قال تعالى: ﴿وَ مَنْ يُهاجِرْ في سَبيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحيماً﴾ [1]. وقال تعالى: ﴿الّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [2]
% % %
تمربنا في هذه الأيام مناسبة دينية عظيمة ،ألا وهي الهجرة النبوية الشريفة ،ولا شك انها تمثل مرحلة مهمة من مراحل التکاملی للاسلام والمسلمين خاصة في ما يتعلق بحياة الدولة الإسلامية، فلا بُدَّ من إغتنام هذه المناسبة لنتعرف على أسبابها ومعطياتها لنأخذ الدروس والعبر منها لحاضرنا ومستقبلنا ، ذلك لأن الله لم يشرع أو يأمر بشي لينتهي بإنتهاء وقته ، فسبحانه وتعالي يسوق إلينا الأمور لنقف عندها ، ونتدبر في أسرارها ومعانيها، فمن الضروري أن نستفيد من كل الجوانب العطرة في السيرة النبوية الشريفة ومنها هجرته المبارکة من موطنه المحبَّبة مکة المکرمة إلی يثرب القديمة التی تشرفت بقدومه فاشتهرت بالمدينة المنورة .
وباسترجاع المسلم لأحداث الهجرة يجد الكثير من الدروس والعبر التى تبرزها السيرة النبوية العطرة، ونحن عند احتفالنا بهذه المناسبة ، لانقف عند وقائعها وأحداثها التي تبدو أنها قد استهلكت وتكررت كثيراً ، وجميعنا يعرفها ، ولكننا لنقف عندها ، ونتدبرها ونتعرف علی معانيها وأسرارها ، ، وأهم ما يمكن تطبيقه في حياتنا من أجل رفعة شأن امتنا الإسلامية .
إن المتأمِّل في حياة النبي الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم يجد الکثير من الدروس والعِبَر، ولو أخذت الأمة الإسلامية من هذا المَعِين الذي لا يَنفَدُ،واقتدت به واتبعت سنته وعملت بشريعته لحلت مشاكلها.
معنی ومفهوم الهجرة
کلمة الهجرة ،وکذلک کلمات مثل الجهاد، الشهادة،وغيرها من الکلمات الدينية ، مصطلحات مقدسة في كل الاديان وعند جميع البشر،وقد عمل و تحلَّی بها بعض الناس علی مرِّ العصور للدفاع عن وطنهم أودينهم الذي فيه كرامتهم وعزّهم ، فالحديث عن هذه الكلمات الدينية يتشوَّق إليه الجميع، وهي من الأمور التي جديرة بأن يُبحث عنها في كل زمان ومكان خاصة في المناسبات الإسلامية، لأنَّ الإسلام دوماً يحتاج إلی من يهاجر ويجاهد ويستشهد لأجله لكي يبقی هو الدين القيم الذي يهتدي به الناس.
والهجرة بالمعنی اللغوي هي: ترك شي إلى آخر، أو الانتقال من حال إلى حال، أو من بلد إلى بلد. والهجرة بمعناها الاصطلاحي تعني الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، أو من بلاد الإسلام المزيف والمحرَّف الذي لا يمکن للمسلم أن يعيش فيه حرّاً في عبادته ونشاطه الإجتماعي أو السياسي .
والهجرة من بلد لا يحكمه الدين إلى بلد تحكمه شريعة الأنبياء والمرسلين تصبح واجبة على المسلمين إذا خشوا أن يفتنهم الذين كفروا في دينهم وعقيدتهم، لأن هدف المسلم في الحياة أن يعيش في مجتمع يساعده على طاعة الله والالتزام بأوامره وأحكامه، أو على الأقل لا يحارب بعقيدته، لأن الفتنة في الدين هي الفتنة الكبرى.
