انقسم السودان إلى دولتين. متفائلون جدا الذين يعتقدون أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد. تصدعت وحدة العراق بعد الغزو الأميركى. فبين الشمال الكردى، والجنوب الشيعى والوسط السنى تبحث الجماعات الأخرى عن مواقع لها، أو عن حدود لهذه المواقع. ولا يعلم الا الله والراسخون فى علم المؤامرة أى مصير ينتظر سوريا بعد الأحداث التى عصفت بها.. واستطرادا أى مصير ينتظر لبنان الذى يعمل على ترقيع وحدته منذ ان مزقها الاجتياح الإسرائيلى فى عام 1982.
وفيما يحاول الفلسطينيون إعادة ربط ما انقطع بين غزة والضفة الغربية تمهيدا لإعلان دولة على ما تبقى من الأرض الفلسطينية المحتلة، لايزال الأردن يشعر بخطر مشاريع تحويله إلى وطن فلسطينى بديل. ... حتى مصر التى عرفت أصالة الدولة منذ عهد الفراعنة تجد نفسها اليوم بين فكى كماشة الصراع المصطنع بين الاقباط والحركات الإسلامية.
وفى الجناح الغربى من العالم العربى، فإنه منذ قيام الاضطرابات فى «تيزى أوزو» بالجزائر فى عام 1982، والحركة العنصرية الأمازيغية (البربرية) تواصل تحركاتها تحت شعارات اجتماعية واقتصادية أحيانا، وعنصرية فى معظم الأحوال، ليس فى الجزائر وحدها، انما فى المغرب أيضا. وبعد فشل، أو تفشيل المغرب فى ضم الصحراء الغربية اليه بعد انسحاب اسبانيا منها فى عام 1974 فإنه يخشى أن تعود ليبيا إلى ما كانت عليه قبل تسعين عاما، ولايات ثلاث ــ طرابلس ــ وبرقة ــــ وفزان ــ تتنازع قبائلها وتتقاتل عشائرها على الماء والكلأ.. والنفط!!.
لماذا يسير العالم العربى فى هذا الاتجاه؟ أو من يدفعه للسير فى هذا الاتجاه؟.. للإجابة عن هذا السؤال لابد من العودة قليلا إلى الوراء. فى عام 1840 عقدت الدول الأوروبية حلفا، أو تفاهما مشتركا ينص على فصل عرب أفريقيا عن عرب آسيا. ونقطة الفصل هى مصر. كان الهدف الأوروبى من وراء ذلك التفاهم قطع الطريق أمام تجربة جديدة كان يخشى أن يقوم بها «محمد على» جديد، لخلافة ــ الرجل المريض ــ الامبراطورية العثمانية. احترم الأوروبيون خاصة فرنسا وبريطانيا هذا التفاهم. وكرس احترامهم له مبدأ الاستفراد. أى استفراد مصر من جهة أولى، واستفراد منطقة غرب آسيا من جهة ثانية. وقد أدى ذلك إلى تسهيل عملية رسم حدود دول هذه المنطقة فى عام 1916 بموجب تفاهم الدبلوماسيين الإنجليزى والفرنسى سايكس وبيكو، ومن ثم إعلان وعد بلفور 1917 بمنح فلسطين وطنا قوميا لليهود. ونجح الاستفراد فى عام 1979 من خلال اتفاقية كامب دافيد، بين مصر وإسرائيل. إذ أدت الاتفاقية إلى فصل مصر عن قضية الصراع العربى ــ الإسرائيلى. لقد دفعت إسرائيل ثمن ذلك إعادة كل صحراء سيناء إلى مصر، إلا أنها كرست بالمقابل مبدأ الفصل بكل أبعاده ونتائجه الاستراتيجية. وكانت إسرائيل قد عمدت فى عام 1949، وأثناء مباحثات الهدنة فى رودس بعد حرب 1948، إلى احتلال إيلات على البحر الأحمر لتكون نقطة الحاجز الإسرائيلى الذى يفصل مصر من جهة والدول العربية الأخرى الأردن وسوريا والعراق ولبنان من جهة ثانية.
وكان الاحتلال الإسرائيلى لإيلات أول انتهاك لاتفاقية الهدنة. ولقد تحولت إيلات إلى موقع عسكرى للبحرية الإسرائيلية إلى البحر الأحمر، وعبره إلى شرق أفريقيا والشرق الأقصى.
