ينشغل جزء كبير من الجيش الالكتروني للدول المقتدرة في رصد ومتابعة نقاط الضعف الأمني والفجوات الأمنية للدول الأخرى، حتى يتمكن من تنفيذ هجماته المدمرة لاحقاً ضد المنشآت الحيوية لتلك الدول، وهذا هو الوجه الآخر والمدمر لما يعرف بـ”القرية العالمية” لأن جميع المعلومات المرتبطة بمختلف الدول، أصبحت موجودة في العالم الافتراضي، وكلما صغر حجم هذه القرية الكونية أصبح الأمن القومي للدول أكثر عرضة للأخطار القادمة من الأعداء.
الحرب الالكترونية ضد المنشآت النووية
وكمثال على ذلك، فإن إيران تمتلك بنى تحتية أساسية مادية تعرف بالمنشآت النووية لتخصيب اليورانيوم في نطنز والتي تعمل في داخلها أجهزة الطرد المركزي التي تستكمل فيها دورة التخصيب النووي، لأغراض علمية، وهذا الأمر أدى الى تحقيق تقدم سريع في التقنية النووية، الا أن هذه الثروة الوطنية والقومية الإيرانية، الى جانب تطورها السريع، تعرضت للعديد من الهجمات، ولعل أشهرها تلك التي تعرض لها البرنامج النووي الإيراني بالتزامن مع المفاوضات التي كانت تجريها ايران مع مجموعة “دول 5+1″، واكتسبت هذه الهجمة شهرة عالمية من خلال فيروس “استاكس نت” الذي تم اكتشافه لأول مرة في حزيران/يونيو 2010 من قبل المضاد للفيروس “وي. بي. اي. 32”.
استغل هذا الفيروس النقص الأمني الإلكتروني في أجهزة الكومبيوتر التي كان يستخدمها المستخدمون الصناعيون وتم جمع معلومات هامة من هذه الأجهزة وإرسالها الى احدى المنظمات الاستخبارية والأمنية (لربما كانت في أميركا أو اسرائيل) وبالتالي إحداث خلل في المشاريع الصناعية.
وطبقاً لآراء الخبراء، فإن هذه الفيروسات السيئة والمهاجمة “استاكس نت” تم تصنيعها لتنفيذ عمليات تخريبية في منشآت نطنز لتخصيب اليورانيوم وإيجاد خلل في أنظمتها التقنية.
في أواخر ايار/مايو 2012، أعلنت وسائل إعلامية أميركية أن “استاكس نت” تم تصنيعه بأمر مباشر من الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الا أن إدوارد سنودن ذكر في لقاء أجرته معه صحيفة “دير شبيغل” الألمانية أن هذا الفيروس السيء تم تصنيعه بتعاون مشترك من قبل وكالتي الأمن القومي الأميركية والاسرائيلية. كما تم عرض فيلم وثائقي باسم “أيام الصفر” في العام 2016 حول “استاكس نت”، ورد فيه أن هذا الفيروس صنع بتعاون مشترك بين الولايات المتحدة الأميركية ووحدة 8200 في الجيش الاسرائيلي.
وجد فيروس (إستاكس نت) طريقه في تموز/يوليو 2010 نحو محاولة تدمير المنشآت النووية في بوشهر، ثم في ما بعد لاختراق أجهزة الكومبيوتر في نطنز والمحطة النووية الايرانية في بوشهر. وقد اُكتشف هذا الفيروس للمرة الأولى من قبل خبير برمجة إيراني في مشهد، وهو وكيل المضاد للفيروس “وي. بي. اي. 32” البيلاروسي في هذه المدينة. وقد عرف بوجود هذا الفيروس الذي كان يستهدف محطات الرصد والمتابعة في المنشآت الصناعية النووية من خلال نظام التشغيل (الويندوز) بهدف الحصول على المعلومات الصناعية الإيرانية وتدمير البنى التحتية النووية الإيرانية.
