في حياة الإنسان ثلاثة منازل لرحمة الله تعالى:
1 ـ الفقر والحاجة.
2 ـ الدعاء والسؤال.
3 ـ السعي والعمل.
وفيما يلي شرح موجز لهذه المنازل:
المنزل الأول: الفقر والحاجة:
وهما أولا منازل رحمة الله تعالى فالفقر يستنزل رحمة الله حتى من غير أن يعي صاحب الفقر فقره إلى الله. وبين (الفقر إلى الله) و(رحمة الله) علاقة تكوينية، كلّ منهما يطلب الآخر، فالفقر إلى الله يستنزل رحمة الله، ورحمة الله
تطلب مواقعَ الحاجة والفقر. وهي سنة عامة في الكون، في كلّ موضع للفقر والغنى، والضعف والقوة. فإنّ الضعف يطلب القوة، والقوة تطلب الضعف، والفقر يطلب الغنى، والغنى يطلب الفقر، والجهل يطلب العلم، والعلم يطلب الجهل، والمريض يطلب الطب، كما أن الطب يطلب المرض.
وليست حاجة العالِم إلى الجاهل ليعلّمه بأقل من حاجة الجاهل إلى العالم، ولا حاجة الطبيب إلى المريض ليداويه بأقل من حاجة المريض إلى الطبيب، ولا حاجة الأمّ إلى الطفل لتسبغ عليه حنانها وعطفها بأقل من حاجة الطفل إلى الأُمّ لتتولاّه برعايتها وعطفها.
إنّها سنّة الله في كل موضع للفقر والغنى، والضعف والقوة، وهي سنة الله تعالى في علاقته بفقر عباده وعجزهم وضعفهم وحاجتهم حتى من غير سؤال وطلب ودعاء، ومن غير وعي منهم لحاجتهم وفقرهم.
إن هذه العلاقة من أسرار هذا الدين، وهي من أسرار هذا الكون وقوانينه، وما لم يفهم الإنسان هذا القانون في الكون، وفي علاقة الإنسان بالله تعالى لا يستطيع أن يدرك طائفة واسعة من معارف هذا الدين وأسراره.
وكم من مريض تماثل للشفاء برحمة الله من غير سؤال {وإذا مرضت فهو يشفين}(1) وكم من فقير جائع رزقه الله تعالى، وأطعمه من جوع من غير سؤال ولا دعاء. وكم من مضطر في لجج البحار، أو تحت الأنقاض، أو تحت طائل السيوف أو في وسط الحريق أدركته رحمة الله تعالى وأنقذته من غير سؤال ولا دعاء. وكم من ظمآن بلغ به الظماء مبلغاً استنفد مقاومته، فأدركته رحمة الله تعالى وأروته من غير سؤال ولا طلب. وكم من إنسان واجه الأخطار، وكان قاب قوسين منها وهو يعلم أولا يعلم، فجاءه (ستر الله) فأنقذه منها. وكم من إنسان وصل إلى طريق مسدود في حياته ففتح الله تعالى عليه ألف طريق وطريق، وكل ذلك من غير سؤال ولا طلب ولا دعاء، بل دون أن يعرف صاحبُه الله كثيراً، فضلا من أن يعرفه فلا يطلب منه، وكم من رضيع تدركه رحمة الله تعالى دون أن يطلب من الله، ودون أن يسأل الله تعالى(2).
وقد ورد في دعاء الافتتاح: «فكم يا إلهي من كربة قد فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد أقلتها، ورحمة قد نشرتها، وحلقة بلاء قد فككتها».
وورد في دعاء أيام رجب: «يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله، ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة».
وفي المناجاة الرّجبيّة: «ولكن عفوك قبل علمنا».
إذن الفقر والحاجة من منازل رحمة الله تعالى، وحيث يكون الفقر وتكون الحاجة، تجد رحمته تعالى.
وللعارف الروميّ الشهير بيتٌ من الشعر في هذا الباب، أذكر ترجمته هذه: لا تطلب الماء واطلب الظماء حتّى يتفجّر الماء من كلّ أطرافك وجوانبك.
وقد وردت الإشارة إلى هذه العلاقة بين رحمة الله تعالى وحاجة عباده وفقرهم في مناجاة بليغة ومؤثرة لأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، نورد فيما يلي طرفاً منها:
مولاي يا مولاي أنت المولى، وأنا العبد، وهل يرحم العبد إلاّ المولى. مولاي يا مولاي، أنت المالك، وأنا المملوك، وهل يرحم المملوك إلاّ المالك. مولاي يا مولاي، أنت العزيز، وأنا الذليل، وهل يرحم الذليل إلاّ العزيز. مولاي يا مولاي، أنت الخالق، وأنا المخلوق، وهل يرحم المخلوق إلاّ الخالق. مولاي يا مولاي، أنت القوي، وأنا الضعيف، وهل يرحم الضعيف إلاّ القوي. مولاي يا مولاي، أنت الغني، وأنا الفقير، وهل يرحم الفقير إلاّ الغني. مولاي يا مولاي، أنت المعطي، وأنا السائل، وهل يرحم السائل إلاّ المعطي.