اذن الهجرة هوترك الوطن(ولوکان وطناً اسلامياً) لحفظ الايمان ونموه والوصول الی الهدف المقدس المنشود،[3] فهي أمر مطلوب وممدوح من قبل الشارع، بل تجب إحياناً بأمر من الله أو رسوله ، وعلى هذا، يمكن أن يأخذ المسلمون بمعاني الهجرة في زماننا هذا، بل إن الأخذ بها ضرورة حياتية، لأن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال.
والهجرة لا تعني الانقطاعَ عن الوطن كما يظن كثير من الناس، بل هي تحمل في طياتها الحبَّ الكامل للوطن؛ وذلك إذا كانت الهجرة أهدافُها نبيلة، ومن أجل تحقيق مصلحة أعلى، وهي إقامة دين الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، حتى يحيا الوطن بنور الله، فالمهاجرُ يترك الوطن بجسده وقلبُه معلَّقٌ بوطنه، فهو دائم التفكير في كيفية الرجوع إلى هذا الوطن؛ حتى يقدِّمَ له الخبراتِ التي اكتسبها في هجرته، وهذا المعنى الحقيقي للهجرة أعلنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يترك مكة تركًا مؤقتًا؛ حيث نظر إليها وقال: «والله إنك لخيرُ أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خَرَجتُ» رواه الترمذي. ثم يعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابُه في فتح مكة إلى وطنه الذي أحبه؛ ليسأل الذين أخرَجوه من وطنه الحبيب مكة: «ما ترون أني صانع بكم؟»، قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا، فأنتم الطلقاء». أخرجه البيهقي.
وهناک معنی آخرللهجرة يمکن أن يطلق عليه بالهجرة الشعورية فتعني الانتقال بالنفسية السيئة إلی النفسية الطيبة أي: الإنتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى بحيث تعتبر المرحلة الثانية أفضل من الأولى کالذي يهجر السيئات کما جاء في الروايات أنَّ المهاجر من هجر السيئات، وكالانتقال من حالة التفرقة إلى حالة الوحدة، أو كالانتقال من مرحلة الدعوة والإرشاد إلی مرحلة بناء الدولة وهو من أعظم أنواع الهجرة في سبيل الله تعالی .
الهجرة في سبيل الله من سنن الأنبياء والأوصياء
إنَّ الهجرة في سبيل الله کانت من سيرة الأنبياء والأوصياء والعلماء، وتاريخ حياتهم التي سجلّتها الکتب السماوية والتاريخية تشهد علی ذالک بوضوح ، وتأتي هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم استمراراً لذالک الخط في حياة الرسل لنصرة عقائدهم ، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها وتذود عنها ، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء والأوصياء وحتی العلماء والصلحاء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للهجرة ، وإليک نماذج منها فيما يلي :
نماذج تاريخية للهجرة في سبيل الله
هناك شواهد تاريخية كثيرة في الأديان السابقة من تاريخ الأنبياء والأوصياء، وكذالك في تاريخ الإسلام، للهجرة في سبيل الله نستقصي بعضها:
1-هجرة النبي موسى (عليه السلام) من مصر إلى مدين[4]، ﴿فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين * ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي ان يهديني سواء السبيل﴾ [5]،ومن ثمَّ هجرته(عليه السلام) وبني اسرائيل من مدين إلى الارض المقدسة(بيت المقدس) في فلسطين.
2-هجرة النبي إبراهيم مع زوجته هاجر وإبنه إسماعيل من فلسطين إلی مكة وكان نتيجتها بناء الكعبة المشرفة ونشر التوحيد في الجزيرة العربية .
3-هجرة جمع من المسلمين من مكة الى الحبشة بقيادة جعفرالطيَّارواللجوء إلى بلادها بعد أن تعرّض المسلمون إلى الاضطهاد، ولم تتوفر لديهم وسائل الحماية المناسبة مع انَّ تلك البلاد لم تكن اسلامية، ولکن کانت من البلاد التي يحکمهاالموحدون ويسکنها المسيحيون، وهجرتهم من مكة إلى المدينة المنورة بعد أن بدأ الاسلام ينتشر فيها، ولم يكن هناك موقف عدائي صارم من مشركي المدينة تجاه المسلمين قبل هجرة النبي إليها، حيث كانت السلطة بيد المشركين حينذاك.
