أود أن أتناول هذه المسألة على محورين: الأول هو التذكير بحقيقة الأميركان. والثاني هو أهدافهم من الدعوة إلى هذا الحوار:
أولاـ نعلم جميعا أن أميركا قوة عظمى، يصعب على الكثيرين تجاهلها أو رفض الحوار معها، ولكنها تظل قبل ذلك وبعده عدونا الأول والرئيسي: فهي التي قامت بتصنيع النظام المصري الساقط طوبة طوبة منذ 1974 حتى الآن، وهي التي حرضت وساعدت إسرائيل على احتلال سيناء عام 1967، وهي التي منعت مجلس الأمن بعد النكسة من إصدار قرار يقضى بجلاء قوات الاحتلال من أراضينا وفقا لميثاق الأمم المتحدة التي يحظر احتلال أراض الغير بالقوة.
وبدلا من ذلك عملت على إصدار القرار الباطل رقم 242 الذي يربط الانسحاب بشرط الاعتراف بإسرائيل، أو بالأصح بالتنازل عن فلسطين لليهود الصهاينة، فلما قررنا مواصلة القتال لتحرير أرضنا المحتلة، وقمنا بمعركتنا الكبرى في أكتوبر 1973، قام الأميركان بالتدخل مرة أخرى للحيلولة دون اكتمال النصر، فدخلوا الحرب ضدنا، ومدوا العدو الصهيوني بجسر جوي من الأسلحة، وخططوا ونفذوا معه ثغرة الدفرسوار، ثم أصروا على انسحاب قواتنا إلى أماكنها الأولى قبل العبور، مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية. ثم اخضعوا النظام وأرغموه بالتواطؤ وبالإكراه على توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، قاموا فيها بتجريد 2/3 سيناء من القوات والسلاح؛ ثم قاموا بزرع قواتهم هناك بدلا من القوات الإسرائيلية تحت مسمى قوات متعددة الجنسية، فخرجت إسرائيل ودخلت أميركا، وهم هناك الآن.
ثم استكملوا خطوات القضاء على مصر الوطنية المستقلة، مصر المقاتلة، بالعمل على ضرب اقتصادنا الوطني وبيع القطاع العام الذي كان يدعم المجهود الحربي، واستبداله باقتصاد تابع سيطروا عليه هم وأتباعهم من رجال الأعمال، وهو الاقتصاد السائد في مصر الآن، حتى بعد الثورة.
ثم اتفقوا مع النظام الساقط على ضرورة حظر أي تيار سياسي لا يعترف بإسرائيل ويرفض التفريط في السيادة الوطنية، وحرمانه من المشاركة فى العمل السياسي، والعمل على تصفيته والقضاء عليه.
وقاموا من أجل ذلك بالعدوان على كافة القوى الوطنية المصرية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون أنفسهم الذين طاردهم النظام المصري لسنوات طويلة وزج بهم في السجون وقدمهم إلى المحاكمات العسكرية. وكله بأمر الأميركان.
وبعد ثورتنا المجيدة، لم يتوقف شرهم، بل أخذوا يحرضون الإدارة المصرية الحالية على الحيلولة دون وصول التيار الإسلامي أو أي تيار معاد لأميركا، للحكم لما يمثله من خطر على إسرائيل وعلى المصالح الأميركية. وأخذوا يغدقون الأموال والمساعدات على عدد من الشخصيات والمنظمات من أجل خلق بديل مقبول لديهم؛ ناهيك عن سيل الاعتداءات والشرور والأضرار التي تطال الأمة منذ عقود طويلة على أيدي الأميركان في فلسطين والعراق والسودان والصومال ولبنان وأفغانستان من احتلال وتبعية ونهب للثروات وتخريب للاقتصاد وتقسيم للأوطان وزرع الفتن الطائفية وتمويل الحروب الأهلية وتدخل في الشؤون الداخلية....الخ.
لكل ذلك ومثله الكثير يجب الامتناع عن الحوار مع الأميركان، بل يجب أن يكون خطابنا وحركتنا السياسية الرئيسية في مواجهتهم وفي مواجهة مشروعهم وفي مواجهة تدخلاتهم لاحتواء ثورتنا.