فقد صمّم الله تعالى هذا الكون بموجب (الرحمة) و(الحكمة)، فإذا كانت حكمة الله تقتضي وقوع كارثة في إنسان أو حيوان أو نبات، فلا يعني ذلك أن ننفي البعد الآخر من فضل الله تعالى وصفاته الحسنى، وهو الرحمة.
مولاي يا مولاي، أنت الحي، وأنا الميت، وهل يرحم الميت إلاّ الحي.
الفقر الواعي والفقر المضلّل:
ولكن علينا أن نشير هنا: أن هناك نوعين من الفقر; أحدهما يستنزل رحمة الله، والآخر يحجب صاحبه عن رحمة الله. أمّا الذي يستنزل رحمة الله فهو (الفقر الواعي) الذي يشعر صاحبه بحاجته وفقره إلى الله تعالى، ويربطه بمسبب الأسباب مباشرة عبر الأسباب، دون أن يكون معنى ذلك إسقاط الأسباب عن الحساب.
والفقر المضلّل هو الفقر الذي يحبس صاحبه عند الأسباب، وتحجبه الأسباب عن الإحساس بفقره وحاجته إلى مسبب الأسباب.
وليس معنى وعي الحاجة والفقر إلى الله تعالى إلغاء الأسباب، والإعراض والانصراف عنها، فهذا ما لا يصح، ولا يجوز، ولا يقول به أحد، حتّى الأشاعرة لا يذهبون هذا المذهب المتطرف من الأسباب.
ومع تثبيت هذه الحقيقة نقول: إنّ الفقر الواعي هو الفقر الذي يشعر صاحبه بفقره إلى الله، ويثبّت ويركّز الإحساس بالفقر إلى الله في نفسه، ولا تعيقه الأسباب عن مسبّب الأسباب.
أما الفقر المضلّل فهو الفقر الذي يحبس صاحبه عند الأسباب، وتحجبه الأسباب عن الإحساس بالحاجة والفقر إلى الله تعالى، مبدأ الأسباب، ومسبّب الأسباب.
والفقر الأوّل هو المقصود من الرواية النبويّة الشريفة (الفقر مخزي) والفقر الثاني هو الذي (كاد أن يكون كفراً).
والفقر الأوّل هو الذي يستنزل رحمة الله، والثاني يحجب صاحبه عن رحمة الله. وهذا الفقر هو الذي نجده في كلمات أبي الأنبياءِ إبراهيم(ع)، كما يتلو علينا القرآن نبأه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * ..الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}(3).
فلا يريد إبراهيم(ع) في هذا الخطاب أن يلغي الأسباب الطبيعية في الإطعام والسقي والشفاء والموت والحياة من الحساب، وقد كان(ع) يتعامل مع كل ذلك إلاّ أن هذه الأسباب لن تحجبه عن الله تعالى مسبّب الأسباب ومبدأ الأسباب، وهذا هو الفرق بين الرؤية التوحيدية إلى الأسباب وبين الرؤية الأخرى المشوبة بالشرك.
المنزل الثاني: الدعاء والسؤال:
يستنزل الدعاء والسؤال من رحمة الله ما لا يستنزله الفقر وذلك أنّ الدعاء فقر وطلب، وكل منهما عامل مستقل في استنزال رحمة الله تعالى فإنّ الطلب والسؤال يستنزل رحمة الله، كما أنّ الفقر يستنزل رحمة الله، والدعاء: (فقر وطلب) ولذلك فهو يستنزل من رحمة الله ما لا يستنزله الفقر وحده.
وكلما يكون صاحب الدعاء أكثر اضطراراً وفقراً يكون دعاؤه أقرب إلى الاستجابة، فإنّ الفقر يركّز الطلب، والطلب يعمق حالة الفقر ويدخله إلى دائرة الوعي.
ولكل (دعوة) (إجابة).
يقول تعالى: {..ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(4). وهذا قانون عام لا يتخلف، والقرآن الكريم يقرّر هذه الحقيقة بكل وضوح {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
وإن (المانع) عن استجابة الدعاء إمّا أن يكون من ناحية المسؤول، أو من ناحية السائل، وليس من ثالث، ولا يمكن أن يكون هناك مانع من ناحية المسؤول فإن الله تعالى مقتدر كريم، لا تنقص خزائنه، ولا ينفد ملكه.
{..وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(5).
{..وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}(6).
{إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(7).
{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(8).
ولا بخل ولا شحّ في ساحته، ولا حدّ لجوده وكرمه.
