التقريب بين حرية الاجتهاد والفقه المقارن

قيم هذا المقال
(0 صوت)

الفقه المقارن

بسم الله الرحمن الرحيم

ضرورة الاجتهاد

العمل بالتكليف أو بالوظيفة التي افترضها الله عز وجل على المسلم قضية يؤمن بها كل مسلم ويصل إليها تدرجا من سلم عقائدي، فبعد الإقرار بالوحدانية الله عزوجل وبالنبوة والرسالة لمحمد(ص) وبالمعاد والحساب على الأعمال في هذه الدنيا، يصل كل مسلم إلى فكرة ضرورة الوصول إلى ما يؤمّنه من العذاب ويكتب له النجاة.

التلقي الأولي للأحكام في عصر الرسالة كان سهل المنال إذ كان يتم بالمباشرة والسؤال من نبي الإسلام، ولكن بعد فترة الرسالة وانقطاع الوحي الرسالي، انسد هذا الباب في عقيدة السنة والجماعة فيما امتد باب التلقي المباشر من قبل الأئمة لدى الشيعة وإلى عصر الغيبة الصغرى، انطلاقا من الصفات التي اثبتتها الإمامية لأئمتهم وأما بعد عصر الغيبة، فقد صار على الفقيه أن يسعى في استنباط الأحكام لنفسه ولمن لم تتهيأ له وسائل الاستنباط من سائر الاستنباط من سائر المسلمين، ولولا هذا الطريق لما عرف الناس أحكام ربهم ولحاروا في متاهات الجهل وسبل الضلال.

إن مسير تطور الحياة الاجتماعية للبشرية ومتطلبات العصر أمر لا يمكن الوقوف أمامه بصمت أو بعجز، بل إن استمرارية الإسلام كشريعة تكفل بناء الحياة الإنسانية يتطلب الإجابة عن ذلك، ومن هنا نحس بشدة ضرورة فتح باب الاجتهاد والبحث الجاد عن كل مسألة من الفقه ، لئلا يصيبه الجمود في شكله ومحتواه وليتبلور حتى يصبح معطاءا مجيبا على كل حادثة تحدث ومسألة تتجدد ، ويسر مع عجلة الزمن ويملأ الفراغ الذي يواجهه الإنسان الذي يعطى كل يوم شكلا جديدا لحياته الفكرية والاجتماعية . إن تعطيل التجديد والاجتهاد في الفقه الإسلامي يعني ايقاف المسلم عن سيره التقدمي والحد من نشاطاته الأصيلة ودفعه إلى التسول من الخارجين على دينه والمناهضين لمعتقداته. وأخيرا سلب الاعتماد على شخصيته وذوبانه فيما يستورد له من وراء حدود وطنه الإسلامي الأكبر [1].

 

أدوار الاجتهاد

نجد من الحاجة قبل ان نستعرض النقطة الرئيسية في هذه السطور وهي دور حرية الإجتهاد في الوحدة الإسلامية أن نستعرض تاريخ حركة الاجتهاد لدى المسلمين انطلاقا من بيان الأدوار التي مر بها:

الدور الأول: دور الصحابة والتابعين كان بعض الصحابة إذا عرضت لهم مسألة يحاولون أن يجدوا حلها من الكتاب أو السنة، فإن وجدوا حلها فيها وإلا كانوا يعملون بما وصل إليه رأيهم في المسألة - وإن كان هناك من يتوقف من الإفتاء بالرأي - كما تدل على ذلك نصوص كثيرة . ففي حديث ميمون بن مهران : " كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك الأمر سنة قضى بها ، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين فقال : أتاني كذا وكذا ، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قضى في ذلك بقضاء ؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله فيه قضايا ، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبينا ، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به [2].

الدور الثاني: دور الأئمة الأربعة ويمتد هذا الدور من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع، وكان من ظواهر هذا الدور: اتِّساع الحضارة ونمو الحركة العلمية في الأمصار الإسلامية ، وازدياد حفاظ القرآن والعناية بأدائه وتدوين السنة وأصول الفقه، وظهور المصطلحات الفقهية، وظهور المذاهب الأربعة وغيرها من المذاهب المنقرضة، والنزاع في مادة الفقه - السنة والإجماع والقياس وغيرها - وانشقاق المدرسة إلى مدرستي الرأي والحديث.

الدور الثالث: دور التقليد وهو دور حصر الاجتهاد والدعوة إلى التقليد ، ولا يُمكننا تعيين بداية هذا الدور على التحديد، وذلك أنَّ المحاولات لتحديد دائرة الاجتهاد كانت كثيرة وفي أزمنة مختلفة، فكانت هذه المحاولات في فترة بين الرابع والسابع الهجري. وتوقف الفقهاء في هذا الدور عن كل حركة علمية، وأعرضوا عن النظر في الكتاب والسنة، ولبثوا يجترون بعض الكتب الفقهية القديمة.