وقبل إسرائيل حاول الفرنجة (الصليبيون) احتلال هذا الموقع لعزل مصر عن فلسطين وجوارها. ولكن صلاح الدين الأيوبى، ادراكا منه لخطورة هذا الأمر، بادر إلى قطع الطريق عليهم وحافظ على التواصل الذى مكنه فيما بعد من الانتصار فى معركة حطين ومن ثم تم طرد الفرنجة وتحرير القدس والمشرق العربى.
لقد عرفت مصر وسوريا فى عام 1973 كيف تقفزان من فوق حاجز الفصل الإسرائيلى. وأدى تفاهمهما إلى الانجاز التاريخى الذى حققتاه معا فى حرب رمضان من ذلك العام. إلا أن اتفاقيتى فك الاشتباك التى وقّعت عليها منفردة مع إسرائيل كل من مصر وسوريا، كرستها فى عام 1979 اتفاقية كامب دافيد ثم معاهدة الصلح المصرية ــ الإسرائيلية. وبموجب ذلك فرض على مصر مقابل استعادة الأرض (وهو انتصار وطنى لا شك فيه) ان تنكفئ عن مسرح الصراع الإسرائيلى مع سوريا ولبنان وفلسطين. وهكذا واصلت إسرائيل احتلال الضفة الغربية والقدس وغزة. ورفضت الانسحاب من مرتفعات الجولان السورية. واحتلت أجزاء من لبنان فى عام 1978 حتى عام 2000، ثم اجتاحت عاصمته بيروت فى عام 1982 وشنت عليه اعتداءات واسعة فى أعوام 1993 و1996 وأخيرا ــ لا آخر ــ فى 2006. وهى لاتزال حتى اليوم تحتل أجزاء منه فى الجنوب وفى البقاع الغربى. فهل كانت إسرائيل لتتجرأ على القيام بكل هذه الاعتداءات لو لم تكن يد مصر مغلولة اليد بموجب اتفاقية كامب دافيد ومعاهدة السلام؟
لا يبدو ان الهدف الإستراتيجى من وراء عزل مصر عن الدول العربية الأخرى يقف عند هذا الحد. لقد ذهب إلى أبعد من ذلك، وبدأ ينقض على مصر ذاتها أيضا. وذلك من خلال العمل على ضرب وحدتها الوطنية بين المسلمين والأقباط، وكذلك من خلال تهديدها بشريان حياتها نهر النيل، والتلاعب فى عمقها الاستراتيجى فى السودان. وفى الوقت ذاته العمل على تمزيق الكيانات الوطنية إلى دويلات صغيرة دينيا (إسلامية ومسيحية) ومذهبيا (سنية وشيعية وعلوية ودرزية) وعنصريا (عربية وكردية وأمازيغية) بحيث تكون فى حال تنابذ وتصارع مما يوفر الأمن الاستراتيجى لإسرائيل.
لقد جاهر الإسرائيليون بهذا الهدف وأعلنوه فى عام 1979 عنوانا «استراتيجية إسرائيل فى الثمانينيات» على النحو الذى نشرته مجلة ايجونيم للدراسات الاستراتيجية الإسرائيلية فى عددها الصادر صيف ذلك العام. وحاضر فيه الجنرال اريل شارون وكان يومها وزيرا للحرب. ونشرت محاضرته أيضا فى المجلة العسكرية الإسرائيلية.
وقبل ذلك أعد المفكر اليهودى ــ الأميركى الدكتور برنارد لويس دراسة لحساب وزارة الدفاع الأميركية نشرت فى النشرة الخاصة التى تصدر عن الوزارة «أميركان استراتيجيك سيرفى». ان كل تلك الدراسات تلتقى حول مبدأ أساسى وهو وجوب العمل على إعادة النظر فى خريطة المنطقة الممتدة من باكستان حتى المغرب على أساس أن يكون لكل جماعة دينية أو مذهبية أو عنصرية كيان سياسى وطنى خاص بها.
لقد تعثر هذا المشروع وواجه صعوبات كثيرة. إلا أن أصحابه لم ييأسوا ولم يتوقفوا عن محاولة التنفيذ، من شمال العراق إلى جنوب السودان. والآن من صعيد مصر إلى مرتفعات جبال الأطلس. إن مراجعة صورة العالم العربى تؤكد حقيقة اساسية وهى أننا لسنا أمام «مؤامرة» وهمية، بل أمام صناعة واقع جديد.