نعيش حاليا فترة تشهد فيها السياسة الدولية مجددًا حالة من الانهيارات والتحولات الهيكلية، وخلالها تواجهنا دعوات تسعى لسبر أغوار هذا الوضع الاستثنائي.
إسطنبول/ علي آصلان
- نعيش حاليًا فترة تشهد فيها السياسة الدولية مرة أخرى حالة من الانهيارات والتحولات الهيكلية
- ثمة دعوات لحل النظام العالمي الليبرالي الأحادي الذي قادته الولايات المتحدة، واستبداله بآخر متعدد الأقطاب
- التوترات التي تشوب العلاقات عبر الأطلسية والاتحاد الأوروبي، تنذر بحدوث تفكك الغرب والنظام المؤسسي
نعيش حاليا فترة تشهد فيها السياسة الدولية مجددًا حالة من الانهيارات والتحولات الهيكلية، وخلالها تواجهنا دعوات تسعى لسبر أغوار هذا الوضع الاستثنائي.
ومن أبرز تلك المطالبات، تلك التي تدعو لحل النظام الدولي الليبرالي، والنظام الدولي أحادي القطب الذي قادته الولايات المتحدة، واستبداله بنظام آخر متعدد الأقطاب.
بالإضافة إلى ذلك، نجد أن التوترات التي تشهدها العلاقات العابرة للمحيط الأطلسي، والتطورات المدمرة في الاتحاد الأوروبي، تنذر بحدوث تفكك لتحالفات غربية ونظم مؤسساتية بشكل عام.
كما أن هناك افتراضات تشير إلى أنه تبعا لذلك تظهر حركات مناهضة لذلك النظام في مناطق أخرى من العالم.
وفي هذا السياق، فإن محاولة الصين لإحياء نظامها الإمبريالي التقليدي الخاص بها في المنطقة ونشر قواتها في مناطق جديدة على نطاق عالمي، هي واحدة من أكثر الموضوعات التي يجب التوقف عندها.
عدا ذلك يجب أن نضيف إلى تلك القائمة، محاولة روسيا توسيع منطقة نفوذها من خلال قيامها بتحركات عسكرية توسعية مرة أخرى في محيطها.
باختصار، نحن أمام تطورات تتناقض مع بعضها البعض في نفس الوقت.
ومع تعثر نظام العولمة المكون من اقتصاد السوق الرأسمالي والسياسات الديمقراطية الليبرالية، يظهر أمامنا نموذج جديد آخذ في الظهور، يعمل على صهر الدولة السياسية والقومية الثقافية والاقتصاد التجاري في وعاء واحد.
وثمة عاملان مرتبطان ببعضهما يدفعان بعجلة تلك التطورات، فمن ناحية، تسرب رأس المال الغربي الكبير إلى الشرق بحثا عن الأيدي العاملة الزهيدة والتسهيلات الضريبية؛ ومن ناحية أخرى، تدفق اللاجئين والمهاجرين هربا من الشرق والجنوب نحو الغرب بسبب الفقر وعدم الاستقرار والحروب.
هذان العاملان أزعجا استقرار الطبقتين الدنيا والمتوسطة في البلدان الغربية، فبدأت تظهر حالات من التململ والإنزعاج تجاه النظم المستقرة على سدة الحكم.
وفي ظل المخاوف الثقافية والاقتصادية لتلك الطبقتين، فإن كلا من السياستين "الشعبوية اليمينية" التي اتخذت من السيطرة على الدولة والقومية منصة لها، و"الشعبوية اليسارية" التي انتقدت النخب السياسية - الاقتصادية لتصرفها غير المسؤول ودافعت عن الدولة الاجتماعية؛ قد تقدمتا في آن واحد بشكل ملحوظ.
واستغلت هاتان السياستان (اليمينية واليسارية) ما يساور الطبقتين الدنيا والمتوسطة من قلق ومخاوف اقتصادي وثقافي، وأعليتا من شأنهما كثيرًا.
بطبيعة الحال، علينا أن نضيف إلى كل ما ذُكر، الدور الذي يلعبه بعض رؤساء الدول (من النخب القومية والمتحضرة) الذين يشعرون بالقلق إزاء فقدان الغرب للسلطة الاقتصادية نتيجة للعولمة، وفقدان التفوق العرقي والديني للرجل الغربي الأبيض بسبب زيادة الهجرة.
