خلال الفترة التي عشتها في السودان وهي مرحلة الشباب لم أفكر مطلقا في زيارة جنوب السودان، ولم يكن ذلك موقفا شخصيا بل كان موقف معظم الشباب في تلك المرحلة لأسباب كثيرة، أولها أنه لم تكن هناك وسائل مواصلات منتظمة بين الشمال والجنوب وكان معظم الذين يسافرون إلى الجنوب يصلونه بواسطة السيارات التي تنقل البضائع بين الإقليمين، وهي لا توفر وسائل نقل مناسبة أو مريحة لأفراد الجمهور، كذلك لم تكن هناك مصالح تشجع الناس على السفر إلى جنوب السودان، ناهيك بأن الظروف الأمنية لم تكن تشجع أحدا في ذلك الوقت على السفر إلى هناك.
وهكذا كانت وسائل الاتصال بين الشمال والجنوب شبه مقطوعة، يضاف إلى ذلك أن البريطانيين خلال حكمهم للسودان اتبعوا سياسة أطلقوا عليها سياسة المناطق المقفولة، وهي التي أقامت فصلا حقيقيا بين الشمال والجنوب، وكان الهدف من ذلك هو حماية الجنوبيين من الشماليين بحسب وجهة نظرهم، وبالتالي لم تكن هناك صلات تواصل بين شمال البلاد وجنوبها.
ولا نعفي الشمال من بعض مواقفه من الجنوب، إذ كان كثير من الشماليين ينظرون إلى الجنوب على أنه بؤرة مشاكل ولا توجد أرضية مشتركة للتفاهم بين قبائله المختلفة، وكان الرأي السائد هو أن الخلافات بين تلك القبائل سوف تنذر بحرب مستقبلية، ولكن الحرب جاءت بين الشمال والجنوب في حركات تمرد مختلفة استمرت منذ أن نال السودان استقلاله وحتى توقيع اتفاقية 'نيفاشا 'في عام ألفين وخمسة.
وإذا نظرنا إلى الخلافات التي امتدت خلال فترة طويلة من الزمن وجدنا أنها قامت على أسس عنصرية ودينية، ذلك أن الجنوبيين كانوا ينظرون إلى الشماليين على أنهم ينتمون إلى العنصر العربي ويدينون بعقيدة الإسلام، وعلى الرغم من انتشار الإسلام في جنوب السودان، فإن ذلك لم يوفر قاعدة للتفاهم بين الشمال والجنوب، ولكن يجب ألا نعفي هنا الشماليين من المسؤولية لأنهم ظلوا طوال الوقت ينظرون إلى الجنوب نظرة دونية ويفاخرون بأصول عربية ليس هناك دليل على صحتها، وحتى لو كان هناك دليل فلم يكن هناك مبرر للقطيعة مع هذا الجزء من الوطن..
وعلى الرغم من أن القطيعة مع الشمال استمرت زمنا طويلا فإنها دخلت مرحلة مهمة مع تولي الرئيس جورج بوش الابن السلطة في الولايات المتحدة، إذ جعل الرئيس بوش الوضع في جنوب السودان من أولى اهتماماته بسبب توجهه الديني وقد تمكن في آخر الأمر من إجبار الحكومة السودانية على توقيع اتفاق نيفاشا مع الحركة الشعبية وهو الاتفاق الذي نص على إجراء استفتاء في جنوب السودان لتقرير مصيره، وكانت الحكومة السودانية في ذلك الوقت تعتقد أن توقيع الاتفاق مع الحركة الشعبية سوف يحسن علاقاتها مع الولايات المتحدة ولكن ذلك لم يحدث، إذ لم تعمل الولايات المتحدة على سحب الاتهام الذي وجهته محكمة الجنايات الدولية للرئيس البشير وبدأت تدعم بشكل واضح حركة التمرد في إقليم دارفور.
وأصبح واضحا أن الولايات المتحدة بدأت تعمل في إطار إستراتيجية حدد معالمها الجانب الإسرائيلي كما ظهر في المحاضرة التي ألقاها 'آفي دختر' وزير الأمن الإسرائيلي في عام ألفين وثمانية والتي أكد فيها أن بقاء السودان موحدا بإمكاناته الهائلة يشكل خطرا مستقبليا على إسرائيل والأفضل هو تقسيم هذا البلد حتى لا يصبح سندا في المستقبل لمصر والأمة العربية.
وأخيرا تحقق الحلم الإسرائيلي بانفصال جنوب السودان، ليؤسس دولته المستقلة وهي دولة تشير كل الدلائل على أنها ستكون دولة معادية لدولة الشمال بدليل أنها بدأت تفكر الآن في تمرير النفط الجنوبي عبر الشمال مدة ثلاث سنوات فقط ريثما يتوافر منفذ جديد لهذه الدولة الوليدة لتصدير نفطها، كما أن من أولى التوجهات لدولة الجنوب إقامة علاقات دبلوماسية مع دولة الكيان الصهيوني إسرائيل، التي اعترفت بدورها بدولة جنوب السودان وبدأت تفكر في وضع قدمها هناك من أجل تنفيذ مخططها ضد العالم العربي.
