تعتبر زيارة أربعين الامام الحسين (ع) ، ظاهرة فريدة ، لم يشهد لها التاريخ الانساني مثيلا ، لا لدي اتباع الاديان السماوية ولا لدي شعوب المعمورة ، و لا نعتقد ان الانسانية ستشهد في مستقبلها المنظور اوالبعيد مثل هذه الظاهرة ، التي حيرت واذهلت ومازالت تحير وتذهل ، عقول العباقرة والمفكرين ، لانها ببساطة خارج نطاق مقاييس الظواهر الاجتماعية المتعارف عليها.
اذا نظرنا وبشكل انساني بحت الي ظاهرة الحسين عليه السلام وخاصة زيارة الاربعين ، واذا ما اخذنا ما لقيه اتباع اهل البيت عليهم السلام من تنكيل وحتي ابادة ، لثنيهم عن مواصلة درب الحسين عليه السلام ، من قبل الحكام الظلمة علي مر التاريخ ، بنظر الاعتبار ، كان لابد لهذه الظاهرة ان تتلاشي وتندثر وتموت ، وتتحول الي مادة للدراسات التاريخية شأنها شأن العديد من الظواهر الاجتماعية والاحزاب والمذاهب الدينية والسياسية ، التي اضمحلت واندثرت علي مر التاريخ.
ان ما نشاهده اليوم من قتل وتنكيل ، بواسطة السيارات المفخخة والانتحاريين والاحزمة الناسفة والذبح ومختلف الطرق الاخري التي لا تخطر حتي ببال الشيطان ، التي تستهدف زوار الحسين(ع) ، ما هو الا جانب بسيط من الحالة الماساوية التي عاشها اتباع اهل البيت عليهم السلام ، في الازمنة الغابرة ، والتي تجاوزت اتباع هل البيت (ع) الي اهل البيت انفسهم ، فكم مرة سوي ضريح الحسين (ع) مع الارض وغطته المياه ، لاخفاء ضريحه الطاهر.
من الصعب علي الانسان تخيل ان يتوجه كل عام اكثر من ۱۶ مليون انسان من مختلف انحاء العالم الي مدينة كربلاء حيث مثوي بضعة رسول الله (ص) سيد الشهداء الامام الحسين (ع) ، وهم يخاطرون بارواحهم ، تلبية لندائه الخالد هل من ناصر ينصرني ، دون ان تتكفل حكومة ، هذا ما استثنينا الجهود الجبارة التي تبذلها الحكومة العراقية لتوفير الامن للزائرين ، او جهة دولية او مؤسسات بعينها ، برعاية هذه المسيرة العملاقة ، او حتي ان تتدخل في كيفية توفير الماء والغذاء والسكن والعلاج لهذا العدد الضخم من البشر والذي يتزايد عام بعد عام.
تري من الذي يدفع هؤلاء الناس وغالبيتهم من الفقراء ، ان يتركوا اعمالهم وبلدانهم ومدنهم ومنازلهم واسرهم ، ويسيرون مئات الكيلومترات علي الاقدام في الصيف والشتاء في الليل والنهار ، ليلتقوا عند ضريح ابي الاحرار وشم ثراه؟ ، من الذي يدفع الالاف من الناس ان ينفقوا وبكرم حاتمي منقطع النظير من مالهم الخاص ويقدموا الخدمات من الماء والطعام والمسكن وكل ما تحتاجه هذه الملايين من البشر الزاحفة نحو كربلاء دون ان ينتظروا منة او ثناء من احد ؟، من الذي يدفع الالاف من الناس ، وهم من عوائل ثرية وحتي من اصحاب المناصب والاكاديميين ، ان يكونوا خدمة لهؤلاء الزوار ، ويسهروا علي راحتهم ويخدمونهم بشتي الطرق ، مثل غسل اقدام الزوار وتدليكها ، ويعتبرون ما يفعلونه فخر لا يدانيه فخر؟.
الملفت ان زوار الاربعين ومنذ القدم كانوا يرفعون شعار لو قطعوا ارجلنا واليدين ناتيك زحفا سيدي ياحسين ، هذا الشعار كنا نسمعه ، ولكننا نري اليوم ان الزوار يجسدونه تجسيدا حيا ، فكم من الزوار قطعت ايدهم وارجلهم في التفجيرات الانتحارية والسيارات المفخخة والكمائن التي نصبت لهم علي طريق كربلاء ، الا انهم رغم كل ذلك واصلوا الدرب الي كربلاء ، بل ان اعدادهم تزداد اكثر كلما كانت التهديدات والمخاطر التي تواجهم اكثر.
