تنظر طهران إلى الدفاع الالكتروني بوصفه يشمل جميع الإجراءات والخطوات المؤدية لتقليل مستوى الضرر، وفي المقابل، رفع مستوى الصمود والثبات بوجه التهديدات الخارجية وحماية الامن القومي الإيراني، وفي الواقع، فإن الدفاع الالكتروني يعني الدفاع الثابت والراسخ والمستدام من دون استخدام الأسلحة التقليدية المعروفة.
وقد اعتبرت إيران ان سقف التهديدات الالكترونية ضدها يكمن في شن هجوم الكتروني أميركي (أو غير أميركي) ضد المنشآت النووية والبنى التحتية الصناعية الكبرى، لذا فإن دائرة عمليات المقر الالكتروني الإيراني ضخمة للغاية ومجهزة ومحصنة، ما أدى الى أن تحقق إيران العديد من الإنجازات العلمية والتقنية في وقت قياسي، في سياق مواجهتها للهجمات الالكترونية.
اما من الناحية الثقافية والاجتماعية، فإن موضوع الهجمات الالكترونية ضد إيران، إقتضى رفع منسوب الوعي عند أبناء الشعب والمؤسسات والمنظمات الإيرانية المختلفة، لذا، تضاعف الاهتمام في إيران بمسألة الاعتماد على الإنجازات التكنولوجية الداخلية. وعلى المستوى العام، فإن الشعب الإيراني يدرك الآن أن جهاز الهاتف المحمول الذكي يتركز التحكم بنظامه الالكتروني، خارج البلاد، وبإمكانه أن يكون مصدراً جيداً للمعلومات التي يحتاجها الآخرون، وبالتالي، يجب أن يكون كل مواطن خفير بهذا المعنى. هنا، لعب مقر العمليات الالكترونية الإيرانية خلال السنوات الأخيرة دوراً مؤثراً في تحقيق الأسلوب الأفضل لمواجهة الهجمات الالكترونية بالاعتماد على الطاقات والإمكانات الوطنية والداخلية.
الهواتف الذكية وضررها
في السياق نفسه، وضعت إيران على جدول برامجها التنفيذية مهمة تصنيع “هواتف محمولة ذكية آمنة” تلبي متطلبات مستخدميها وتزيل هواجسهم وتوفر الأمن المطلوب لاتصالاتهم وتحول دون استراقها من قبل أية جهة خارجية متربصة، وهذا المنتج سيوفر الأمن المطلوب والراسخ والمستدام ويحول دون أية مخاطرة أمنية وتنصتية.
وقد حذر الجنرال غلام رضا جلالي قائد مقر العمليات الالكترونية في إيران كبار المسؤولين والمدراء في الدولة من مغبة استخدام هذه الهواتف الذكية المصنوعة خارج البلاد، كما هو الحال بالنسبة للكثير من مسؤولي الدول المتقدمة الذين لا يستخدمون مثل هذه الهواتف الذكية في اتصالاتهم المرتبطة بإدارة مؤسساتهم المهمة، ويضيف أن استخدام أجهزة الهواتف المحمولة “يعتبر أمرا في غاية الأهمية لأن قدرتها في المعالجة والتعامل مع المعلومات وأجزائها الدقيقة والمتطورة يمكنها أن تشكل تهديداً جاداً وكبيراً للمسؤولين حيث لا بد أن يتم الاهتمام بذلك كثيراً”، ويضيف أن جميع خوادم هذه الهواتف “تتمركز في خارج البلاد وهناك إمكانية واسعة لاستغلال المعلومات التي يتبادلها المستخدمون والاستفادة منها حتى في تنفيذ الأعمال الإرهابية”.
وفي الوقت نفسه، يرى القيمون على مقر قيادة عمليات الدفاع الالكتروني في إيران أن توسيع وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي طبقاً للبنى التحتية المتمركزة في الخارج، “يجعل الأعداء لا يحتاجون الى استخدام الجواسيس في إيران لأن العوامل التقنية والتكنولوجية والقدرة الناعمة التي تمتلكها هذه الشبكات تفرض هيمنتها بشكل كامل على مستخدمي هذه الهواتف وتسيطر على المعلومات المتوافرة هناك وبطريقة سهلة جدا”.
الإكتفاء الذاتي
بادرت دول الاتحاد الأوروبي الى تدعيم أسس وأركان جيشها الالكتروني من خلال القيام ببرامج واسعة وخطوات عملية مؤثرة لأنها كانت تتوقع أن تصيبها شظايا الحرب المستعرة بين القوى الكبرى في العالم الالكتروني، وبالأخص في ساحة التنافس المستعر بين أميركا والصين وروسيا، لذلك، فإن وزراء الأمن في دول الاتحاد الأوروبي اعتبروا في أحد اجتماعاتهم أن الهجمات الالكترونية تشكل نوعاً من الهجمات التي تستهدف الحضارة الإنسانية برمتها.