ولكن دولة الشمال ما زالت تتغافل هذه الحقائق وتعتقد أنه بالإمكان إقامة علاقات حسنة مع دولة الجنوب، دون أن تتساءل عن الأسباب التي بررت انفصال جنوب السودان وفتحت ثغرة في جدار الوطن لمزيد من التفكك، ولو وضع الشمال نصب عينيه مثل هذه التساؤلات لأدرك أن قيام دولة الجنوب لم يكن لسبب غير الأسباب العرقية والعنصرية بكون الجنوب كان أصلا إقليما مستقلا بحكومته، كما أن وسائل الإدارة الحديثة كان يمكنها عن طريق النظام الفدرالي أو النظام الكونفدرالي الإبقاء على وحدة السودان، خاصة أن وحدة السودان الجغرافية شيء مؤكد، وقد بينت في مقالات سابقة أن السودان لا يمكن له إلا أن يكون دولة موحدة، لأنه في حال انفصال الجنوب فسوف تنشأ مشكلة المنفذ الخارجي لهذه الدولة الوليدة التي لن تستطيع الخروج إلى العالم الخارجي إلا عن طريق شمال السودان وهذا هو الحال مع إقليم دارفور، وإذن كان من المكن التفاهم على حلول لمشكلة الجنوب ولكن العالم الخارجي المتآمر على السودان لم يكن يريد مثل هذه الحلول، وكل ما كان يفكر فيه هو الوصول إلى تفكيك هذه الدولة حتى يحرمها من مصادر القوة في المستقبل. والغريب أن كل ما تفكر فيه حكومة الشمال في الوقت الحاضر هو أنها وفت بالتزامها الأخلاقي ونزلت عند إرادة شعب الجنوب، وكل ذلك هراء لأن ما فعلته حكومة السودان هو أنها فرطت في جزء كبير من الوطن وأن هذا التفريط سيكون بداية لمزيد من التفكيك في هذا القطر الكبير، ولكن كثيرا من المنتسبين إلى النظام لا يريدون التفكير في مثل هذه الأمور، وكل ما يشغلهم في الوقت الحاضر هو أن يحاول العلمانيون تجميع الصفوف من أجل مواجهة النظام، وهذا موقف سخيف، لأن قدر السودان في هذه المرحلة ليس أن يكون فيه نظام إسلامي، كما أن النظام الإسلامي ظل قائما في السودان منذ أكثر من عشرين عاما ومع ذلك لم تظهر معالمه السياسية وكل ما ظهر فيه هو تمكن المجموعات التي تنتمي إلى هذا التيار من السلطة والثروة بعد أن حرموا غيرهم منها. وهو أمر محكوم عليه بالفشل في كل الظروف.
ونعتقد أن ما يجري في السودان لم يعد شأنا سودانيا خالصا إذ هو يهم مجموعة من الأطراف وخاصة في العالم العربي ومصر على وجه التحديد، ولكن الجامعة العربية مؤسسة ميتة ولا تستطيع أن تقوم بأي عمل بناء، وأما مصر فهي غير قادرة على رؤية مصالحها الحقيقية، وتنظر إلى نفسها دائما على أنها قادرة على حل مشاكل الآخرين دون النظر إلى مشاكلها هي خاصة، وإذا تأملنا الموقف في جنوب السودان والمؤامرات الخارجية أدركنا أنه موجه بصفة خاصة تجاه مصر وبالتالي فإن التحرك المصري يجب ألا يقتصر على سرعة الاعتراف بدولة جنوب السودان، أو إقامة المشروعات في تلك الدولة وإنما يجب أن يتجاوز ذلك إلى المصالح الإستراتيجية وكيفية التنسيق مع دولة شمال السودان في هذا الأمر، أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة فإن عليها أن تتوقف عن هذه السياسات الساذجة التي لا تقوم على أساس سليم وقد أثبتت فشلها، ذلك أن تحقيق المصالح لا يكون بخلق المشاكل أو إيجاد العملاء لا سيما بعد أن انفجرت الثورات العربية في كل مكان تهدد عملاء الولايات المتحدة السابقين، ولكن كيف تغير الولايات المتحدة أسلوبها وقد رأيناها أخيرا تدعو إلى حوار مع الأخوان المسلمين ظنا منها أنهم سيكونون القوة القادمة في العالم العربي وأنهم سيقدرون لها مبادرتها في الحوار معهم، ولا نعترض على أن تمد الولايات المتحدة يدها للتحاور مع أي فريق، ولكن يجب أن تكون الحوارات في إطار مصالح الشعوب وليس مصالح الولايات المتحدة فحسب، وما فعلته الولايات المتحدة في السودان بكل تأكيد لا يخدم مصالح شعبه كما قد لا يحقق مصالح إسرائيل المستقبلية، وحتى لو حققها فيجب ألا يدفع السودان مثل هذا الثمن الباهظ، وذلك ما يحتم أن يبحث السودان ومصر في حل لهذه المشكلة، ولكن مثل هذا البحث لا يتحقق إلا إذا اقتنع نظام الحكم في السودان أن الدولة التي يبحث عنها السودان ليست هي الدولة التي ظل يبشر بها النظام ولم يستطع تحقيقها بل هي دولة تأخذ بأسباب الحداثة وتقضي على سائر النزعات العنصرية والطائفية التي كانت سببا في وصول السودان إلى الحال التي وصل إليها.