السياسة الامريكية تهزها قبضات الثوار

قيم هذا المقال
(0 صوت)

برغم ما يبدو من اصرار امريكي على التدخل بقوة لحرف مسار الثورات العربية، اصبح امرا واضحا تراجع الدبلوماسية الامريكية امام الازمات المتعددة التي تواجهها الولايات المتحدة، خصوصا مع العالم الاسلامي وفي منطقة الشرق الاوسط على وجه التحديد.

ومن هذه الازمات: سحب القوات من العراق، توتر العلاقات مع باكستان بعد مقتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن، جمود الوضع في ليبيا، صعوبة الحسم في سورية وضبابية السياسة الامريكية تجاهها، بروز ملامح الغضب الشعبي في البحرين ضد السياسات الامريكية لموقفها المعادي للثورة والداعم للنظام، ظواهر بوادر أزمة غير قليلة مع لبنان في اعقاب صدور الاتهام الظني.

وتتضاعف المشاكل التي تواجهها الولايات المتحدة في افغانستان التي لا يبدو ان واشنطن حسمت امرها سواء بسحب القوات ام بالحوار مع طالبان ام بغلق ملف تنظيم 'القاعدة'، وبروز مؤشرات لتوتر في العلاقات بين واشنطن والرياض برغم اعلان الاخيرة عن زيادة مشترياتها العسكرية من الولايات المتحدة بنسبة 50 بالمائة الى 90 مليار دولار العام المقبل.

يضاف الى ذلك بعد آخر قد يبدو هامشيا ولكنه لا ينفصل عن ملف الدبلوماسية الامريكية وعلاقاتها الخارجية خصوصا مع 'اسرائيل'. فالأزمة التي بدأت في لندن مؤخرا بشأن الامبراطورية الاعلامية التي يملكها روبرت مردوخ اصبحت مرآة عكست القلق الغربي من تزايد النفوذ الصهيوني في الغرب خصوصا بريطانيا والولايات المتحدة، واعتبرت ضربة لذلك النفوذ، الامر الذي يشير الى تراجع أسهم الكيان الاسرائيلي لدى الغربيين خصوصا مع التوجه لاقرار اقامة دولة فلسطينية برغم الرفض الاسرائيلي. انه ملف متعدد الوجود ومتداخل الابعاد اصبح يضغط على ادارة الرئيس اوباما ولن يخفف منه استبدال وزير الدفاع روبرت غيتس بمدير الاستخبارات المركزية، ليون بانيتا الذي سوف يستلم منصبه قريبا. ومع ازدياد السخط الشعبي الامريكي بسبب استمرار الحرب في افغانستان، لجأت المؤسسة العسكرية الامريكية للاعتماد بشكل اكبر على استخدام طائرات 'درون' بدون طيار لاداء العمليات، الامر الذي ساهم بدوره في زيادة السخط في باكستان ضد تلك العمليات التي ضاعفت اعداد الضحايا المدنيين.

من الصعب النظر الى واحدة من القضايا المذكورة باعتبارها المسؤول الاساسي عن ما يبدو من تصدعات في السياسة الخارجية الامريكية، ولا يبدو ان هيلاري كلينتون قد نجحت في ادارة تلك السياسة بالشكل الذي يحفظ المصالح الامريكية او يرضي اصدقاء واشنطن، او يقلل التحديات أمام الغرب وهو يواجه تحديات القرن الحادي والعشرين، او يحسم ملف 'الحرب ضد الارهاب'. مع ذلك يمكن القول بان من أوضح مظاهر الاخفاق في تلك السياسة الموقف الامريكي ازاء الثورات العربية، وما يبدو من انسياق امريكي وراء القوى المضادة للثورة، هذا على افتراض ان واشنطن ليست زعيمة تلك القوى. وشيئا فشيئا تتجه الشعوب الثائرة في تونس ومصر والبحرين واليمن بشكل خاص لتوجيه نقد لاذع لسياسة الادارة الامريكية تجاه الثورات وسعيها المتواصل لاخمادها او احتوائها او السعي المتواصل لهندسة نتائجها وفقا للاجندة الامريكية. هذه الاجندة تخلفت كثيرا عن مواكبة تطورات الساحة السياسية العربية خصوصا في جانبها الثوري وعملت باساليب بدأت الشعوب الثائرة تدرك ابعادها الاستراتيجية التي لا تنفصل عن التحالف مع 'اسرائيل' ومسايرة رغبة الرياض في افشال كافة الثورات بسبب تعارضها مع النهج السياسي للنظام السعودي المعادي لاطروحات التغيير خصوصا عن طريق الثورات الشعبية. وبرغم ما يبدو من حضور امريكي غير مسبوق على ارض السياسة العربية، فالواضح ان ادارة الرئيس اوباما اخفقت في استيعاب عمق المشاعر الشعبية نحو التغيير لدى الشعوب العربية، ولم تنجح في طرح سياسات قادرة على مواكبة تلك المشاعر.