ثانياـ ما هي أهداف الأميركان من هذا الحوار؟
أظن أنه يمكن تحديد أهمها في الآتي:
1- هدف عاجل وخبيث، يتمثل فى إزالة الآثار السلبية الناتجة عن تصريح السفيرة الأميركية الجديدة "آن باترسون" الذي ذكرت فيه أن هناك 600 منظمة مصرية طلبت دعما أميركيا،وهو التصريح الذي أثار حالة من الغضب والاستياء والرفض الوطني لدى معظم القوى السياسية. وكاد هذا الغضب يترجم إلى قرارات ذات شأن يمكن أن تضع حدا للعربدة التي تقوم بها الأجهزة الأميركية على الأرض المصرية.
ولذا جاء الإعلان عن الحوار مع الإخوان،(نفت الجماعة الحوار مع الاميركان) لإسكات أصوات الغاضبين، فها هي أكبر قوة سياسية في البلد تقبل الحوار مع الأميركان، فلماذا لا يفعل الآخرون مثلها؟ فمثل هذا الحوار سيؤدي إلى تبييض وجه رجال الأميركان في مصر، وسيفتح الأبواب على مصراعيها لعديد من الأطراف الأخرى في التواصل مع الأميركان بلا حرج وبلا تعقيب.
وإن لنا في ذلك سابقة مبدئية أصيلة، حين توافقت كل القوى الوطنية العربية على رفض زيارة فلسطين بتأشيرة إسرائيلية، حتى لو كان الزائرون من الأخيار والمناضلين، لأن في ذلك إعطاء ذريعة للأشرار العرب أن يطبعوا مع العدو على قدم وساق.
2- الهدف الثانى قد يكون بمثابة "كمين" أميركاني محترم ومقلب من الوزن الثقيل للجماعة يهدف إلى إضعاف شرعيتها وشعبيتها الوطنية لدى قطاعات كبيرة من الشخصيات والقوى والناس العادية التي عرفتها مجاهدة ضد المشروع الأميركي الصهيوني على امتداد عقود طويلة.
كما أن الحوار سيقدم على طبق من فضة مادة جديدة لمتعهدي الحملات السياسية والإعلامية ضد التيار الإسلامي، وهو الأمر الذي بدأ بالفعل بمجرد إعلان كلينتون عن رغبتها في الحوار.
ورغم ثقتنا في صلابة المواقف الوطنية للإخوان، إلا أن الحوار مع الأميركان سيؤدي الى إثارة الريبة والشك لدى عدد من القوى السياسية الأخرى في أن هناك صفقة ما قد تمت، فتنشق الصفوف أو تزداد انشقاقا، وسيفسر أي نجاح قادم للجماعة، أن وراءه صفقة أو تواطؤ ثلاثي: أميركي عسكري إخواني.
ولا زلنا نتذكر كيف أدى اختيار صبحي صالح في لجنة التعديلات الدستورية إلى اتهام لم ينقطع بوجود تواطؤ بين الجيش والجماعة. فما بالنا حين تدخل أميركا على الخط؟
3- الهدف الثالث هو جس النبض والتعرف على نوايا الجماعة مبكرا، بحيث لو ثبت أنها لا تزال تتمسك بمواقفها الجذرية من دعم المقاومة ورفض الاعتراف بإسرائيل، فسيكون على الإدارة الأميركية أن تعتمد خطة ضغط فورية على الإدارة المصرية ضدها، بدلا من الانتظار إلى ما بعد الانتخابات، فالضغط الآن أسهل وأضمن. فلماذا نمنح عدونا مزايا هذا الاستطلاع المبكر، ونمكنه من أخذ زمام المبادرة؟!!
4- الهدف الرابع هو محاولة الضغط لتغيير الموقف من فلسطين وإسرائيل وكامب ديفيد، وهو الضغط الذي تجيده أميركا بشدة، والذي نجحت من خلاله في تحقيق إنجازات باهرة مع نظام السادات ومبارك ومنظمة التحرير الفلسطينية وغيرهم، إلى الدرجة التي أصبح لدينا عقدة دفينة من أن أي تواصل مع الأميركان سينتهي حتما بمزيد من التنازلات العربية. فالعكس مستحيل، فلم يحدث أبدا أن تراجعوا هم أو قدموا لنا أي تنازلات، منذ وعينا أن هناك بلدا تسمى أميركا.
ولكن والأهم والأخطر من كل ما سبق هو أن الحوار سيرسي قاعدة باطلة وخطيرة، لطالما قاومناها، وهي أن على من يريد أن يشارك في حكم مصر، أن يتفاهم مع الأميركان أولا، ويحصل على مباركتهم.