4- هجرة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم من مكة بعد ما ضايقوا المشركون عليه، و قرروا قتله ليلاً ، وكان ذلك في الأول من ربيع الأول السنة 13 للبعثة وقد وصل إلى منطقه قباء من ضواحي يثرب في 12 من ربيع الأول من تلك السنة وانتظر ابن عمه علي بن ابي طالب (عليه السلام) والذين معه من الفواطم والأصحاب ولم يدخل المدينة، إلى أن التحقوا به صلى الله عليه وآله وسلم في 15 من ربيع الأول ودخلوا معه إلى مدينة يثرب التي سميت بعد ذلك بمدنية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،وكان هذا الحدث المهم بداية الحكومة الإسلامية وأصبح فيمابعد مبدءاً للتاريخ الإسلامي، يؤرخ المسلمون حوادثهم به.
5- هجرة الإمام الحسين(عليه السلام) واهل بيته من المدينة الی مكة ومن ثمَّ إلي العراق وأرض كربلاء للجهاد في سبيل الله لطلب الاصلاح في أمة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
6-الهجرة الواسعة لاولاد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وذريتهم والعلماء الصالحين من شيعتهم إلی العراق وايران وكذلك إلی إفريقيا، وشبه القارة الهندية، وبلاد القفقاز، وعلى يد هؤلاء السادة والعلماء دخل الاسلام وانتشر وبسبب تلک الهجرات ومن خلال وجودهم في تلک المناطق، تأسست بعض الدول کدولة الأدارسة في المغرب التي اُجدت بسبب هجرة أحفاد الإمام الحسن عليه السلام منهم ادريس.
7- الهجرة الواسعة لشيعة أهل البيت(عليهم السلام)إلی مختلف أقطار العالم ،خصوصاً في عصر الائمة أنفسهم، وكان سبب نشوء وظهور بعض الحركات العلوية في العراق وايران، خصوصاً في العصر العباسي، وامتداد هذه الحالة إلى العصور الاُخرى، والتي سببت الحوادث التاريخية الكبرى في التاريخ الاسلامي وأوجدت الدول ، كدولة الفاطميين والأدارسة، في شمال أفريقيا، ودولة الحسنيين في طبرستان،ودولة ال بويه في الري وهمدان وإصفهان و...
8- هجرة العلماء لطلب المزيدمن العلم: منها هجرةالعلامة الفيض الكاشاني من قم إلی شيراز وهي من عجائب القصص وروائع الصدف،حيث سمع العالم الورع ملاّ محسن الفيض الكاشاني حينما كان شاباً يعيش في مدينةکاشان أو قم أن عالماً جليلاً اسمه السيد ماجد البحراني يدرِّس العلوم الاسلامية في مدينة شيراز، ففكر أن يهاجر اليه ليكتسب منه العلم، فاستخار أولاً بكتاب الله الحكيم فظهرت الآية: ﴿وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾[6]
ثم تفأل بديوان شعر منسوب الى الامام علي(عليه السلام)، فظهرت الأشعار التالية:
تَغَرّب عن الأوطانِ في طَلَبِ العُلى وسافِر ففي الأسفارِ خَمسُ فوائِد
تفرّجُ همّ واكتسابُ معيشةٍ وعِلمٌ و آدابٌ وصُحبَةُ ماجِد
وذاك من جميل التوافق وروائع الصدف،وهكذا شدّ الرحال الى السيد ماجد البحراني ودرس عنده حتى أصبح من كبار علماء الدّين، وكانت وفاة الفيض الكاشاني في سنة (1091 هـ). [7]
تاريخ الهجرة النبوية الشريفة
قال تعالى: (إِلاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ السّفْلَىَ وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[8].
بينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم جالساً في حِجر إسماعيل يذكر ربَّه ويناجيه؛ إذ مرَّ به أسعد بن زرارة، وكان قد قدم من يثرب يطلب من قريش مؤازرته وقومه على الأوس، فتقدم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: إلى ما تدعو يا محمد؟! فقال صلى الله عليه وآله وسلم:« إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنَّي رسول الله، وأدعوكم إلى ألاَّ تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً» [9]...فلما سمع أسعد ذلك أسلم، وقال:« بأبي أنت وأمي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك فلا أحد أعزّ منك، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود، خبرك، وكانوا يبشّروننا بخروجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دار هجرتك وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقنا إليك، والله ما جئت إلاّ لأطلب الحلف على قومنا، وقد أتانا الله بأفضل مما أتيتُ له»، ثم رجع إلى المدينة وأخبر بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وشاع خبره فيها، ودخل في الإسلام عدد كبير، حتى إذا كان في العام المقبل وافى الموسم من أهل يثرب اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة وبايعوه على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوه في معروف، وإنَّهم إن وفوا بذلك كان لهم الجنة، وإن غشّوا في ذلك شيئاً، فأمرهم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر، وقد طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن وأحكام الإسلام، ويفقههم في الدين، فأرسل معهم مصعب بن عمير. وكان مصعب حريصاً على الدعوة إلى الإسلام، وعلى انتشاره في المدينة، فكان يدعو إلى الإسلام، ويعلّم من أسلم القرآن وأحكام الإسلام، حتى دخل في الإسلام خلق كثير، وفي العام المقبل أقبل مصعب في موسم الحج مع وفود المدينة تدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليهاجر إليهم، وبايعوه على النصرة، وعلى أن يمنعوه ما يمنعوا منه أولادهم وأهليهم،(بيعة العقبة الثانية) فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهجرة إليهم، وبعد ذلك أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فأخذ الرجل والرجلان والثلاثة، يركبون سواد الليل مهاجرين إلى المدينه[10].
قريش تتآمر لقتل النبي (ص)
لمَّا علمت قريش أنَّ المسلمين قد صاروا إلى يثرب، وقد دخل بعض أهلِها الإسلام، قالوا: هذا شر شاغل لا يطاق، فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة معينة، وكانوا قد انتخبوا من كل قبيلة فارساً حتى بلغ عددهم خمسة عشر رجلاً يغيرون عليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين العرب، ولا تطلب بنو هاشم بثأره فيقبلون بالدية، ويروى أن من دبر لهم هذه الحيلة إبليس الذي اجتمع معهم في دار الندوة بصفة رجل نجدي.
وأوحی الله إلی نبيه أن يأمر علياً(ع) بالمبيت في فراشه، فما كان من علي(ع) غير أن سأله:« أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي الله؟» قال صلى الله عليه وآله وسلم:« نعم »، فأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً لله، فنام على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم واشتمل ببرده الحضرمي، فخرج صلى الله عليه وآله وسلم ، وجعل المشركون يرمون علياً بالحجارة، وهم يحسبونه رسول الله، وعلي(ع) يتضور - أي يتلوى ويتقلب - وقد لفَّ رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح، فهجموا عليه، فلما بصر بهم علي(ع) قد انتضوا السيوف، وأقبلوا عليه، وثب في وجوههم فأجفلوا أمامه، وتبصروه فإذا علي، فقالوا: وإنَّك لعلي؟ قال: أنا علي، قالوا: فما فعل صاحبك، فقال: وهل جعلتموني عليه حارساً، وقد اشتهرت هذه الليلة بليلية المبيت التي فدا فيها الإمام علي(ع) نفسه ليبقی النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيَّاً [11].