{..رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا..}(9).
{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ..}(10).
{..وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا}(11).
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ..}(12).
فلا نفاد لملك الله ورحمته وسلطانه حتى يعيق رحمته، ولا بخل ولا شحّ في ساحته حتى يمنعه من الجود والعطاء.
فليس في المسؤول ـ سبحانه وتعالى ـ ما يمنع من الاستجابة لدعاء عباده كلما دعوه وطلبوا منه شيئاً، وهو معنى قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} من دون قيد ولا شرط، هذا من ناحية المسؤول.
وأمّا من ناحية السائل فقد تضرّ الاستجابة بحال السائل، وهو لا يعلم، والله تعالى يعلم، فلا يستجيب لدعائه، ولكن يعوضه عن ذلك بغيره من قضاء حاجاته الأخرى وغفران ذنوبه.
وقد يضرّه التعجيل بقضاء حاجته والاستجابة لدعائه، ويعلم الله تعالى أن تأجيل الاستجابة أصلح لحاله.
التبديل والتأجيل:
في الحالة الأولى يبدل الله تعالى قضاء حاجة عبده بغيرها من حاجاته. وفي الثانية يؤجل الله تعالى الاستجابة لدعاء عبده إلى الوقت الصالح له.
ففي دعاء الافتتاح:
«فصرت أدعوك آمنا، وأسالك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً، مدلا عليك فيما قصدتُ فيه إليك، فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك، ولعلّ الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور».
وقد يؤخر الله تعالى إجابة دعاء عبده، كي يطول قيامه وتضرعه بين يديه تعالى والله يحب أن يطول وقوف عبده وتضرعه بين يديه، ففي الحديث القدسي: «يا موسى! إني لست بغافل عن خلقي، ولكني أحبّ أن تسمع ملائكتي ضجيج الدعاء من عبادي»(13).
وعن الصادق(ع): «إن العبد ليدعو، فيقول الله عزّوجلّ للملكين قد استجبت له، ولكن احبسوه بحاجته، فإني أُحبّ أن أسمع صوته. وإن العبد ليدعو، فيقول الله تبارك وتعالى عجّلوا له حاجته فإني أبغض صوته»(14).
ولكن حتى لو كانت الإجابة تضرّه فإن الله تعالى لا يلغي الإجابة، بشكل مطلق، وإنما (يبدله) إلى كفارة لذنوبه، وغفران لها، أو إلى رزق يرزقه إياه في الدنيا عاجلا أو درجات رفيعة له في الجنة. وفي غير هاتين الحالتين (حالة التبديل وحالة التأجيل) لابد من الإجابة.
وهذه الحتمية نابعة من حكم الفطرة القطعي إذا كان السائل محتاجاً وفقيراً ومضطراً إلى المسؤول، والمسؤول قادر على إجابة طلبه، ولا بخل ولا شحّ في خلقه.
والقرآن الكريم يؤكد هذه العلاقة الحتمية(15) يقول تعالى:
1 ـ {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ..}(16).
فلا يحتاج المضطر في الإجابة لاضطراره، وكشف السوء عنه إلاّ إلى الدعاء (إذا دعاه)، فإذا دعاه سبحانه، استجاب لدعائه، وكشف عنه السوء.
2 ـ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.
والآية الكريمة واضحة وصريحة في الربط بين الدعاء والاستجابة {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
3 ـ {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..}(17).
والعلاقة القطعية بين الدعاء والإجابة واضحة وصريحة في هذه الطائفة من آيات كتاب الله، وهي تدفع كلّ شك وريب من النفس في قطعية الإجابة من الله لكل دعاء، ما لم تكن الإجابة مضرة بالداعي أو بالنظام العام الذي يعتبر الداعي جزءاً منه، والاستجابة في هذه الآيات غير مشروطة ولا معلّقة بشيء.
وأمّا الشروط التي سوف نتحدث عنها; ففي الحقيقة ترجع إلى تحقيق الدعاء وتثبيته لمصلحة الداعي نفسه، ومن دونها يضعف الدعاء أو ينتفي.
إذن فإنّ العلاقة بين الدعاء والاستجابة علاقةٌ حتمية لا يمكن أن تتخلف، وعلاقة مطلقة لا يمكن أن تتعلق بشرط، إلاّ أن يكون الشرط مما يؤكد ويثبت حالة الدعاء نحو قوله تعالى: {..إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ..}.
وفي أحاديث رسول الله(ص) وأهل بيته ما يؤكد ويعمق هذه العلاقة بين الدعاء والإجابة.
ففي الحديث القدسي: «يا عيسى... إني أسمع السامعين، أستجيب للداعين إذا دعوني»(18).