قيل الكثير عن سر خلود وديمومة ظاهرة الاربعين ، والفت الكتب في ذلك وسودت الصفحات ، ولكننا ، ورغم ان جل ما قيل في هذا الامر الصحيح ، نري ان هذه الظاهرة هي ظاهرة الهية ، اريد لها ان تبقي وتستمر ، لانها تستمد طاقتها من اطهر دم اريق ظلما علي ثري كربلاء وبيد اتعس خلق الله ، وفي هذا السياق ندرك كلمات بطلة كربلاء صنو الحسين الشهيد السيدة زينب الكبري عقيلة بني هاشم وهي تخاطب يزيد في بلاطه وهو نشوان بانتصاره علي الحسين (ع) : فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا.
اليس من المستحيل في اطار المقاييس الانسانية ان تتحقق هذه النبوءة في الوقت الذي ، كانت عقيلة بني هاشم اسيرة عند يزيد ، قتل جميع اخوتها وابنائها وحتي الرضع من اهلها وجميع انصارها؟ ، اذن من اين استمدت بطلة كربلاء هذا القوة ؟ من اين جاء لها هذا الالهام ، انها المنتصرة وقاتل ابناء النبي (ص) وسابي ذراريه هو المنهزم؟ ، اليس في هذا الامر ما يدعونا ان نتوقف مليا امامه ؟ وان نتعرف اكثر علي منزلة اهل البيت عليهم السلام عند الله سبحانه وتعالي؟.
هنا اقتطف بعض جمل من الخطبة التي القتها السيدة زينب بنت الامام علي بن ابي طاب عليهما السلام ، وهي في بلاط يزيد ، اسيرة مع الاطفال والنساء والرؤوس ، لنفهم خلفيات هذه النبوءة اكثر. تري ما الذي ستقوله سيدة ، وهي في حال السيدة زينب (ع) ؟ ، ما الذي ستقوله سيدة مهما علا شأنها ومنزلتها ؟ وكيف نجسد حالها وهي تقف امام حاكم ظالم ذبح جميع اهالها ولم يستثن حتي الرضيع؟، قد نذهب في تجسيد هذا المشهد مذاهب شتي ، الا انها لن تكون كما كان المشهد عليه حقيقة ، عندما واجهت اخت الحسين (ع) يزيد .. لنستمع الي ما قالت : أ ظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء إن بنا هوانا علي الله وبك عليه كرامة .. فمهلا مهلا لا تطش جهلا، أنسيت قول الله تعالي ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين .. أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله (ص) سبايا .. وكيف ترتجي مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه بدماء الشهداء .. وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلا وأيكم شر مكانا وأضعف جندا . ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك ، واستعظم تقريعك ، واستكبر توبيخك ، لكن العيون عبري والصدور حري، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء .. ولئن اتخذتنا مغنما لتجدننا وشيكا مغرما .. فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها ، وهل رأيك إلا فند ، وأيامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدد ، يوم ينادي المنادي الا لعنة الله علي الظالمين .
اليس هذا الكلام والمقام الذي قيل فيه ، يخرج عن جميع السياقات التي نعرفها عن سلوكيات الناس العاديين مثلنا؟ ، من الذي يجرأ ان يقول ما قالته السيدة زينب (ع) بعد مذبحة كربلاء وفي بلاط يزيد؟ ، انها قوة وعنفوان ونفاذ بصيرة استمدتها العقيلة من الارحام المطهرة والاصلاب الشامخة والكرامات والمنازل التي اخص الله سبحانه وتعالي بها اهل البيت عليهم السلام .. فبهذا فقط يمكن تعليل ظاهرة اربعين الحسين (ع) .. فالسلام علي العقيلة زينب (ع) ، صاحبة الدور الابرز في جعل دم الحسين (ع) الذي اريق ظلما علي ثري كربلاء ، منارا يضيء درب الاحرار في كل عصر ومصر ، الي ان يرث الله الارض ومن عليها.