عند البعض، قد لا يبدو الربط منطقياً في ظاهره بين مشروع صفقة القرن التي باشرت طلائع تطبيقه بالظهور مع الإفصاح الأميركي عن مؤتمر اقتصادي حوله في البحرين وبين تشديد الحصار والتهويل بحرب شاملة على إيران ما لم تكفّ الأخيرة عن تهديد الأمن والسلم الدوليين أو ما لم تعدّل سلوكها المعادي لدول المنطقة. إلاّ أن البحث السياسيّ الجادّ لا يمكنه بحال إغفال شبهة العلاقة بين الأمرين طالما أن خطوط التشابُك والتداخُل بين إرادتين مُتضادتين حول صفقة القرن قائمة وتزداد صراعاً.
الإرادة الأولى تجسّدها الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاء واشطن من العرب. وهي تقضي بضرورة إزالة كامل العقبات التي تعترض إنجاز صفقة القرن لتسوية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي الذي شارف قرناً تقريباً على ظهوره.
والإرادة الثانية تجسّدها دول ذات تأثير فاعِل وقدرة مادية ملموسة على إجهاض مشروع صفقة القرن لأسبابٍ متعدّدةٍ.
تأتي إيران على رأس الدول الإقليمية في القدرة على العرقلة والإجهاض. فإيران ترفض الاعتراف بإسرائيل. وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تمدّ فصائل المقاومة الفلسطينية بالسلاح. وهي التي تمثل تهديداً حقيقياً للمصالح الأميركية والإسرائيلية في الشرق الأوسط. ومن دون إضعاف إيران وخنقها اقتصادياً تمهيداً لإذعانها وتعديل سلوكها، يُقدّر الأميركيون وحلفاؤهم أن أيّ مشروع يُعدّ للمنطقة لن يُكتَب له النجاح.
وصفقة القرن هي أكثر من مشروع الاقتصادية يهيّأ للمنطقة. وهي أكثر من مجرّد تحقيق سلام عربي إسرائيلي شامل.
صفقة القرن هي إعادة ترتيب المجتمعات العربية ومعها دول المنطقة عبر هندسة الوعي الجمْعي وصوغ جديد لهوية، منزوع منها الرغبة باستعادة الحقّ أو مقاومة المحتل والمغتصب دوماً للتاريخ والوجدان العربي والإسلامي تجاه قضية، تُعتبر من أكثر القضايا الإنسانية إشكالاً على المستوى الدولي في الوضع الراهن اليوم.
صفقة القرن تقوم على أساس واحد فقط وهو الربح الاقتصادي الذي لا يُقيم وزناً، لا للجغرافيا والتاريخ، ولا للعروبة والإسلام وإنما الولاء دائماً هو للربح المادي. وباختصار شديد تعتبر "الصفقة" إنهاء لكل المسلمات العربية والإسلامية التي برزت منذ عام 1948 وإلى اليوم والتي تؤكّد على حق العرب تاريخياً في أرض فلسطين وتقاوم الاعتراف بأيّ وجود لدولة إسرائيلية في قلب العالم العربي.
في ظل صفقة العصر هذه، لا يمكن الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة، لا بحدود 67 ولا بحدود 2019، بل عن مجرّد سلام اقتصادي عربي إسرائيلي لا يُقيم وزناَ للمصلحة العربية بقدر ما يجمع حلفاء واشنطن من دول عربية إلى جانب إسرائيل وتوحّدهم أمام عدوين:
العدو الأول هو الشعوب الثائرة على الاستبداد والمناضلة من أجل ديمقراطيات حقيقية وسيادات وطنية مستقلة عن أية وصاية أميركية أو غربية.
والعدو الثاني هو إيران بدعمها المادي والعسكري لقوى وفصائل المقاومة المسلحة في المنطقة والتي تشكّل رأس حربة في مناهضة وإجهاض أيّ مشروع أميركي إسرائيلي.
وعلى الرغم من الضغوطات الهائلة على إيران التي تدعم المقاومة الفلسطينية بالسلاح وتوفّر لها الغطاء الإسلامي في النضال والمواجهة ، إلا أن إمكانية التأثير على المقاومة الفلسطينية من البوابة الإيرانية ستبقى وَهْماً لا يمكن إدراكه.
فلا يُعقل أن تتخلّى إيران عن نهجها وتعهّداتها تجاه القضية الفلسطينية لأسباب أيديولوجية وسياسية وإلا يكون فقَدَ نظامها مشروعية وجوده، كما أنه لا يمكن لأيّة قوى مهما كبر حجمها وعظم تأثيرها واتّسع نفوذها أن تمرّر مشروع صفقة القرن طالما أنه لا يوجد شريك فلسطيني واحد قابل للسير في هذا المشروع. فمَن هو ذاك السياسي الفلسطيني الذي سيجهز على تاريخ شعبه؟
والسلطة الفلسطينية التي كانت يوماً تراهن على سلام حقيقي عبر المفاوضات مع الاحتلال ستكتشف أنها وقعت في خطأ فادِح في تاريخ النضال الفلسطيني. وستكون العودة إلى امتشاق البندقية عند كوادرها من قيادات فتح التاريخية أقرب إليهم من أية عاصمة عربية.
لهذا لا يسع العرب مهما قدّموا من أموال وبذلوا من عروضات استثمارية في الأراضي الفلسطينية، أن يشتروا ذِمَم الفلسطينيين في التخلّي عمّا تبقّى لهم من حق في المطالبة بأرضهم مهما كان الثمن في المواجهة غالياً، لأن الموت والعيش في ظل شروط صفقة القرن سواء. وموت شريف خير من حياة ذليلة مهما كان الإغراء والوعيد، والله غالب على أمره.
محمد علوش