وعن رسول الله(ص) : «ما من عبد يسلك وادياً فيبسط كفّيه، فيذكر الله ويدعو إلاّ ملأ الله ذلك الوادي حسنات فليعظم ذلك الوادي أو ليصغر»(19).
وعن أبي عبد الله الصادق(ع) في حديث: «لو أن عبداً سدّ فاه، ولم يسأل لم يعط شيئاً، فسل تعط»(20).
وعن ميسر بن عبد العزيز عن أبي عبد الله الصادق(ع): «يا ميسر! إنّه ليس من باب يقرع إلاّ يوشك أن يفتح لصاحبه»(21).
وعن أميرالمؤمنين(ع): «متى تكثر قرع الباب يفتح لك»(22).
وفي وصايا رسول الله(ص) لعليّ(ع): «يا عليّ!.. أوصيك بالدعاء فإن معه الإجابة»(23).
وعن الصادق(ع): «إذا أُلهم أحدكم الدعاء عند البلاء فاعلموا أن البلاء قصير»(24).
وعن الصادق(ع): «لا والله، لا يلح عبد على الله عزّوجلّ إلا استجاب له»(25).
والنصوصُ الإسلاميّة تؤكد هذه الحتمية، والإطلاق في العلاقة بين الدعاء والإجابة، وتبين بشكل واضح وصريح، أنّ الله تعالى يستحيي أن يرد دعاء عبده إذا دعاه.
ففي الحديث القدسي: «ما انصفني عبدي، يدعوني فاستحيي أن أرده، ويعصيني ولا يستحيي مني»(26).
وعن الصادق(ع): «ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبار إلاّ استحيى الله عزّوجلّ أن يردها»(27).
وفي الحديث القدسي: «مَن توضأ وصلّى ودعاني فلم أجبه فيما يسأل عن أمر دينه ودنياه فقد جفوته، ولستُ برب جاف»(28).
وعن أميرالمؤمنين(ع): «ما كان الله ليفتح باب الدعاء، ويغلق عليه باب الإجابة»(29).
وعنه(ع) أيضاً: «مَن أعطى الدعاء لم يحرم الإجابة»(30).
وفي النصّين الأخيرين التفاتة ذات مغزى ونكهة علوية. فإن الله تعالى كريم ووفي، فإذا فتح باب الدعاء، فلا يمكن أن يغلق على العبد باب الإجابة، وإذا رزق العبد توفيق الدعاء، فلا يمكن أن يحرمه الإجابة..
عن رسول الله(ص) : «ما فتح لأحد باب دعاء إلاّ فتح الله له فيه باب إجابة، فإذا فتح لأحدكم باب دعاء فليجهد فإنّ الله لا يمل»(31). وهذا هو المنزل الثاني من منازل رحمة الله.
اللهمّ سمعنا، وشهدنا، وآمنا.
المنزل الثالث: السعي والعمل:
قد جعل الله تعالى (السعي) و(العمل) من منازل رحمته للدنيا والآخرة.
يقول تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً..}(32).
ويقول تعالى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}(33).
فمن عمل صالحاً آتاه الله حياةً طيبةً، وأفلحه.
فإذا كان الإنسان يبتغي دنيا أو آخرة فعليه أن يسعى إليها ويعمل لها. وقد كان علي(ع) يقول:
«لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل»(34).
ولا يبلغ الإنسان منازل المؤمنين في الجنة إلاّ بالعمل.
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ..}(35).
ومهما كان العمل قليلا فانّ الله تعالى يحصيه ويثيبه عليه:
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}(36).
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا..}(37).
فالعمل إذن، أحد أعظم منازل الرحمة، ولا ينال الإنسان كثيراً من الخير والرحمة والتوفيق والرزق إلاّ بالعمل.
ولا يبلغ الإنسان ما يطلبه من الخير بالتمني والترجي.
وقد روي عن الإمام الصادق(ع) انّه كان يقول:
«أبلغ شيعتنا، أنه لا ينال ما عند الله إلاّ بالعمل».
وهذه ثالث منازل رحمة الله تعالى.
المنازل الثلاثة للرحمة، في قصة إبراهيم وهاجر وإسماعيل(ع):
وفي قصة أبي الأنبياء إبراهيم(ع) نلتقي مشهداً فريداً أو نادراً من نوعه، في اجتماع المنازل الثلاثة للرحمة في موضع واحد، في قصة واحدة، وذلك عندما أودع أبو الأنبياء إبراهيم(ع) زوجتَه هاجر في واد غير ذي زرع، وترك معها ابنهما إسماعيل(ع) وهو يومئذ طفل رضيع.
وقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}(38).