وهكذا فإن الدول التي لم تتعامل بشكل جاد مع حالة الاختراق والهجوم الالكتروني، ولم تضع برامج تهدف الى الاكتفاء الذاتي في التعامل مع هذا النوع من الهجمات، أصبحت عرضة في كل لحظة لهذا النوع من التهديدات لأمنها القومي. مثلاً، دولة مثل السعودية التي تتمركز أنظمتها التشغيلية الالكترونية في الخارج وتدار في الواقع من هناك، ليس مستبعداً تعرضها لهجمات الكترونية في أية لحظة من قبل الدول التي تحتضن تلك الأنظمة. يعني ذلك أن الولايات المتحدة يمكنها، في أية لحظة تشاء، قطع عملية نقل النفط من السعودية أو وقف عمل محطات توليد الماء والكهرباء في الداخل السعودي، وهكذا فإن أميركا يمكنها شن هجماتها الالكترونية ضد الدول التي تنوي إستهدافها في أية لحظة تقررها أو تراها تصب لمصلحتها.
هذه المساعي الإيرانية لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الأجواء الالكترونية وتوطينها، عبر عنها الجنرال حسين دهقان وزير الدفاع الأسبق في إيران، وذلك في مراسم تدشين عدد من الإنجازات الاستراتيجية في المجال الالكتروني، بتشديده على الاهمية القصوى للدفاع الالكتروني في إيران وضرورة توطين التقنية الالكترونية وتحقيق الاكتفاء الذاتي والابتكار في هذا المجال، وقال:”خطونا خطوات إيجابية وكبيرة للغاية في المجال الالكتروني بفضل اعتمادنا على نبوغ وابتكارات العلماء والخبراء والمتخصصين الإيرانيين. وفي هذا المجال، أوجدت إيران بفضل اعتمادها على القدرات والطاقات الداخلية “نظام التشغيل الداخلي والآمن”، وهو من الإنجازات المشتركة للتعاون بين الشركات المعرفية وعدد من الجامعات الإيرانية حيث بإمكان هذا الإنجاز أن يزيل نهائياً أحد هواجس وبواعث القلق الجاد الناتج عن ارتباط البنى التحتية للمراكز الحساسة والحيوية الإيرانية بنظام التشغيل الالكتروني الخارجي حيث يعتبر هذا الهدف واستمراره وتطويره من الاستراتيجيات الثابتة في مقر العمليات الالكترونية في إيران”.
وبالفعل، نجحت إيران بفضل اعتمادها على إمكاناتها الداخلية وعلمائها في إنتاج برامج مرتبطة بتحقيق الأمن المطلوب في شبكة الانترنت وأبرزها الآتي: “محطة تشخيص وتحديد التهديدات الالكترونية”، “مركز العمليات الأمنية”، “جدار النيران السريعة وذات الطاقة العالية” و”جدار النيران والبرامج الناعمة التطبيقية”، وتم تشغيل هذه البرامج وهي توفر للبلاد فرصة صيانة الشبكات المنظمة لمواجهة تهديدات الاختراق وعمليات التغلغل الالكترونية للعدو.
الحروب ضد منشآت نووية وصناعية وطبية
وعندما زعمت الولايات المتحدة بالتزامن مع عقد المفاوضات بين إيران و”دول 5+1″ أنها تمكنت من تأخير البرنامج النووي الإيراني من 12 الى 18 شهراً، تبين ان هذا الادعاء يستند الى فرضية شن هجمات الكترونية ضد البرنامج النووي الإيراني، الا أن مسيرة التحولات المرتبطة بهذا البرنامج وتوسيع وتطوير أجهزة الطرد المركزي وتصنيع قضبان الوقود النووي بتركيز 20% في محطة الأبحاث النووية والعلمية في طهران، أثبتت أن إيران نجحت في التصدي لهذه الهجمات الالكترونية الأميركية وكذلك الاسرائيلية وأبطلت مفعولها، وهذا يدل على القدرة العالية التي تمتلكها البنى التحتية الالكترونية الإيرانية.
ويقول الجنرال غلام رضا جلالي قائد مقر العمليات الالكترونية في إيران إن أية هجمات الكترونية تشنها أميركا ضد المنشآت النووية الإيرانية “ستكون لها آثار وتبعات مثيلة لأية هجمات عسكرية أميركية الا أن الإجراءات الدفاعية الجيدة المتخذة في البلاد في المجال الالكتروني ساعدتنا في السيطرة على الجزء الأعظم من الأضرار التي يمكن أن تلحق بمنشآتنا النووية والصناعية وإدارتها جيداً”.