وقد ورد أنَّ الله تعالى أوحى إلى جبرائيل وميكائيل: إني آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله إليهما ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟ إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل ينادي:« بخٍ بخٍ، مَن مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي الله به الملائكة»، فأنزل الله تعالى الآية: (وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ)[12]
هجرة النبي (ص) إلى يثرب[13]
كان ينتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمر الإلهي في هجرته إلی يثرب ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فحمة العشاء يوم الأول من ربيع الأول، السنة 13 للبعثة والرصد من قريش قد أطافوا بداره ينتظرون، وقد قرأ عليهم قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)[14]، وأخذ بيده قبضة من تراب فرمى بها على رؤوسهم، ومرّ من بينهم، فما شعروا به، وأخذ طريقه إلى غار ثور، وأدركت قريش الأمر، فركبوا في طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، واقتفوا أثره، حتى وصل القافي إلى نقطة لحوق أبي بكر به، فأخبرهم أن من يطلبونه صار معه رجل آخر، فاستمروا يقتفون الأثر حتى وصلوا إلى باب الغار، فصرفهم الله عنه، حيث كانت العنكبوت قد نسجت على باب الغار وباضت في مدخله حمامة وحشية، فاستدلوا من ذلك على أن الغار مهجور ولم يدخله أحد، وإلا لتخرق النسج، وتكسّر البيض، ولم تستقر الحمامة الوحشية على بابه.
وبعد أن بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه في غار ثور ثلاثة أيام كان يتردد خلالها أمير المؤمنين(ع) عليهما، حتى إذا كانت ليلة اليوم الرابع هيأ علي(ع) بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث رواحل ودليلاً أميناً يدعى أريقط ليترحلوها إلى المدينة ويدلهم الدليل على طريقها، أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً في تلك الليلة بأن يؤدي أمانته على أعين الناس، وذلك بأن يقيم صارخاً بالأبطح غدوة وعشياً: «ألا من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة فليأت فلنؤد إليه أمانته» ثم أوصاه صلى الله عليه وآله وسلم بالفواطم وهنّ: فاطمة الزهراء(س)، وفاطمة بنت أسد أم علي عليهما السلام ، وفاطمة بنت الزبير، وبكل من يريد الهجرة معه، وقال له عبارته المشهورة: (إنَّهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه حتى تقدم علي)، ثم توجَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو وصاحبه إلى المدينة سالكين إلى ذلك الخط الساحلي، وقد جاء ذكر المنازل التي مرَّا بها [15].
ولما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هجرته من مكة إلى قرية قباء من ضواحي يثرب وكان ذلك في الثاني عشر من ربيع الأول أقام فيها عدة أيام منتظراً قدوم ابن عمه علي بن أبي طالب(ع) بركب الفواطم، وكان قد ألحَّّ أبو بكر عليه لكي يدخل المدينة في ليلته إلاّ أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (ما أنا بداخلها حتَّى يقدم ابن عمي وأخي وابنتي)، يعني علياً وفاطمة(س)، فلما أمسى فارقه أبوبكر، ودخل المدينة، ونزل على بعض الأنصار، وبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قباء نازلاً على كلثوم ابن الهدم، ينتظر قدوم ابن عمه من مكة المكرمة ليدخلوا مدينة يثرب معاً. [16]
وصول علي (ع) إلى المدينة
خرج علي بن أبي طالب (ع) من مكة المكرمة، بعد خروج النبي بثلاثة أيام بعدما نفَّذ وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان مع الإمام علي(ع) الفواطم، أمّهُ فاطمة ابنة اسد، وفاطمة ابنة رسول الله ، وجمع من ضعفاء المؤمنين، يقول المقريزي: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قباء في الثاني عشر من ربيع الأول، والتحق به علي(ع) في منتصف ذلك الشهر نفسه، ويؤيد هذا القول ما ذكره الطبري في (تاريخه) إذ كتب يقول: أقام علي بن أبي طالب(ع) بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الودائع التي كانت عنده إلى الناس[17].