وسواء كان ذلك ناجما عن عجز التفكير الاستراتيجي الامريكي ام عن الإرث الامريكي الامبريالي المعادي للشعوب والداعم للانظمة الديكتاتورية فان النتيجة تكاد تكون واحدة، ومؤداها ان الدبلوماسية الامريكية اصبحت تدفع ضريبة عقود من التخلف عن مواكبة تطورات الاوضاع السياسية والمزاج الشعبي في الدول الصديقة. وهنا لا يمكن التغاضي عن توتر العلاقات بين واشنطن وإسلام آباد الذي بلغ مستوى غير مسبوق ادى الى تجميد الدعم الامريكي الذي يقدر بقرابة المليار دولار للمؤسسة العسكرية الباكستانية.

ويمكن القول بان من بين آخر أخطاء الدبلوماسية الامريكية حالة التذبذب التي هيمنت عليها ازاء ربيع الثورات العربية التي كانت فرصة مؤاتية لواشنطن لتصحيح مساراتها بعد ان اعترفت بانها كانت تتحرك على الجانب الخطأ من التاريخ. فبعد اسابيع معدودة في بداية الثورات انتهجت واشنطن خلالها سياسة كانت تتسم بشيء من الواقعية والتغيير المحدود في نمط سلوكها وذلك بالتزام سياسة محايدة وعدم دعم الحكام المستبدين، سرعان ما تغيرت تلك السياسة رأسا على عقب. واليوم اصبحت واشنطن تسعى بشكل واضح اما لافشال الثورات كما حدث في البحرين، او تأجيل حسمها كما حدث في اليمن، او حرفها باتجاه الحرب الاهلية كما يحدث في ليبيا، او السعي لهندسة نتائجها في البلدان التي اسقطت رؤساءها كما يحدث في مصر وتونس. ولا يبدو الموقف الامريكي أكثر اضطرابا منه في سوريا التي أساء التدخل الامريكي السافر فيها للثورة فيها، خصوصا بعد نزول السفير الامريكي الى الشارع في مدينة حماة، وهو تصرف بعيد عن اللباقة. وبدلا من دعم الحراك السياسي الشعبي لكسر الجمود الذي خيم على العالم العربي اكثر من نصف قرن، سعت واشنطن لوقف المسار الثوري باية وسيلة، ووحدت جهودها مع كل من بريطانيا و'اسرائيل' والسعودية لمواجهة المد الثوري بكافة اساليب المضادة للثورة على الصعدان الاعلامية والسياسية والعسكرية. بدأت هذه السياسة باقرار الاحتلال السعودي للبحرين وترويج سياسات الاحتقان الديني والمذهبي، والتدخل السعودي السافر في شؤون الثورة اليمنية لمنع سقوط علي عبد الله صالح، ثم تهيئة الاوضاع في ليبيا لتدخل عسكري غربي سافر ادى الى ضرب الحماس الثوري واستبداله بالتحول نحو ما يشبه الحرب الاهلية والسعي المتواصل لهندسة مستقبل ليبيا بما يضمن الهيمنة الامريكية المستقبلية في ذلك البلد النفطي. ولو كان الغربيون جادين في تحييد قوات القذافي ومنعها من استهداف المدنيين لما كان ذلك صعبا، ولكنهم كانوا يتحركون لايصال الوضع الى حالة الجمود وتوازن في القوى يحرم ايا من الطرفين القدرة على هزيمة الآخر. انها واحدة من ابشع اساليب التدخل لمنع حدوث التغيير، ضمن سياسة تتسم بالكثير من النفاق والعداء لتطلعات الشعوب وحقوقها. ومن نتائج تلك السياسة حدوث حالة تصدع في جبهة المعارضة، وشروخ عميقة بين مكوناتها، وسعي بعض الاطراف لممارسة سياسة الوصاية على الوضع بما يمنع اية قوة مقاتلة اخرى غير منسجمة مع المشروع الغربي من لعب دور عملي في ساحة القتال.