ولعلنا نرى في السياسة الغربية حاليًا ثمة صراع بين النخبة المتحضرة - القومية، والتحالف السياسي الذي شكلته الطبقات الدنيا والمتوسطة من جهة، ونخبة العولمة من جهة أخرى. ولا شك أن التحالف السياسي الأخير يتغول في السياسة يومًا بعد يوم.
أما في الشرق، فنرى أن الديناميكيات التي تعزز الدولة والسياسة مختلفة كثيرًا عما هي في الغرب.
فلقد وجدت السياسة والدولة بالشرق فرصة لتعزز وجودها، بعد أن بدأ الغرب في الفترة الأخيرة بالانطواء على ذاته وعلى مشاكله الداخلية، وترك الشرقَ في مهب التقلبات بعد الانسحاب منه.
ومن الواضح أن إنغلاق الأول على نفسه ما كان إلا سعيا خلف الفرص الاقتصادية الكبيرة التي وفرتها العولمة، وتملصا من الصراعات والأزمات التي تسبب فيها حتى أصبحت واقعا مستمرًا للشرق الضائع.
وعلى إثر ذلك بدأت المجتمعات الشرقية تكتسب مزيدًا من الثقة بالنفس، واتجهت مجتمعات الدول ذات الطابع المؤسسي اللائق، بصفة خاصة بدعم القيادة السياسية القوية، والدول (الشرقية) من أجل الفوز بنصيب الأسد من الكعكة العالمية، وللشعور بأمان أكبر في النظام الدولي الذي يكتنفه الغموض بشكل كبير.
أما غير المدركين لذلك (وخاصة الأفراد من النظم الاستبدادية والضعيفة)، فيتدفقون مباشرة من الشرق صوب الغرب، إما من خلال ما يسمى بهجرة العقول، أو بالهجرة غير الشرعية.
وبعد كل هذه الحقائق، يمكننا أن نصل لاستنتاج مفاده أن الدولة القومية ذات السيادة، ستكتسب مزيدا من القوة مرة أخرى أمام المؤسسة الدولية ورأس المال العالمي.
لكن وبكل آسف ستكون هي (الدولة القومية) أيضا مع الشق الخاسر، كلما ركزت على ماضيها الإمبراطوري.
وعند تناول خطوات السياسة الخارجية ودراستها بعناية، نرى أن الدول الإمبريالية القديمة مثل الصين، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيران، وتركيا، قد بدأت لفترة من الزمن بتقييد حدود الدول القومية.
ولا شك أن مثل هذه السياسات يغذيها شعار "يستحيل أن تنعم بالأمان من دون أن تكون الأقوى".
** النظام العالمي الإمبريالي
قد تؤدي جائحة كورونا (كوفيد-19)، إلى إكساب الاتجاهات الموجودة سالفة الذكر، ووضع الغموض الذي يكتنف النظام العاملي، نوعًا من الزخم.
وفي ظل هذه التطورات بدأت حالة كبيرة من الجدل حول سلسلة من الأسئلة الهامة التي بحاجة إلى إجابة، منها: ماذا سيكون مصير العولمة بعد نهاية جائحة كورونا؟
هل ستبقى الولايات المتحدة زعيمة للنظام العالمي؟
وهل سيبقى الاتحاد الأوروبي محافظا على تماسكه؟
وهل سيفقد نموذج الحكم الرأسمالي الاشتراكي صلاحيته؟
وهل ستتخلى الصين عن استراتيجية "الصعود التدريجي" وتصبح أكثر عدوانية؟
خلاصة القول، كيف سيكون النظام العالمي بعد جائحة كورونا؟ بات السؤال الأكثر إلحاحا على المستوى العالمي.
ومن ثم فإن الشيء الذي ينبغي فعلة في هذه المرحلة، هو إظهار أي من تلك الادّعاءات سالفة الذكر الأقرب للواقع، وخلق استيراتيجية من ذلك؛ وعليه فإن الأمر يقتضي تناول ظاهرة النظام العالمي بالكلية.
أما سبيل فهم تلك الظاهرة، فيكون بالنظر إلى أي مدى تتمركز السلطة لدى النظام المنشود، ومن خلال هذا المعيار يمكن تصويب مزاعم وادّعاءات النظام العالمي.
المصدر:الاناظول