ولما بلغ النبي(ص) قدوم علي(ع)، قال صلى الله عليه وآله وسلم:« ادعوا لي علياً»، قيل: يا رسول الله، لا يقدر أن يمشي، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما رآه اعتنقه، وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وكانتا تقطران دماً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «يا علي، أنت أول هذه الأمة إيماناً بالله ورسوله، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لا يحبك والذي نفسي بيده إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان ولا يبغضك إلا منافق أو كافر»[18].
المدينة تهبُّ لقدوم النبي(ص)
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً من مكة المكرمة في الأول من ربيع الأول السنة 13 للبعثة وقد وصل إلى منطقه قباء من ضواحي يثرب في الثاني عشر من ربيع الأول من تلك السنة وانتظر ابن عمه والذين معه من الفواطم والأصحاب ولم يدخل المدينة، إلى أن التحقوا به صلى الله عليه وآله وسلم في 15 من ربيع الأول ودخلوا معه إلى مدينة يثرب التي سُمِّيت بعد ذلك بمدنية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، واشتهرت بالمدينة المنورة إلى يومنا هذا.
وكان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً عظيماً مشهوداً، فكم ترى ستكون عظيمة فرحة الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ ثلاث سنين، وظلوا طوال هذه الأعوام يبعثون برسلهم ووكلائهم إليه، ويذكرون اسمه المقدّس، ويصلّون عليه في صلواتهم كل يوم.
وعند دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدينة يثرب استقبله الناس رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، استقبالاً عظيماً ، ورحّبوا به أعظم ترحيب، وكان في مقدمة المستقبلين أصحاب بيعة العقبة الثانية، وهم سبعون رجلاً وكذلك المهاجرون وفي مقدمتهم مصعب بن عمير،وكانت بنو عمرو بن عوف قد اجتمعت عنده، وأصرّت عليه بأن ينزل في قباء، وقالوا له: أقم عندنا يا رسول الله، فإنا أهل الجد والجلد والحلقة (أي السلاح) والمنعة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقبل.
وکان في مقدمة المستقبلين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأوس والخزرج ، وقرب نزوله المدينة قلبوا السلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته لا يمرّ بحيّ من أحياء الأنصار إلاّ وثبوا في وجهه، وأخذوا بزمام ناقته، وأصروا عليه أن ينزل عليهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:« خلّوا سبيل الناقة فإنها مأمورة».
وأخيراً لما انتهت ناقته إلى أرض واسعة كانت ليتيمين من الخزرج يقال لهما: سهل وسهيل، وكانا في حجر أسعد بن زرارة، فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري (خالد بن زيد الأنصاري) الذي كان على مقربة من تلك الأرض، فاغتنمت زوجة أبي أيوب الفرصة فبادرت إلى رحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحملته وأدخلته منزلها، بينما اجتمع عليه الناس يسألونه أن ينزل عليهم، فلما أكثروا عليه، وتنازعوا في أخذه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أين الرحل؟» فقالوا: أم أيوب قد أدخلته في بيتها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «المرء مع رحله»، وكان أبو أيوب أفقر أهل المدينة، وبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنده حتى بُني مسجده[19].
أسباب الهجرة النبوية
لاشك أن حدثا عظيم مثل الهجرة النبوية الشريفة حين يكون تاريخاً للأمة أن هناك أمور جسام فرضت على النبى صلوات الله عليه القيام بها ، فقد جاءت الهجرة لتكون نقطة فارقة في حياة البشرية ،لتفرق بين الحق والباطل ، وتميز بين الخير والشر، ولعل من أبرز الأسباب التى ادت لحدوث هجرة النبي من أحب بقاع الأرض إلى قلبه مكة المكرمة إلى يثرب الأمرين التالية :
1- شدة الاذى والاضطهاد الذي كان يتعرض له النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد أوذي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ايذاء شديدا لم يتعرض له نبي من الانبياء السابقين .. فقد تمادى ايذاء المشركون له لدرجة ينادونه بالمجنون كما قال الله تعالى عضنهم : وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. كانوا يقولون عنه انه ساحر كذاب ، كما قال تعالى : "وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب" .