الولايات المتحدة وجدت نفسها امام خيارات صعبة في العديد من المناطق التي تتدخل فيها. ويمكن القول ان كلا من العراق وافغانستان تحولتا الى مستنقع سياسي وعسكري لادارة الرئيس اوباما بشكل جعل امكانات حسم خيارات واشنطن صعبة جدا.

فبعد عشرة اعوام على التدخل العسكري في افغانستان ما يزال مسلسل سقوط القتلى على كافة الجبهات مستمرا، حتى تعمقت قناعة الجنرالات الامريكيين باستحالة حسم الموقف في افغانستان عسكريا، ولم يخفف مقتل بن لادن من المشكلة، بل زادها تعقيدا واوصلها الى حالة التوتر مع الحكومة الباكستانية التي احتجت على طريقة التدخل الامريكي على اراضيها بشكل اضعف سيادتها وادى الى ردة فعل معادية للولايات المتحدة. ولا يستبعد ان تتوسع دائرة الصراع لتشمل باكستان، في الوقت الذي توسعت فيه دائرة الرفض الشعبي الامريكي لاستمرار تلك الحرب وارتفعت الاصوات المطالبة بالانسحاب. وقد لجأت واشنطن للاعتماد على طائرة 'درون' بدون طيار بشكل متصاعد رغبة في تقليل خسائرها البشرية، ولكن ادى الاستعمال المتزايد لتلك العمليات لمقتل الكثير من المدنيين الامر الذي احدث غضبا بين المواطنين فارتفعت الاصوات المعادية للوجود الامريكي وبلغ الوضع مستوى غير مسبوق من التوتر. وفي العراق تصاعدت اعداد القتلى في صفوف القوات الامريكية مع اقتراب موعد الانسحاب الامريكي، اذ بلغت 18 قتيلا في شهر واحد، فيما يسود اللغط بين الساسة العراقيين بسبب تلميح بعضهم لاحتمال تمديد بقاء القوات الامريكية على الاراضي العراقية فترة اطول.

واذا اضيف لهذه العوامل الخارجية الاوضاع المتردية للاقتصاد الامريكي تزداد صورة الموق الامريكي وضوحا. ووفقا للمعلومات المتوفرة فان الديون الامريكية تبلغ 14.3 تريليون دولار (اي 14300 مليار دولار)، وقد لا تستطيع ادارة اوباما تسديد فواتير الديون التي يجب عليها دفعها في الايام القليلة المقبلة. ان بلدا يعيش اوضاعا كهذه لا يستطيع توسيع دوائر الصراع خارج الحدود، ولذلك فثمة رأي يقول بان الولايات المتحدة تتجه نحو سياسات تركز على الداخل وتبتعد عن المزيد من التدخلات الخارجية.

واذا كانت ادارة اوباما قد التزمت سياسات معادية لثورات الشعوب العربية، فانها لن تستطيع الاستمرار في التصعيد مع نظام الحكم في سوريا الذي يواجه تحديا غير قليل من الداخل. وبرغم الضغوط المتواصلة على النظام السوري من قبل قوى اجنبية واقليمية، فان احدا لا يتوقع تدخلات عسكرية خارجية على غرار ما حدث في ليبيا، لان الولايات المتحدة لم يعد لديها مزاج للتورط في حرب جديدة في الوقت الذي ترى نفسها فيه عاجزة عن تحقيق نتائج تذكر في الحروب الاخرى.