الدور الرابع: فتح باب الاجتهاد من جديد وهو دور الدعوة إلى انفتاح باب الاجتهاد من جديد، وفي الواقع لا ينبغي أن نجعل هذا الدور دورا خاصّا؛ لأنَّ هناك من كان يدعو إلى فتح باب الاجتهاد والاعتراض على سده منذ القرون التي أعلن فيها انسداد بابه حتى يومنا هذا ، أمثال أبي الفتح الشهرستاني المتوفى سنة 548، وأبي إسحاق الشاطبي المتوفى سنة 790 والسيوطي المتوفى سنة 911 ، وقد ألّف السيوطي رسالة سماها " الرد على من أخلد إلى الأرض ، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض "، وقدم لهذه الرسالة بقوله : " إن الناس قد غلب عليهم الجهل ، وأعماهم حب العناد وأصمهم ، فاستعظموا دعوى الاجتهاد وعدوه منكرا بين العباد ، ولم يشعر هؤلاء الجهلة أنه فرض من فروض الكفايات في كل عصر ، وواجب على أهل كل زمان ، أن يقوم به طائفة في كل قطر "

واستمر هذا الصمود أمام غلق باب الاجتهاد إلى القرون المتأخرة حيث ظهر في العلماء من يدعو إلى فتح بابه من جديد ، أمثال السيد جمال الدين الأسد آبادي ( المشهور بالأفغاني ) الذي كان يقول : " ما معنى باب الاجتهاد مسدود ؟ وبأي نص سد ؟ وأي إمام قال : لا يصح لمن جاء بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين ويهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمن وأحكامه ". ومثل الشيخ محمد عبده حيث يقول : " إن الحياة الإنسانية للمجتمع الإنساني حياة متطورة ، ويجد فيها من الأحداث والمعاملات اليوم ما لم تعرفه أمس هذه الجماعة ، والاجتهاد هو الوسيلة المشروعة الملائمة بين أحداث الحياة المتجددة وتعاليم الإسلام ، ولو وقف الأمر بتعاليم الإسلام عند تقفه الأئمة السابقين لسارت الحياة الإنسانية في الجماعة الإسلامية في عزلة عن التوجيه الإسلامي ، وبقيت أحداث هذه الحياة في بعد عن تجديد الإسلام إياها.

 

دور حرية الاجتهاد في الوحدة الإسلامية

بعد هذا التقديم، يمكننا أن نحدد دور حرية الاجتهاد في وحدة المسلمين:

أولا: إن سدّ باب الاجتهاد وحصر المذاهب في المعروف منها أدّى إلى اعتبار كل خارج عنها خارجا عن الإسلام، ومحاربته ومواجهته في بعض الأحيان، وما جر على الأمة من شدائد وعظائم، ولكن فتح باب الاجتهاد، سوف يجعل من مخالفة كل مخالف ضمن الإطار العام، وسوف يتلافى اتهام البعض للآخر بالخروج عن الدين وعن الإسلام.

نعم لا بد وان تنضبط حركة الاجتهاد هذه ضمن قواعد عامة، وهو امر ليس عسيرا فهذه حركة الاجتهاد في الفقه الشيعة وقد زاد عمرها عن الألف عام ما زالت تسير ضمن قواعد محددة تطور كتطور العلوم كافة، ولكن حركة كل مجتهد وفقيه فيها تبقى ضمن الإطار العام وضمن القواعد العامة.

ثانيا: إن فتح باب الاجتهاد يفتح الباب أمام قبول الآخر، فإن فهم الاختلاف معه مع فرض سدّ باب الاجتهاد سوف يفسّر على أنّه خلاف في الإسلام وعدمه وليس خلافا في فهم الحكم الشرعي أو فهم النص النبوي، فالذي تبنى رفض أي باب للاجتهاد الحر سوف يرى في مخالفة المذاهب الفقهية المعروفة مخالفة للإسلام، وأما الذي يتبنى فتح باب الاجتهاد فسوف يراها مخالفة ضمن الإطار الإسلامي وفي النص الديني.

ثالثا، إن فتح باب الاجتهاد سوف يؤدي إلى معذورية الآخر المختلف، وذلك انطلاقا مما تقدّم في النقطة الثانية، فإن من يرى حرية الاجتهاد في الدين فإنه سوف يرى من يختلف معه معذورا فيما توصل إليه سواء أصاب أم أخطأ، وذلك خلافا لمن سد باب الاجتهاد فإنه سوف لا يراه معذورا بل يرى في رأيه بدعة، وخروجا عن الدين ومروقا عن ربقة المسلمين، ومعذورية صاحب الرأي المختلف هو ما رمى إليه الشيخ شلتوت عندما عمم جواز التعبّد بالمذاهب إلى المذهب الجعفري.

رابعا، إن حرية الاجتهاد سوف تفتح الباب أمام تقريب وجهات النظر بين المذاهب الإسلامية، وذلك عندما يقرأ فقهاء كل مذهب فقه الآخر ساعين إلى فهم طرق ووسائل استنباط الحكم الشرعي لديه، الأمر الذي يقرب النفوس ويأتلفها.

