فيما يستمر التوتر بين الولايات المتحدة الاميركية والجمهورية الاسلامية الايرانية، يواصل الرئيس الاميركي تغريداته وتهديداته لإيران، ولكنه كان في آخر تغريداته اكثر تحديدا بحيث نفى الحرب العسكرية وركز على الحرب الاقتصادية. ولكن من وراء ذلك، ماذا يريد ترامب من ايران؟
وكان ترامب قد أعلن أنه قدم رقم هاتف خاص الى سويسرا لإيصاله الى ايران، وانه ينتظر اتصالا من الايرانيين، ولكن لحد الآن لم يتصل الايرانيون. إذ أكد قائد الثورة الاسلامية ان لا مفاوضات مع اميركا ولا حرب بل مقاومة.
ومازال مسلسل التصعيد والتهديد مستمرا من قبل ترامب، منذ انسحابه بشكل أحادي من الاتفاق النووي واعادته فرض الحظر على ايران؛ يرفع حدته حينا ويخفضها حينا آخر. لكنه يؤكد ان لا حرب عسكرية محتملة ضد ايران، ويركز على الحرب الاقتصادية، هذا باعتباره سمسارا، ويمثل المال والتجارة اولى اولوياته.
وبعد آخر التهديدات، التي هدد فيها ترامب يوم الاثنين (20 ايار/مايو 2019)، قائلا: إن إيران ستواجه "قوة هائلة" إن حاولت فعل أي شيء ضد مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، قال الرئيس الايراني، حسن روحاني، يوم الثلاثاء (21 ايار/مايو 2019): ان ترامب تراجع عن تهديداته لطهران، بعدما حذره مساعدون عسكريون من خوض الحرب مع إيران.
وانتقد روحاني، في خطاب متلفز، من وصفهم بالسياسيين المبتدئين وذوي الأفكار الساذجة في الإدارة الأميركية، قائلا إن "وحدة الأمة الإيرانية" غيرت قرار ترامب بشأن الحرب، مشددا على رفض ايران إجراء محادثات مع الولايات المتحدة، وذلك بعدما قال ترامب إن إيران هي من ستدعو وستطلب إجراء مفاوضات "عندما تكون على أتم استعداد" لذلك.
وقال روحاني في تصريح سابق: "الوضع اليوم غير مناسب لإجراء محادثات وخيارنا هو المقاومة فحسب".
ولكن ماذا يريد ترامب من ايران من وراء ضغوطه؟ يبدو ان هناك هدفين أحدهما واضح للجميع وهو محاولة فرض المفاوضات على ايران بالشروط التي يحددها، أي انه يواصل تشديد الضغوط على طهران، وبالطبع هذه الضغوط اقتصادية بالدرجة الاولى، ويتم تشديدها بالتدريج، وصولا الى تصفير صادراتها بما فيها النفطية، من خلال سد قنوات التبادل المالي امامها، وتهديد الدول الاخرى وتحذيرها من التعامل مع ايران.
والهدف الثاني هو ايصال الضغوط الاقتصادية الى تدمير الاقتصاد الايراني، لكي لا تتمكن الحكومة من تنظيم معيشة المواطنين، وارتفاع الغلاء وبالتالي تأجيج الاستياء الشعبي الداخلي، على أمل تغيير النظام من الداخل، او على الاقل زعزعته من الداخل، للانقضاض عليه في الفرصة المناسبة، مثلما فعلت مع العراق. وبين الحين والآخر، يتحدث ترامب او بعض المسؤولين الاميركان عن تصاعد حالة الاستياء الشعبي داخل ايران، كما يخيل اليهم، او حسب المعلومات المغلوطة التي يوصلها اليهم مناوئون للنظام الاسلامي الايراني، ويرغبون بالتصعيد الاميركي ضد ايران.
وأما بالنسبة للهدف الاول، وكما قدمنا آنفا، فإن الموقف الرسمي يرفض المفاوضات ويرفض الضغوط من اجل دفع ايران الى المفاوضات، إذ ترى طهران ان واشنطن اذا كانت تريد المفاوضات فلماذا انسحبت من الاتفاق النووي، الذي جرت من اجله مفاوضات ماراثونية طويلة؟ وتعتبر الاتفاق النووي أفضل اطار للمفاوضات ان رغبت واشنطن بذلك. وحتى الآن يبدو ان ايران فازت في الجولة الاولى من الصمود ضد الضغوط الاميركية، ولا يبدو في الافق اي احتمال لاستسلامها، بل على العكس، تأقلمها مع الضغوط، وتجاوزها مثلما ذلك مرارا ونجحت فيه من قبل.