بل انها لم تستطع تحقيق توافق دولي سواء بشأن ايران ام 'الحرب ضد الارهاب' ام حل قضايا الشرق الاوسط والضغط على الكيان الصهيوني للقبول بمبدأ قيام دولة فلسطينية مستقلة. يضاف الى ذلك ما يردده الخبراء عن عجز واشنطن تحقيق توافق دولي ضد سورية لدى مناقشة الملف النووي السوري الذي تضغط الولايات المتحدة بهدف احالته الى مجلس الامن الدولي. وهكذا تبدو السياسة الخارجية الامريكية متعثرة بشكل كبير، وليس هناك ما يشير الى حدوث اختراقات كبرى تكشف نجاحا دبلوماسيا امريكيا ملموسا، الامر الذي اصبح يؤرق الساسة الامريكيين خصوصا من الحزبين الكبيرين. ولكن الخروج من هذه المآزق ليس سهلا، وبالتالي فالارجح ان تشهد السنوات القليلة المقبلة انكفاء امريكيا على النفس والتخلي التدريجي عن الدور البوليسي الذي مارسته الادارات الامريكية المتعاقبة في العقود الاخيرة.

ومع ان ذلك التطور سوف يكون مصدر ارتياح للكثيرين، خصوصا بلدان العالم الثالث وشعوبها التي عانت من التدخلات الامريكية المباشرة والحروب وانتشار اسلحة الدمار الشامل بالاضافة لتسلط الاستبداد والديكتاتورية، الا انه تطور مقلق لان اضطراب اوضاع القوة الدولية الكبرى من شأنه ان ينعكس سلبا على توازن القوى في العالم من جهة، وعجز النظام الدولي عن التعاطي مع التحالفات الاقليمية بشكل فاعل. ومن هنا فثمة رغبة غير قليلة في دور اوروبي مواز للدور الذي يمارسه التحالف الانكلو - امريكي، الذي يخضع في اعتباراته للاملاءات الصهيونية على صعيد العلاقات الدولية.

من هنا نظر البعض الى ما يحدث للامبراطورية الاعلامية التي يديرها روبرت مردوخ من زاوية اخرى. واذا كان التركيز عليها قد بدأ في بريطانيا فان الاجراءات ضدها وصلت الى الولايات المتحدة حيث قال مكتب التحقيقات الفيدرالي (اف بي آي) انه سوف يحقق في ادعاءات بان 'صحافيي' امبراطورية مردوخ ربما تنصتوا على هواتف ضحايا حوادث 11 سبتمبر. وثمة من يعتقد ان ما يحدث لهذه الامبراطوية يمثل جانبا من الصراع السري بين اللوبي الصهيوني والمؤسسات السياسية الرسمية في الغرب خصوصا بريطانيا والولايات المتحدة، وان ذلك يؤكد ما يقال حول تراجع حظوظ الاحتلال الاسرائيلي مع الدول الغربية لاسباب عديدة. ويقول اصحاب هذا التفسير ان المؤسسة الرسمية البريطانية بدأت تخشى على نفسها وسيادتها من تصرفات مؤسسة مردوخ.

فقبل أقل من عام تعرض وزير التجارة البريطاني في حكومة التحالف، فينس كيبل، لمشكلة غير مسبوقة عندما افصحت احدى الاعلاميات التابعة لصحيفة 'ديلي تلغراف' عن فحوى حديث خاص مع الوزير، الامر الذي احرج التحالف وكاد يعصف بالحكومة. مؤسسة مردوخ تجاوزت حدود الصحافة بالتجسس المباشر على الآخرين خارج اطار القانون، الامر الذي دفع المؤسسة السياسية البريطانية لاتخاذ اجراءات قاسية ادت حتى الآن لغلق صحيفة 'نيوز اوف ذا ورلد' وهي واحدة من اعرق الصحف البريطانية. ان تطورات كهذه تكشف ما يجري في عالم الصحافة من اجراءات تتجاوز المهنة وتتصل بالسيادة الوطنية، وقد يكون ذلك على حساب مصالح الآخرين وسلامتهم. وبالتالي اصبحت هذه الدول تشعر بان امنها القومي يتعرض للتهديد، وان عليها التحرك بسرعة لاحتواء آثار هذا التجسس.

ومن جانبها، اصبح امام واشطن خيارات محدودة للتعاطي مع تطورات المنطقة التي ما تزال ترفض الاعتراف بالكيان الاسرائيلي الذي تعتبره في عمق الازمات التي تعاني منها المنطقة. فاذا كانت الثورات مهددة بالافشال والاجهاض او التحريف، فان سباق الساعات الاخيرة لحماية الثورة ومكتسباتها يتم الرهان عليه بهدف اضعافه من قبل انظمة الاستبداد التي لم تغير ما لديها من اساليب.

قراءة 2304 مرة