الهجمات الالكترونية الأميركية والاسرائيلية
زعمت بعض المصادر أن هذا الفيروس السيء (استاكس نت) تم تجريبه بدءاً من قبل الاسرائيليين في مركز ديمونا النووي على أجهزة الطرد المركزي التي تشبه تلك التي تستخدمها إيران، قبل إدخاله في السوق حتى وصل بالتالي الى إيران.
في الواقع، نجح الجيش الالكتروني للجمهورية الإسلامية الإيرانية (مقر الدفاع السايبري الإيراني) في قلع أسنان هذا الفيروس الحادة من جذورها، أي من قلب برامج الجيش الالكتروني الأميركي والاسرائيلي. ولم تكن هذه المرة الأولى التي تستهدف فيها المنشآت الصناعية الإيرانية الكترونياً، فقد سبقتها عدة هجمات من قبل فيروسات مدمرة من المعروف أن أميركا واسرائيل تتولى تصنيعها، وهي استهدفت منشآت بنى تحتية إيرانية في قطاعات النفط والغاز والبتروكيمياويات وإنتاج الكهرباء، وذلك إستناداً إلى مصادر إيرانية مطلعة.
وناهيك عن الهجمات الإلكترونية التي تعرضت لها المنشآت النووية الإيرانية، فإن العديد من الأجهزة التقنية والتكنولوجية التي تندرج ضمن الصناعات النووية، تعرضت مراراً لمحاولات تخريب. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نستعيد ما أصاب مضخة فراغية كانت تُستورد من الخارج قبل أن تُصنَع في الداخل الإيراني، حيث تبين أن احدى هذه المضخات المستوردة انفجرت بعد مرور خمسين ساعة على تشغيلها داخل احدى المنشآت النووية الإيرانية، وكان بإمكانها أن تؤدي الى خسائر جسيمة، الا أن الخبراء المختصين بادروا الى فحص المضخات الأخرى المستوردة، حيث تبين أن قطعة إضافية أدخلت في هذه المضخات لتقوم بتفجيرها عن بعد عدة ساعات من تشغيلها، كما ثبت فيما بعد أن أميركا واسرائيل تقفان وراء هذه العملية التخريبية.
قدرة المناورة في الحروب الالكترونية
نشهد في أيامنا هذه محاولات حثيثة من أجل شن حرب جو فضائية الكترونية من خلال الطائرات المسيرة والمصممة للقيام بعمليات الاستطلاع وشن الهجمات المتنوعة ضد أهداف محددة. الأمر ذاته ينطبق على الغواصات البحرية التي توجّه عملياً عن بعد وعبر غرفة قيادة وتحكم تكون بعيدة عن تلك الغواصات، بحيث يتابع القادة العسكريون عملياتهم وينسقون خطواتهم بشكل الكتروني، مستفيدين من الأجواء الافتراضية في عالم الكتروني واسع، وبالتالي يديرون ساحات الحرب عن بعد، ويشمل ذلك قطاعات الدفاع والرصد الراداري الالكتروني وبالتالي استهداف المراكز العسكرية للأعداء من دون حدوث المواجهة المباشرة معهم.
ولعل المشكلة الأساسية حالياً هي في كون جميع معطيات وثروات جميع الدول في عالم الانترنت تقع تحت سلطة وهيمنة الولايات المتحدة، وهذا ما يشكل تهديداً جاداً لأمن الكثير من دول العالم. لذلك، بات من الضروري أن تتمكن الدول والحكومات من المحافظة على الحد الأدنى من ثرواتها الوطنية في هذا المحيط الإفتراضي المترامي الأطراف، وتحول بالتالي دون السيطرة عليها من قبل الآخرين، لذا، تبرز الحاجة الماسة للتوصل الى تشكيل نظام الانترنت الوطني لكل من دول العالم بعيدا عن سيطرة وهيمنة أي عدو خارجي.
