هنري روم
يظل الاقتصاد الإيراني على حاله لأنه متنوع، وهي سمة تغفل عنها واشنطن غالباً. وقد تمكنت قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات غير النفطية من تخفيف آثار انهيار عائدات النفط نتيجة العقوبات.
إيرانيات يتظاهرن أمام السفارة الأميركية في طهران في تشرين الثاني / نوفمبر 2019
تناولت مجلة "فورين أفيرز" الأميركية واقع إيران بعد سنة من العقوبات الأميركية الهائلة في إطار حملة "أقصى ضغط" على "الجمهورية الإسلامية"، خالصة إلى أن طهران قد امتصت هذه العقوبات وأصبح اقتصادها مستقراً ولا يزال مشروعها النووي مستمراً وكذلك دورها الإقليمي. والآتي ترجمة نص المقالة:
قبل عام في مثل هذا الأسبوع، بدأت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما أسمته حملة "أقصى ضغط" ضد إيران. وكانت الولايات المتحدة قد انسحبت من الاتفاق النووي الإيراني في أيار / مايو 2018. وفي تشرين الأول / نوفمبر، أعادت واشنطن فرض مجموعة من العقوبات الاقتصادية التي أدت إلى التضييق على صادرات النفط الإيرانية وتقليص وصول البلاد إلى النظام المالي الدولي. توقع بعض المحللين أن يتحدّى أصدقاء إيران في أوروبا وآسيا الولايات المتحدة لتقديم مساعدة اقتصادية لإيران. واعتقد آخرون أن العقوبات ستجعل الاقتصاد الإيراني يدخل في "دوامة الموت"، مما يترك لطهران خيارين إما الاستسلام أو الانهيار. لكن أياً من هذه التوقعات لم يحصل.
وبدلاً من ذلك ، تدخل إيران الآن عامها الثاني تحت حملة "أقصى ضغط" واثقة من استقرارها الاقتصادي وموقعها الإقليمي. من المحتمل أن يستمر المرشد الأعلى السيد علي خامنئي وغيره من المتشددين في مساره الحالي: ستواصل إيران دعم سوق النفط مع تعزيز اقتصادها غير النفطي، وستواصل توسيع برنامجها النووي مع رفضها الحديث مع واشنطن.
حتى بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، توقعت إيران أن تساعد الأطراف الأخرى في الاتفاقية في تعزيز اقتصادها. بعد كل شيء، تعهد الموقعون على الاتفاق بدعم صادرات النفط الإيرانية. بسبب الضغط الأميركي، لم يتحقق هذا الدعم أبداً. ساعدت أوروبا في وضع آلية مالية تتجاوز العقوبات الأميركية، لكن هذه الآلية ستتعامل فقط مع التجارة ذات الطبيعة الإنسانية. في النهاية، لا يمكن للحكومات الأوروبية أن تفعل الكثير لدعم التجارة مع إيران، لأنها لا تستطيع إجبار الشركات الخاصة على تحدي العقوبات الأميركية.
كما أن الحكومات الصديقة الأخرى ـ الصين وروسيا والهند ـ لم تقم بالتخفيف من نتائج هذه العقوبات. كل هذه الدول لها أولويات أكبر لا ترغب في تعريضها للخطر في علاقاتها مع الولايات المتحدة. بالنسبة للصين، تأخذ المفاوضات التجارية والعلاقة الاستراتيجية الأوسع نطاقاً مع واشنطن الأولوية بين القضايا. روسيا تريد تجنب إعطاء الكونغرس سبباً آخر لفرض عقوبات على الكرملين. والهند حريصة على تعميق العلاقات الدفاعية مع واشنطن، مستفيدة من الانفصال الأميركي مع باكستان.
تواجه الصين والهند وروسيا ضغوطًا قليلة من سوق النفط للوقوف طرفاً مع إيران. الطلب العالمي يتباطأ، والعرض وفير، والأسعار منخفضة، فلماذا تخاطر هذه الدول بالعقوبات الأميركية لشراء النفط الإيراني؟ تعد الصين أكبر زبون نفطي لإيران، لكن مشترياتها صغيرة نسبياً. منذ فرض العقوبات، لجأت بكين إلى المملكة العربية السعودية لتلبية الكثير من احتياجاتها النفطية. لدى الهند أيضاً الكثير من مصادر النفط الخام الرخيص التي لا تتحمل مخاطر فرض العقوبات. ليس لدى روسيا حافز يذكر لمساعدة دولة زميلة مصدرة للنفط، بالنظر إلى أنها تعمل عن كثب مع أوبك لتقليل حجم النفط الخام في السوق اليوم.
لقد عانت إيران من صدمة شديدة بسبب عزلتها الاقتصادية الدولية. انخفضت صادرات البلاد من النفط من 2.4 مليون برميل يومياً في نيسان / أبريل 2018 إلى أقل من 500000 برميل في أيلول / سبتمبر 2019. دخل الاقتصاد في حالة ركود، وارتفع التضخم، وفقدت العملة 60 في المائة من قيمتها مقابل الدولار. إدارة ترامب تصف هذه الإحصاءات كدليل على نجاح العقوبات. لكن علامات أخرى تظهر أن الاقتصاد الإيراني يستقر.