وما يسري على المنشآت النووية يسري على المنشآت البتروكيميائية التي تتم إدارتها والتحكم بها وتقييمها ومراقبتها المستمرة من خلال الأنظمة المركزية الكومبيوترية التي يمكن أن تُهاجم وتُختَرق من قبل الجيوش الالكترونية الاجنبية، ولو انها استلمت أوامر تخالف الأوامر المنظمة الصادرة لها أصلاً بسبب اختراق أحد الفيروسات لبرنامجها الكومبيوتري، فلربما يؤدي ذلك الى تعرض هذه المجمعات للخطر الجاد والمدمر، كاشعال حرائق فيها مثلاً.
ولاحظ القيمون على الأمن الإلكتروني أن مراكز السيطرة الكومبيوترية للمجمعات البتروكيميائية الإيرانية هوجمت مراراً من قبل فيروسات أرسلتها جيوش الكترونية أجنبية. وقد أشار الجنرال جلالي الى أن منشأ دخول الفيروسات الصناعية الى المجمعات البتروكيميائية الإيرانية يعود الى استخدام برامج صناعية كمبيوترية مستوردة من الخارج، وقال إن هذه البرامج سببت تلوثاً خلال نصبها بسبب وجود تلك الفيروسات السيئة وبالطبع فإن بعض هذه البرامج تم تلويثها بشكل مبرمج ومنظم من خلال هذه الفيروسات حتى تنشر التلوث المطلوب والدمار في هذه المجمعات البتروكيميائية.
وتعتقد المصادر المطلعة في إيران أن الأميركيين حاولوا من خلال تصنيع المجسّات الالكترونية إدخال هذه الأجهزة والبرامج الملوثة إلى البنى التحتية الصناعية البتروكيميائية في إيران الا أنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم الرئيسية لأن القوى الالكترونية الإيرانية كشفت أمرها وجعلتها غير فعالة وغير مؤثرة.
وتمتلك إيران حالياً خمسين مجمعاً بتروكيميائياً کبیراٌ تم تصنیعها وترکیبها وتشغیل معظمها من قبل الكوادر الوطنية الإيرانية لذلك تم تخصيص مقر خاص لها للحيلولة دون تضررها بسبب هذه الحملات الالكترونية والفيروسية وبالتالي صيانتها من أي نوع من التهديدات والهجمات بفضل امتلاكها برنامجا كومبيوتريا والكترونيا منظما ومدروسا بدقة عالية.
ولم تقتصر الهجمات الفيروسية على المنشآت النووية والبتروكيميائية بل تعدتها الى المجال الإنساني والبشري كما هو الحال مع مهاجمة الأجهزة الكومبيوترية في المشافي التي تقيس العلائم الحياتية للمرضى ونبضات القلب أو ضغط الدم، وهو ما يمكن أن يؤدي الى تسجيل معلومات خاطئة عن حالة المريض الصحية، وبالتالي إيجاد خلل في تلك المعلومات المهمة واتخاذ قرارات خاطئة أحياناً تسفر عن حالات وفاة عديدة.
ويمكن للهجمات الالكترونية في المجال الصحي والعلاجي وضد الأجهزة الطبية والمستشفيات أن تؤدي الى خسائر جسيمة لا تعوض وتسمى بـ”بيوسايبر”، أي هجمات بيولوجية الكترونية.
ويقول السيد بيرحسين كوليوند السكرتير السابق للجنة الدفاع الالكتروني في وزارة الصحة والعلاج والتعليم الطبي في إيران إن القطاع الصحي الإيراني تعرض قبل فترة لهجوم الكتروني، الا أنه فشل “بسبب الاستعدادات المسبقة المتخذة وتطبيق تعليمات المقر المركزي للعمليات الالكترونية في البلاد بهذا الشأن وبالتالي القضاء عليه لحسن الحظ”.
ويقول الجنرال جلالي إذا ركزنا اهتمامنا على استيراد الأجهزة والتقنيات الصحية من دول العالم المختلفة من دون التزام الحذر والحيطة “فإن هذه التقنيات الحديثة يمكن أن تشكل تهديداً لنا في هذا المجال (الصحي والإستشفائي)، ولكن إن درسنا الأمر من جميع جوانبه واتخذنا إحتياطات جيدة، نكتشف نقاط الضعف ونعالجها بشكل جيد”.
(*) هذا المقال هو جزء من سلسلة مقالات للكاتب حول موضوع إيران والحروب الإلكترونية، سينشرها موقع 180 على التوالي.