وذهب إبراهيم خليل الله بعد ذلك إلى شأنه كما أمره الله تعالى. وترك هذه المرأة والطفل الرضيع لوحدهما في هذا الوادي القفر بأمر الله تعالى فنفد ما كان لديهما من الماء وعطش الطفل وغلب عليه الظمأ وأخذت المرأة تبحث عن الماء فلم تجد له أثراً، وأخذ الطفل يصرخ ويضرب بيديه ورجليه، والأم تهرول من هنا وهناك فتصعد على الصفا تارةً تنظر إلى الأفق البعيد بحثاً عن الماء ثم تهبط، وتهرول باحثة عن الماء إلى جانب جبل المروة، وتدعو الله تعالى أن يرزقهما الماء في هذا الوادي القفر، والطفل يصرخ ويبكي ويضرب بيديه ورجليه عند البيت الحرام.
ففجر الله تعالى الأرض ماءً تحت قدمي الطفل، فأسرعت الأم إلى الماءِ، لتروي طفلها الرضيع، ولتلملم الماء لئلا يذهب هدراً، فتقول للماء وهي تصنع له حوضاً يجمعه زم.. زم...
الرواية التاريخية لقصة السعي الأول:
تقول الرواية التاريخية:
(إنّ الله تعالى أمر عبده وخليله إبراهيم أن يخرج بزوجته هاجر (أُمّ إسماعيل) من الشام إلى صحراء الجزيرة، حيث يقع الحرم، فلما وافى إبراهيم منطقة الحرم، حيث تقع مكة اليوم نزل فيها فوجد شجراً، فألقت هاجر كساءً كان معها تستظل تحته فلما سرّحهم إبراهيم ووضعهم، وأراد الانصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: يا إبراهيم لِمَ تدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟
فقال إبراهيم: الّذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم، ثمّ انصرف عنهم، فلمّا بلغ كدى وهو جبل بذي طوى، التفت إليهم إبراهيم فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
ثمّ مضى وبقيت هاجر، فلمّا ارتفع النهار عطش إسماعيل وطلب الماء، فقامت هاجر في الوادي في موضع المسعى فنادت: هل في الوادي من أنيس؟ فغاب إسماعيل عنها فصعدت على الصفا، ولمع لها السراب في الوادي وظنّت أنّه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت فلمّا بلغت المسعى غاب عنها إسماعيل، ثمّ لمع لها السراب في ناحية الصفا فهبطت إلى الوادي تطلب الماء، فلمّا غاب عنها إسماعيل عادت حتّى بلغت الصفا فنظرت حتّى فعلت ذلك سبع مرّات، فلمّا كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه، فعدت حتّى جمعت حوله رملا فإنّه كان سائلا فزّمته بما جعلته حوله فلذلك سمّيت زمزم).
أسرار الموقف:
إن هذا المشهد العجيب استنزل يومذاك رحمة الله تعالى، ففجر الله لهما زمزم في واد غير ذي زرع، وجعلها مصدراً ومبدأً لكثير من البركات على هذه الأرض المباركة، وجعل هذا المشهد جزءاً من أعمال الحجّ، وثبّته في واحد من أشرف فرائضه.
فما هو السرّ الكامن في هذا المشهد؟ ولماذا هذا الاهتمام به في أصل الدين، وتثبيته في الحج؟ وما هو السبب المؤثر والقوي الذي استنزل رحمة الله تعالى بقوة في هذا المشهد، وجعلها مبدءاً لبركات كثيرة في تاريخ أجيال الموحّدين؟
فلابد من أن يكون هذا المشهد ينطوي على سرّ خاص استدعى نزول رحمته تعالى في ذاك الوادي القفر، واستدعى دوام هذه الرحمة وثباتها، وجعل منها مصدراً ومبدأً لكثير من البركات، واستدعى أن يثبتها الله تعالى في حج أجيال الموحدين عند بيته الحرام.
إنني اعتقد ـ والله تعالى أعلم بأسرار هذا المشهد ـ أن هذا المشهد النادر كان يجمع يومئذ بين ثلاثة منازل من منازل رحمة الله تعالى كلّ منها يستنزل رحمته تعالى.
وأول هذه المنازل الحاجة التي كان يمثلها: (الظمأ) الذي أضرَّ بالطفل الرضيع، والذي جعله أقرب من غيره إلى رحمة الله تعالى.
ولذلك نرى أن الأطفال الرضّع إذا أضرّ بهم ألم أو جوع أو ظمأ أو برد أو حرّ كانوا أقرب إلى رحمة الله تعالى من الكبار الذين يطيقون ذلك كلّه، ولأن الحاجة تضرّ بهم أكثر من الكبار.