 

الفقه المقارن، الأهمية ودوره في التقريب

يجدر بنا حيث نتحدث عن الاجتهاد في الفقه ودوره في التقريب بين المذاهب أن نستعرض وبوضوح أهمية الفقه المقارن ودوره في التقريب بين المذاهب:

دور علماء الشيعة في الفقه المقارن

سوف نستعرض بداية دور علماء الشيعة في الفقه المقارن، وذلك من خلال بيان بعض مصادر الفقه الشيعي التي اتسمت بمعالجتها لموضوعات الفقه المقارن، لنوضح بعد ذلك كيف يسهم ذلك في التقريب بين المذاهب، وهي تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الفقه المقارن مع المذاهب الفقهية الأخرى

1 - " المعتبر في شرح المختصر " للمحقق الحلي المتوفى ( 676 ) ، فقد تعرض في بعض المسائل إلى مذاهب الجمهور وخلافهم مع الإمامية .

2 - " منتهى المطلب في تحقيق المذهب " للعلامة الحلي المتوفى ( 726 ) ، قال عنه هو في كتابه " الخلاصة" : " لم يعمل مثله ، ذكرنا فيه جميع مذاهب المسلمين في الفقه ، ورجحنا ما نعتقده بعد إبطال حجج من خالفنا فيه.

3 - " تذكرة الفقهاء " له أيضا : وتعرض فيها المؤلف إلى خلاف الفقهاء ، وكتبه بالتماس ولده فخر المحققين ، كما قال في مقدمته.

القسم الثاني: الفقه المقارن داخل المذهب الشيعي

إن غالب الكتب الفقهية المبسطة تتعرض لأقوال الفقهاء الآخرين ولكن هناك بعض الكتب قد ألفت لغرض بيان اختلاف الفقهاء ونقل أقوالهم فمن ذلك:

1 - " مختلف الشيعة " للعلامة الحلي قدس سره والظاهر أنه أول ما ألف في هذا المجال.

2 - " مفتاح الكرامة " للسيد محمد جواد الحسيني العاملي قدس سره ، المتوفى حدود ( 1326 )، وهو الآن في عشرة مجلدات من القطع الكبير.

وإنما تعرضنا للقسمين لبيان أثر ذلك على الوحدة بين المسلمين.

 

أثر الفقه المقارن على التقريب والوحدة بين المسلمين

تظهر أهمية الفقه المقارن في التقريب بين المذاهب من خلال النقاط التالية:

أولا: تحديد الخلاف في الأطر الفقهية، فإن فائدة الفقه المقارن تظهر في تحديد أسباب الاختلاف بين الفقهاء، وتطل على دور اختلاف المباني في اختلاف النتائج الفقهية، وهذا ما يحدد ويقصر من دائرة الخلاف الفقهي، لأن الصورة القائمة فعلا مع عدم تعميق أبحاث الفقه المقارن وعدم اتساعها هو أن الخلاف يمتد إلى العمق وإلى الإسلام نفسه، وكأن المختلف في الفقه مختلف في الدين.

ثانيا، إن الرجوع إلى الفقه المقارن في داخل إطار كل مذهب (كما في القسم الثاني المتقدّم آنفا)، ثمَّ الرجوع إلى الفقه المقارن بين المذاهب الإسلامية، يوضح لنا وبجلاء أن الخلاف الفقهي بين المذاهب لن يكون كبيرا، بالقياس إلى الخلاف داخل المذهب الواحد، فكما لا يؤدي الثاني إلى الشقاق والخلاف فلا ينبغي أن يؤدّي الأول إلى ذلك.

ثالثا، إنّ الفقه المقارن سوف يسلِّط الضوء على النقاط الخلافية ليعمل على معالجتها، فإن أمكن كان حسنا، وإلا كان إتباع كل طرف للدليل واضحا لدى الآخر، الأمر الذي يحد من الخلاف مهما اشتد الاختلاف.

رابعا، إن الفقه المقارن سوف يثبت بالأرقام عدد الاختلافات الموجودة بين المذاهب الإسلامية، وأنّ الاختلاف السني ـ الشيعي، لا يقصر عن الاختلاف بين مذهبين من المذاهب الفقهية الأربعة، ومن هنا لماذا يتم تضخيم الخلاف مع الفقه الشيعي؟ ألا ينمّ ذلك عن عدم اطّلاع دقيق على الاختلاف الفقهي.

خامسا، إن الفقه المقارن سوف يسلّط الضوء على نوع المسائل المختلف فيها، ليعلم كيف أنها تتعلق ببعض التفاصيل والجزئيات ولا تتعلق بالأسس وإلا فالاتفاق واقع بين المسلمين على القضايا المتعلقة بالعبادات والمعاملات وإنما الخلاف في بعض المفردات أو الشروط أو الموانع.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

السيد عباس علي الموسوي

باحث ومفكر اسلامي - لبنان

 

الهوامش:

[1] - (نخبة الأزهار - تقرير بحث الأصفهاني ، للسبحاني - ص 5)

[2] - (حصر الاجتهاد - آقا بزرگ الطهراني - ص 20)

قراءة 3038 مرة