يتوقع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أن الاقتصاد الإيراني سوف ينتعش من الركود إلى نمو يقارب الصفر في المائة في عام 2020. ويتوقع صندوق النقد الدولي كذلك أن ينخفض التضخم في إيران من 35.7 في المائة في عام 2019 إلى 31 في المائة في عام 2020. العملة الإيرانية المتقلبة، الريال استقرت بين 115،000 و 120،000 للدولار، مستعيدة بعض الهدوء الذي هي بأمس الحاجة إليه في المعاملات اليومية. كما أن مشاركة القوى العاملة والعمالة (في الاقتصاد) في ارتفاع مستمر. وسيكون الاقتصاد الإيراني كما كان في السابق وسيكون ناتجه المحلي الإجمالي في عام 2020 كما كان في عام 2015 لكنه سيكون مستقراً، ومن المحتمل أن تستنتج قيادة البلاد أن إيران يمكنها تحمل الضغوط الأميركية للعام المقبل.
يظل الاقتصاد الإيراني على حاله جزئياً لأنه متنوع، وهي سمة تغفل عنها واشنطن غالباً. في عام 2017، شكّل النفط الخام 43 في المائة فقط من الصادرات الإيرانية - مقارنة بـ78 في المائة في السعودية، على سبيل المثال. لهذا السبب، تمكنت قطاعات الخدمات الصناعية والزراعية وغير النفطية في إيران من تخفيف الضربة الناجمة عن انهيار عائدات النفط بموجب العقوبات. إن القطاعات غير النفطية تولد معظم الإنتاج والوظائف الاقتصادية في إيران. لقد أثبتت مرونة أكبر في ظل العقوبات الأميركية مقارنة بقطاع الطاقة، الذي يعتمد بشدة على الوصول إلى السوق العالمية.
إن الاقتصاد الإيراني لا ينفد من تأثيرات العقوبات بالكامل. إذ لا تزال البطالة مشكلة مستمرة، والنظام المصرفي ضعيف بشكل مزمن وغير مؤهل، والقطاع الخاص يعاني من فقر الدم. لكن بالنظر إلى العام المقبل، لا يبدو سيكون الوضع مزعجاً، وقادة البلاد يتخذون خطوات استباقية. ووفقاً لمصادر الأخبار الرسمية، تخطط الحكومة الإيرانية لضمان موازنة التشغيل من دون عائدات النفط. ويمكنها الاستفادة من احتياطياتها البالغة 100 مليار دولار لتغطية أي فجوات ولضمان استمرار الإنفاق الاجتماعي القوي الذي يتوقعه الإيرانيون. وفي حين أن هذه التدابير ليست مستدامة إلى أجل غير مسمى، فإنها ستدعم الاستقرار الاقتصادي لإيران خلال العام المقبل.
القوة الإقليمية
من بين أهداف حملة "أقصى ضغط" الأميركية رفع تكلفة مغامرات إيران الإقليمية. لكن يبدو الآن أن من المحتمل أن تقضي إيران عامها الثاني في ظل العقوبات الأميركية وهي تدعم موقعها الإقليمي القوي بالفعل.
فالشهر الماضي، تخلت إدارة ترامب على عجل عن حلفائها الكرد في سوريا وعن التزامها بأمن الطاقة، تاركة فراغاً إيران في وضع جيد لملئه. علاوة على ذلك، أشارت الإدارة الأميركية مراراً إلى أنها لن تقوم برد عسكري على السلوك الإيراني الأكثر استفزازاً: لم يرد ترامب بقوة على إسقاط طائرة أميركية بدون طيار، وعلى الهجمات على ست سفن تجارية في الخليج الفارسي، والاستيلاء على ناقلة نفط، أو ضربات 14 أيلول / سبتمبر التي عطّلت نصف إنتاج النفط السعودي. تصر إدارة ترامب على أنها لن تتخلى عن شركائها الإقليميين. بالفعل، أرسل الجيش الأميركي 14000 جندي إضافي إلى الشرق الأوسط منذ أيار / مايو الماضي. لكن بالنسبة لإيران والسعودية و"إسرائيل" والإمارات العربية المتحدة، فإن الرسالة واضحة: ربما يكون ترامب يزيد من الدفاعات، لكنه لا يمتلك القدرة على القتال.
لدى إيران فرصة غير عادية لتعزيز ميزتها مع القليل من المعارضة العسكرية أو الدبلوماسية. ستستغل طهران هذا الانفتاح بتصعيد جهودها لتعطيل تجارة النفط واتخاذ خطوات استفزازية في الإنتاج النووي، مثل توسيع إمداداتها من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة واليورانيوم المخصب. ومن شبه المؤكد أن إيران سوف تستمر في التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة، وبخاصة العراق، حيث تقوم القوات المدعومة من إيران بقتل المحتجين والسعي للحصول على نفوذ سياسي. لطالما مارست طهران نفوذاً كبيراً في العراق، لكن فك الارتباط (مع العراق) الذي قامت به الإدارة الأميركية قد بدد أي شك بشأن قيامها بدور مباشر.
لا الجمهورية الإسلامية ولا أنشطتها الإقليمية عانت من ضربة قاضية بسبب عودة العقوبات. لكن الدبلوماسية التي تضم الولايات المتحدة وإيران ربما تكون قد حققت ضربة قاتلة. ستستمر أطراف ثالثة في محاولة إعادة واشنطن وطهران إلى طاولة المفاوضات، لكن من المحتمل أن تفشل.
من المحتمل أن يرى المرشد خامنئي الوضع الإيراني المحلي والإقليمي مستقراً، وبالتالي لن يشعر بالحاجة إلى السماح بعقد اجتماعات رفيعة المستوى بين المسؤولين الإيرانيين والإدارة الأميركية التي يُنظر إليها على أنها معادية - وخاصة خلال عام انتخابات في الولايات المتحدة. وبدلاً من الدبلوماسية، وبدلاً من الانهيار، ستواصل طهران سلوكها الاستفزازي. السنة الثانية من حملة "ضغط أقصى" قد تكون أكثر اضطراباً من السنة الأولى.
ترجمة: هيثم مزاحم – الميادين نت