وقد ورد في الدعاء (اللهمّ أعطني لفقري)، والفقر إلى الله لوحده يستنزل رحمته تعالى، وكلما كان الفقر إلى الله أعظم كان أدعى لنزول رحمة الله، فان الفقر إلى الله يجعل الإنسان عند رحمة الله، ويقرب الإنسان منه، سواء كان الإنسان يعي فقره إلى الله أم لا يعي، وإن كان وعي الفقر إلى الله يضاعف من قيمته وقدرته في استنزال رحمته تعالى. ولكن بشرط ألاّ يحرّف الإنسان الفقر عن موضعه، فيتصوّره أنّه من الفقر إلى المال أو إلى حطام الدنيا، أو إلى بعض عباد الله بدل أن يعيه على واقعه من الفقر إلى الله. وشتّان بين هذا الفقر وذاك الفقر.
والذي يستنزل رحمة الله تعالى هو الفقر إلى الله، فإذا حرّف الإنسان هذا الفقر من الفقر إلى الله إلى الفقر إلى عباد الله فقد الفقرُ قيمتَه في استنزال رحمته تعالى، وأكثر فقر الناس من هذا النوع.
وفي هذا المشهد كان صراخ الطفل وضجيجه وبكاؤه من شدّة العطش مشهداً نافذاً مؤثراً في استنزال رحمة الله تعالى.
كما أنه ليس في مشاهد الحاجة والفاقة إلى الله مشهد مؤثر ورقيق يستنزل
رحمته تعالى أكثر من مشهد طفل يتلظى من العطش، ولا تجد له أُمّه إلى الماء سبيلا.
والمنزل الثاني لرحمة الله في هذا المشهد هو: (السعي) وهو شرط للرزق، ولا رزق من دون سعي، وقد جعل الله تعالى السعي والحركة في حياة الإنسان مفتاحاً للرزق.
وإذا كان عامل الفقر يُكْسِب الإنسان حالة الاضطرار والفاقة والحاجة. فإنّ عامل السعي يُكْسِب الإنسان العزم والقوّة والإرادة، والحركة والنشاط، وعلى قدر حركة الإنسان وسعيه وعزمه يرزقه الله تعالى من رحمته.
وقد تحركت أمّ إسماعيل ـ عندما نفد عندهما الماء، وغلب الظمأ على إسماعيل ـ للبحث عن الماء، وسعت تطلبه، تصعد إلى الصفا مرّة، تنظر في الأفق البعيد باحثةً عن الماء، وتنزل من الصفا وتتّجه إلى المروة، تارةً أُخرى، لتصعد عليه وتنظر إلى الأفق البعيد تبحث عن الماء، ورغم أنها استعرضت في هذه الحركة كلّ الأفق من على الصفا والمروة فلم تجد ماءً لم تيأس، وكرّرت هذه الحركة، والصعود والنزول، والهرولة من الصفا إلى المروة وبالعكس سبع مرات، ولولا هذا الأمل والرجاء لانقطع سعيها في الشوط الأوّل، ولكن الأمل والرجاء الذين كانا يعمران قلبها كانا يدعوانها كلّ مرة إلى إعادة السعي مرة أخرى، حتى فرّج الله عنهما وفجّر زمزم تحت قدمي إسماعيل، ولكن الأمل هنا في الله وليس في الماء ولو كان أملها في الماء لانقطع أملها في المرة الأولى أو الثانية.
وقد جعل الله تعالى هذا السعي وهذه الحركة شرطاً للرزق، ونزول رحمته على الإنسان، والله تعالى يرزق عباده، وينزل عليهم رحمته، ولكنه تعالى شاء أن يكون السعي والحركة مفتاحاً لرزقه ورحمته.
والمنزل الثالث لرحمة الله تعالى في هذا المشهد: هو (الدعاء)، دعاء أمّ إسماعيل، وانقطاعها إلى الله واضطرارها إليه ـ عزّ شأنه ـ في طلب الماء في هذا الوادي القفر غير ذي زرع، وكلّما انقطع الإنسان في دعائه إلى الله أكثر كان أقرب إلى رحمة الله.
ولست أدري في أية حالة من حالات الانقطاع إلى الله، كانت هذه المرأة الصالحة في تلك اللحظات في الوادي غير ذي زرع، وليس من إنسان أو حيوان حولها، ووحيدها الرضيع يتلظى عطشاً، ويكاد أن يلفظ آخر أنفاسه.
لقد انقطعت المرأة إلى الله في تلك اللحظة انقطاعاً ضجّت له ملائكةُ الله بالدعاء، وضموا أصواتهم إلى صوتها، ودعاءهم إلى دعائها.
ولو أن الناس كلهم انقطعوا إلى الله بمثل هذا الانقطاع لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وعمّتهم رحمة الله تعالى.
عليكِ سلام الله يا أُمنا أمّ إسماعيل! من أبنائك الذين آتاهم الله النور والهدى والإيمان والنبوة، ومن المهتدين بهداهم ونورهم... ولولا ذلك الانفراد في ذلك الواد القفر غير ذي زرع في هجير الحجاز، ولولا تلك المعاناة والمحنة لم تنقطعي إلى الله عزّ وجلّ بمثل هذا الانقطاع، في ذلك الموقف العسير على جبلي الصفا والمروة، ولولا ذلك الانقطاع إلى الله، لم تنزل رحمة الله تعالى عليكما، ولولا تلك الرحمة لم يكن انقطاعك إلى الله وسعيك بين الصفا والمروة من شعائر الله في الحجّ.