كما انه لا يوجد أحد، حتى ترامب نفسه، لا يأخذ تغريداته وتهديداته على محمل الجد، نظرا لتناقضاته، بين التغريدة والاخرى، بل في التغريدة نفسها. ولعل هذه التناقضات مصدرها النزعة التجارية له، إذ يتخذ قراراته وفق السوق والعرض والطلب.
وأما عن الهدف الثاني، اي تصعيد الضغوط وصولا الى تدهور الاقتصاد وبالتالي تأجيج الاستياء الداخلي، فلابد من القول، ان ايران ليست كعراق صدام، إذ ان صدام كان عونا للحصار على شعبه، ورغم خيرات العراق، فقد حرم الشعب منها، وجوع شعبه الى ان اسقطته اميركا في الفرصة المناسبة قبيل تصاعد الاستياء الشعبي. فإيران ليست كالعراق والنظام الاسلامي ليس كنظام صدام، فلقد نجحت طهران وطيلة اربعين عاما بعد الثورة، في تحويل التهديدات والحظر الى فرص لتطوير صناعاتها وتحقيق الاكتفاء الذاتي، في عدة مجالات، مثلا حاربوها في البنزين، قامت بداية بتقنين البنزين، ثم طورت مصافيها وافتتحت مصافي عديدة، واليوم هي مكتفية ذاتيا بهذه المادة الاستراتيجية. فضلا عن تحقيق التطور العلمي الواعد، فاليوم ايران من ضمن الدول الاولى عالميا في تقنيات هامة بما فيها تقنية النانو والتقنية الحيوية والخلايا الجذعية.
كما ان لدى ايران خيارات متعددة في مقاومة التدهور الاقتصادي، إذ خفضت اعتمادها على العائدات النفطية الى دون 30 بالمائة، كما انها تسعى لتطوير علاقاتها التجارية مع دول الجوار. خاصة اذا علمنا ان اميركا وفي حالة أشبه بالتراجع أعفت العراق من الحظر على ايران، فيمكن ان يصبح العراق احدى بوابات ايران التجارية. ولدى الحكومة الايرانية برامج لدعم السلع الاساسية لئلا يتضرر المواطنون بالآثار الاقتصادية للحظر.
ويرى بعض المحللين، ان هذه الضغوط تهدف لتمرير ما يسمى "صفقة القرن"، وهذا رأي غير مستبعد ايضا، ولكن ما غاب عن بال ترامب ومستشاره وصهره جاريد كوشنر (عراب صفقة القرن)، ان ليست ايران وحدها من يعارض صفقة القرن، فهذه الصفقة لا اعتبار لها، ولن توفر للكيان الصهيوني هامشا آمنا، مادامت جبهة المقاومة وشعوب المنطقة ينبض لها عرق.
وخلاصة القول، ان الضغوط القصوى التي يمارسها ترامب ضد ايران، لن تمكّنه من تركيعها، لأنه وبكل بساطة لم يعرف طبيعة الايرانيين، الرافضين للضغوط، فالاستسلام لديهم أشد ألما الحظر نفسه.
ولحد الآن ورغم مضي عام على خروج ترامب من الاتفاق النووي بشكل أحادي، واعادته فرض الحظر بل تشديد الحظر، على طهران، حيث طبقت وزارة الخزانة الاميركية اكثر انظمة العقوبات قسوة التي فرضتها واشنطن حتى الآن، وأدرجت قرابة 1000 من الكيانات والافراد الايرانيين على اللائحة السوداء، واستهدفت تقريبا جميع قطاعات الاقتصاد الايراني. ولعل سياسة الضغط الاقصى قد تلحق بعض الضرر بالاقتصاد الايراني، لكن لا توجد حتى الآن اي مؤشرات على احتمال تغيير ايران لسياساتها او وجود رغبة لدى قادتها في الجلوس الى طاولة المفاوضات والاستسلام لمطالب ترامب.
كما انه لا توجد أدنى علامات على أن الوضع الاقتصادي الخاص الذي تسبب به الحظر الاميركي الجائر، قد تسبب بحصول اضطرابات او احتجاجات شعبية ولو على مقاييس بسيطة.
إذن، نقول بضرس قاطع، ان سياسة الضغوط الاميركية لن تنجح في تركيع ايران، التي تجد امامها خيارات عديدة في تجاوز هذه الضغوط، وسيبدي قادم الايام، نجاح الحنكة الايرانية في ادارة الصراع وتلافي الضغوط وتحويلها الى فرص لتطوير الذات.