في العراق وسوريا بعد فشله في الحفاظ على مناطق سيطرته خلال أربع سنوات من الحرب التي قادها التحالف الدولي، وحالة "الرفض" المجتمعي للسكان الذين خضعوا لسلطته نتيجة التطبيق الصارم لما يعتقده التنظيم بانها تعاليم الشريعة الإسلامية.
وتُشير تقارير إلى أنّ التنظيم يسعى لإعادة بناء قدراته في مناطق انتشاره في غرب وشمال غربي العراق وسيطرته المؤقتة على بعض الطرق الرئيسية بين المحافظات والمدن واستيفاء أموال على الشاحنات وأموال أخرى يقوم بالحصول عليها من فرض الإتاوات على أصحاب المهن ورجال الأعمال في بعض المدن، أو عمليات الخطف، لتمويل ما يكفي لإعادة هيكلة تنظيمه والسيطرة على ما تبقى من مقاتليه.
يُجدد تنظيم داعش آليات الحصول على الأموال اللازمة لإدامة مستلزمات الحفاظ على وجوده بما يكفي لإعادة بناء هيكلة جديدة تتضمن قيادات الصفوف الأولى بما يتيح لها إمكانيات السيطرة على الأفراد والمجموعات والفروع المرتبطة به في مناطق متفرقة ومتباعدة وتهيئتهم لظهور جديد في العراق أو سوريا، أو في كليهما في مرحلة لاحقة.
إذا كانت الولايات المتحدة تُدرك أنّ القضاء على تهديدات تنظيم داعش بشكل كامل لا يبدو أمرًا واقعيًا لدى الكثير من القادة العسكريين، فإن الأكثر واقعية هي مسألة تحجيم قدرات التنظيم إلى الحد الذي يمكن فيه لقوات الأمن المحلية، من دون دعم أمريكي مباشر، الحفاظ على الأمن والاستقرار ومنع سقوط المدن والمناطق ثانيةً بيد التنظيم.
ومن متابعة العمليات "الأمنية" التي ينفذها مقاتلو تنظيم داعش في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وكركوك وديالى في العراق، يبدو بشكلٍ واضح أنه يسعى لإعادة بناء هيكلته وقياداته في مختلف الصفوف بالاعتماد على ما تبقى لديه من العنصر البشري والإمكانيات المالية والمعدات القتالية بما قد يشير إلى احتمالات عودته خلال سنوات بشكلٍ أكثر خطورة.
ويحتفظ تنظيم داعش بوجود شبه "مستقر" في مناطق متفرقة من شمال قضاء بيجي في محافظة صلاح الدين، وجنوب كركوك في مناطق الحويجة والرياض والرشاد ومناطق أخرى بالقرب من بحيرة حمرين في محافظة ديالى، إضافةً إلى معاقله الأصلية في نينوى شمال غرب العراق وفي الأنبار غرب العراق على الحدود المشتركة مع سوريا وبالقرب منها.
بما فيها الحكومة الجديدة، حكومة عادل عبد المهدي، لم تلتفت الحكومات العراقية إلى عوامل الخطر ومسببات ظهور وقوة التنظيمات المتطرفة التي من بينها، في مرحلة ما بعد الانتهاء من الحرب على تنظيم داعش، إعادة الإعمار والخدمات الأساسية في المحافظات السُنيّة، وإعادة بناء الثقة بين المجتمع السُنّي والحكومة المركزية من خلال خطوات عملية تبدأ بسحب فصائل الحشد الشعبي من المحافظات السُنيّة واطلاق المعتقلين دون مذكرات قبض قانونية، وهم عدّة آلاف بينهم نساء، وتوزيع عادل للسلطات الأساسية والثروات ومنح تلك المحافظات استحقاقاتها الدستورية في موازنة الدولة، إضافةً إلى توفير فرص عمل للعاطلين وإعادة النازحين الذين لا تزال القوات الأمنية وفصائل الحشد الشعبي تحولُ دون عودتهم إلى مدنهم المحررة.
إنّ استمرار انتشار فصائل الحشد الشعبي في المحافظات السُنيّة وسيطرتها على الملف الأمني سيفاقم التوترات الطائفية السنية ـــــ الشيعية، وهي التوترات التي تُشكل عامل جذبٍ للتجنيد في صفوف تنظيم داعش التي تزداد وتيرتها بالتناسب مع زيادة حدّة التوترات الطائفية.
لعبت فصائل الحشد الشعبي دوراً محورياً في هزيمة تنظيم داعش من مناطق سيطرته في المحافظات السُنيّة ما أتاح لها البقاء في هذه المحافظات، ورفض الدعوات التي تطلقها مجالس المحافظات لسحب تلك الفصائل وتسليم المدن والمناطق للقوات الأمنية، وهو ما ترفضه قيادات الحشد الشعبي التي ترفض أيضاً أيّ دعواتٍ لحل نفسها وإدماج مقاتليها بالقوات الأمنية.
إنّ خسارة التنظيم لمناطق سيطرته أتاح له الاستفادة من قوى قتالية كانت "معطلة" لانشغالها بإدارة المدن وحماية المقرات ونقاط التفتيش وتقديم الخدمات، كما أنه سيتمتع بفائض مالي كان ينفقه على تقديم الخدمات ونفقات الإعانة الاجتماعية للسكان الخاضعين لسلطاته من غير المنتمين للتنظيم، ونفقات أخرى، سيوظفها جميعاً في الإنفاق فقط على إعداد المقاتلين وتسليحهم وشراء الآليات والمعدات، إضافةً إلى رواتب مقاتليه.
يمكن القول، مع انتهاء الحرب على تنظيم داعش وإعلان النصر عليه في سوريا والعراق قبل أكثر من عام، إنّ التنظيم نجح في التأقلم مع البيئة التي يتواجد فيها، وهي بيئة معادية في الغالب، حيث تحوَّل من قوةٍ شبه نظامية تخوض حروباً مع جيوش نظامية إلى منظمةِ حرب عصابات تعمل على شكل مجموعات صغيرة متنقلة.