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}(39).
لقد ثبّت الله تعالى ـ يا أُمّنا ـ انقطاعك إليه في ذلك الهجير، وسعيك إلى الماء، وصراخ صغيرك إسماعيل في ذاكرة التاريخ، ليعرف الأجيال من بعدك كيف يستنزلون رحمة الله، وكيف يتعرضون لرحمة الله.
إن رحمة الله تعالى واسعة لا شحّ فيها ولا نقص، ولا عجز، ولكن الناس لا يعرفون مواضع هذه الرحمة ومنازلها، ولا يحسنون التعرّض لها والاستفادة منها.
ومنك تعلمنا يا أمّنا! كيف نطلب منازل رحمة الله، وكيف نتعرض لرحمة الله، ومنك يا أمنا أخذنا مفاتيح الرحمة.
وعذراً يا أمنا! إذا كنّا ـ نحن أبناؤك ـ لم نحفظ هذه المفاتيح التي سلّمتيها إلى إسماعيل من بعدك، وتوارثها أبناء إسماعيل من إسماعيل، وتوارثناها ـ نحن ـ من ابنك محمد المصطفى رسول الله(ص) فضيعناها فيما ضيعنا من تراث الأنبياء ومواريثهم.
لقد تعلمنا من أبينا إبراهيم كيف نوحّد الله، وتعلمنا من أمّنا هاجر كيف نسأل الله، وفي متاهات الهوى والطاغوت ضيعنا هذا وذاك.
فأعنّا اللهمّ! على تحصيل ما ضيعناه من تراث أبينا وأمنا (إبراهيم وهاجر‘) واجعلنا من أسرتهم، ولا تطردنا ربنا! من هذا البيت من آل إبراهيم وآل عمران.
{إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(40).
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(41).
لقد أخذت أمُّنا (أمّ إسماعيل) ـ يومذاك في ذلك الوادي القفر، وفي رمضاء هجيز ذلك الوادي ـ بأسباب الخير كلّها... وذلك هو السعي والدعاء والفقر.
لقد كانت أُمّنا تسعى إلى الماء، وتشرف على الوادي تارة من على الصفا وأُخرى من على المروة باحثة عن الماء، والله تعالى يحبّ من عباده الحركة والسعي والعمل، وجعل ذلك من أهم شروط الرزق. ولكنها في سعيها كانت منقطعة إلى الله، وتدعوه تعالى، وتسأله في حالة من الانقطاع، يقلّ نظيرها في تاريخ الإنسان، فلا السعي والتحرك، كانا يحجبانها، ويقطعانها عنه تعالى، ولا الانقطاع إلى الله كان يعطل فيها حالة الحركة، والسعي إلى الماء بأقصى ما تستطيعه امرأة في ذلك الوادي، وفي ذلك الهجير... في أشواط سبعة من الصفا إلى المروة ومن المروة إلى الصفا.
وإننا اليوم في شعائر حجّنا، نسعى هذه الأشواط بين هذين الجبلين، من غير معاناة، ولا عذاب ولا همّ، ولا قلق، فنكدح ونتعب ويرهقنا هذا السعي.
وقد قامت أمُّنا هاجر بهذا السعي كلّه في ذلك الوادي القفر، وفي رمضاء ذلك الهجير، وهي ظمأى قد استنفذ العطش كلّ حولها وقوتها، ورضيعها الصغير يكاد يلفظ آخر أنفاسه... ولكنها مع ذلك قامت بهذا السعي إلى الماء بقوّة وهمّة وعزم وإرادة.
ولم يمنعها هذا السعي ـ ولو للحظة واحدة ـ عن الانقطاع إلى الله، ولم يحجبها ولو للحظة واحدة عنه تعالى. لقد كانت في هذا السعي المرير كلّه على اتصال بالله، وانقطاع إليه لا يشغلها هذا عن ذاك ولا يحجبها ذاك عن هذا، فقرنت السعي إلى الماء بالانقطاع إلى الله، وقرنت الانقطاع إلى الله بالسعي إلى الماء، ومَن منّا يقدر على ذلك؟
والملائكة يومئذ ينظرون إليها، ويتعجبون منها، كيف استطاعت أن تنقطع إلى الله هذا الانقطاع؟ وكيف تمكنت أن تسعى إلى الماء وهي مثقلة بالمتاعب والمحن هذا السعي؟ وكيف استطاعت أن تجمع بين السعي والانقطاع إلى الله بمثل هذا الجمع؟
فيضجون إلى الله تعالى أن يستجيب لدعائها وسعيها، وأن يستنزل سعيها ودعاؤها رحمةَ الله تعالى، وتقرب رحمة الله حتى تكاد أن تنطبق السماء على الأرض.