المساعي الأميركية لفرض السيطرة المطلقة
غير أن الولايات المتحدة تريد أن تبقى يدها مطلقة. أن تسيطر على العالم الإفتراضي الإلكتروني، ومن خلاله تتحكم بمصير الحكومات والشعوب. كل محاولة من أية دولة كبرى أو صغرى للدخول إلى هذا العالم يعتبرها الأميركيون تهديداً حقيقياً لأمنهم القومي، تماماً كما تعاملوا مع الصين في موضوع “5G“. هذا جزء لا يتجزأ من الإستراتيجية الأميركية، وأية محاولة للتغلغل أو الإختراق أو الهجوم، ضد أي من البنى التحتية الأميركية المهمة، تعتبر حرباً ينبغي خوضها بكل قوة ضد “العدو”. في المقابل، تعبر الولايات المتحدة وجيوشها الإلكترونية بمثابة أكبر قوة هجومية في العالم الالكتروني حيث تهاجم بين فترة وأخرى الكترونياً منافسيها في العالم مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، سعياً منها لسرقة معلومات خاصة بتلك الدول.
وبات الأميركيون ينظرون لإيران، في العقد الأخير، بوصفها أحد اللاعبين الجدد في العالم الالكتروني والتي تسعى للدفاع عن كيانها وامنها القومي الالكتروني، بكل الوسائل المتاحة.
ويقول المستشار السابق لوزارة الدفاع الأميركية جيفري كار (خبير في الحروب الالكترونية) إن إيران تمتلك من المصادر والإمكانات اللازمة ما يخولها أن تتحول لاعبا رئيسيا في ساحة الحرب الالكترونية. ويقول جيمس كلابر المدير السابق للاستخبارات القومية الأميركية في العام 2012 إن إيران تبدو أكثر استعداداً من السابق وتمتلك طاقة متنامية في مجال العالم الالكتروني وقد حققت نمواً واضحاً خلال السنوات الأخيرة.
إن تحول الأجواء الالكترونية الى النوع الخامس من الحروب في عالمنا المعاصر، أدى الى أن تبادر إيران الى تنمية علومها الالكترونية وتطويرها وإعداد خبراء متخصصين في هذا المجال، ولذلك، أسست مقر عمليات باسم مقر الدفاع الالكتروني (مقر الدفاع السايبري) بهدف رصد التهديدات الالكترونية ضد البنى التحتية للأمن القومي الإيراني.
الحرس الثوري.. والجيش الالكتروني
يتكون الجيش الالكتروني الايراني من مجموعة من المتخصصين والخبراء في مجال عمليات الاختراق والتغلغل الإلكتروني، درجت العادة أن تبقى هويتهم الحقيقية مجهولة، الا أن الشواهد والدلائل والمعلومات تشير الى ارتباطهم بالحرس الثوري الإسلامي، بدليل أن السيد مجتبى ذو النور، النائب السابق لممثل المرشد الإيراني في الحرس الثوري قال في ايار/مايو 2011 إن إيران استطاعت من خلال استخدام “الجيش الالكتروني” إختراق “مواقع العدو” الالكترونية. كذلك أعلن السيد يدالله جواني الرئيس السابق للدائرة السياسية في الحرس الثوري في العام 2019 أن هذه القوات تمتلك “خامس جيش الكتروني في العالم”.
قبل تشكيل مقر العمليات الالكترونية في إيران، فإن العديد من المؤسسات والمراكز كانت تنشط في هذا المجال، الا أنه بعد الإعلان عن تشكيل هذا المقر، خضعت كافة النشاطات لإشرافه وهي خطوة جيدة لتوحيد هذه العمليات والجهود في إيران.
إن الإعلان الرسمي عن تشكيل الجيش الالكتروني (الجيش السايبري) من قبل قائده الجنرال غلام رضا جلالي، هو عبارة عن تتويج لنشاط تمحور في الجانب الدفاعي وبالأخص في السعي للمحافظة على الأجواء الالكترونية الإيرانية وصيانتها في مقابل محاولات التغلغل فيها واختراقها من قبل دول اخرى.
ويقول الجنرال جلالي رئيس منظمة الدفاع الالكتروني في إيران إنه ومن ضمن المهام الملقاة على هذه المنظمة، “الإعلان عن التحذيرات القومية والوطنية حيال التهديدات الأمنية للبلاد فضلاً عن تأمين البنى التحتية للدولة في مواجهة التهديدات الالكترونية وإيجاد قدرة الردع اللازمة في المجال الالكتروني”.