لقد صعد يومئذ عمود من الدعاء، والعمل الصالح من الأرض إلى السماء، ونزل عمود من الرحمة من السماء إلى الأرض واتّصلت الأرض بالسماء، والسماء بالأرض، وحشود الملائكة يشهدون هذا المشهد الفريد، ويضجون إلى الله تعالى، ويتضرعون، فيحدث ما ليس بالبال ولا الخيال، وتنفجر الأرض تحت أقدام الرضيع ماءً بارداً زلالا شفافاً هنياً.
وسبحان الله، والحمد لله، لقد استجاب الله لسعيها ودعائها، ولكن لا حيث سعت، وإنّما تحت أقدام الرضيع، الذي كان يضرب بيديه ورجليه ظمأً يومذاك، ليعلمها الله أنه تعالى هو وحده الذي رزقها هذا البارد العذب في هذه الرمضاء وفي هذا الهجير، وليست هي التي حققت ذلك بسعيها وحركتها... وإن كان لابد لها من أن تسعى وتتحرك ليرزقها الله تعالى زمزم.
ففجر الله (زمزم) تحت أقدام الرضيع، وأقام الله تعالى في ذلك الوادي بيته المحرم، وبارك في زمزم، وجعل منها سقاية الحاج مدى الأجيال، وثبت الله هذا السعي والدعاء في ذاكرة التاريخ، وجعل منه شعيرة من شعائر الحج، يحذو فيها حشود الحجاج كلّ عام حذوها، ويحيّون فيها من بُعد أمّهم هاجر وأباهم إبراهيم وإسماعيل.
لقد اجتمعت في هذا الوادي ـ يومذاك ـ ثلاثة أسباب من أسباب نزول رحمة الله تعالى: الفقر والسعي والدعاء...
فقر في أقصى درجات الضعف والفاقة، وسعي في قوة وحزم وعزم، ودعاء في تضرع وانقطاع واضطرار.
وفي الحجّ نحيي نحن كلّ عام هذا المشهد؛ لنتعلم من أمّنا (أمّ إسماعيل÷) كيف نطلب رحمة الله تعالى وكيف نستنزل فضله ورحمته، وكيف نغرف من رحمته ونتعرض لها.
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الهوامش:
1 ـ الشعراء: 80.
2 ـ وهذا لا يعني أن الناس لا يموتون تحت الأنقاض في الزلازل، ولا يحترقون في الحرايق، ولا يهلكون في لجج البحار، ولا يموت إنسان من المرض والألم ولا يموت طفل رضيع.
3 ـ الشعراء: 69 و78 ـ 82.
4 ـ المؤمن: 60.
5 ـ البقرة: 117.
6 ـ الزمر: 67.
7 ـ آل عمران: 165.
8 ـ المنافقون: 7.
9 ـ غافر: 7.
10 ـ الإنعام: 147.
11 ـ الإسراء: 20.
12 ـ فاطر: 2.
13 ـ عدة الداعي.
14 ـ وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 21، ح 3.
15 ـ ليس معنى القول بتحتيم هذه العلاقة فرض أمر على الله ـ تعالى ـ فهو ـ سبحانه ـ قد كتب على نفسه الرحمة {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ..} الأنعام: 54.
16 ـ النمل: 62.
17 ـ البقرة: 186.
18 ـ أصول الكافي.
19 ـ ثواب الأعمال: 137.
20 ـ وسائل الشيعة، 4: 1084، ح 8606.
21 ـ وسائل الشيعة، 4: 1085، ح 8611.
22 ـ المصدر السابق، ح 8613.
23 ـ وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 2، ح 18.
24 ـ أصول الكافي، كتاب الدعاء، باب الإلحاح بالدعاء، ح 5.
25 ـ ارشاد القلوب للديلمي.
26 ـ عدة الداعي، وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 14، ح 1.
27 ـ إرشاد القلوب للديلمي.
28 ـ وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب الدعاء، باب 2، ح 12 ـ وسائل الشيعة، 4: 1086، ح 8621.
29 ـ وسائل الشيعة، 4: 1086، أبواب الدعاء، باب 2، ح 8622.
30 ـ نفس المصدر.
31 ـ وسائل الشيعة، 4: 1087.
32 ـ النحل: 97.
33 ـ القصص: 67.
34 ـ نهج البلاغة: حكمة 15.
35 ـ النساء: 124.
36 ـ الزلزلة: 7.
37 ـ آل عمران: 30.
38 ـ إبراهيم: 37.
39 ـ البقرة: 158.
40 ـ آل عمران: 33 ـ 34.
41 ـ البقرة: 128.