فقد كانوا لا ينظرون له الا نظرات كلها استحقار ، كما قال سبحانه :" وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون" ، ولعل من أكثر درجات الايذاء التى واجهت الرسول الكريم :هو ما قام به ابا لهب وهو عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تحريض لوديه عتبة وعتيبة ان يطلقا ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم رقية وام كلثوم لما جاء بالدعوة وكان قد كتب كتابهما فقط .
وتتوالى سلسة ايذاء ابا لهب للرسول الكريم فعندما توفي عبد الله وهو الابن الثاني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم استبشر ابو لهب وقال لقومه : ابشروا فان محمدا قد صار ابترا يعني ليس له ولد يحمل ذكره من بعده . فنزل قوله تعالى :" إن شانئك هو الأبتر"، فقد حرض زوجته ابي لهب وهي اخت ابي سفيان على ان تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى بابه ، ولذلك وصفها القران الكريم بانها حمالة الحطب .
ولعل من اشد انواع الايذاء التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم : الحصار في شعب ابي طالب ثلاث سنوات حتى اكلوا اوراق الشجر فصارت مخرجاتهم وفضلاتهم مثل الدواب حتى ان سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه وجد في ليلة جلدة شاة فاخذها فوضعها على النار حتى تفحمت ثم اكلها وظل عليها ثلاث ليال لا ياكل شيئا .
ثم تاتي نهاية سلسة الايذاء عندما حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة مرات ، ففي يوم الخميس 26 صفر سنة 14 من البعثة اجتمع سبعة من كبار كفار قريش في دار الندوة وجاءهم الشيطان في صورة شيخ يريد نصحهم ودار نقاش طويل فقال احدهم : نخرجه من بيننا وننفيه من بلادنا .
فقال الشيطان : لا والله ما هذا لكم براي الم تروا حسن حديثه وحلاوة كلامه والله لو فعلتم ذلك فسينزل على حي من العرب فيتبعوه فيسير بهم اليكم فيقاتلوكم .
فقال ابو البختري : احبسوه في الحديد واغلقوا عليه الباب حتى يموت . فقال الشيطان : لا والله ، لئن حبستموه ليخرجن من وراء الباب .
فقال ابو جهل : ارى ان ناخذ من كل قبيلة شابا جلدا قويا فنعطي كل فتى منهم سيفا صارما فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على حربكم فيرضوا منا بالدية . هذا عن السبب الاول ويعتبر هو السبب الرئيسي من اسباب الهجرة .
2- قبول أهل المدينة الإسلام ودخولهم فيه :
فقد عرض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، في موسم الحج سنة 11 من البعثة ،واثناء خروجه صلى عليه وسلم مع ابى بكر الصديق وعلي بن ابي طالب الى منى فسمع اصوات رجال يتكلمون وكانوا ستة نفر من شباب المدينة وكانت تسمى يثرب ، فعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاسلام عليهم فاسلموا، وحملوا الاسلام الى اهل المدينة حتى لم يبق بيت من بيوت الانصار الا وفيه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
في موسم الحج سنة 12 جاء 12 رجلا وبايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعة العقبة الاولى . وارسل النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير معهم الى المدينة . في موسم الحج سنة 13 من البعثة جاء 73 رجلا وامراتان وبايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعة العقبة الثانية . وبذلك اصبح للاسلام قواعد وارضية صلبة يستند عليها في المدينة .
بعد ان تعرفنا على أهم الاسباب التى ادَّت الى حدوث الهجرة يأتى الحديث عن الدروس التى اثمرت منها وكيفية تطبيق تلک الدروس في حياتنا من أجل بناء أمة إسلامية عالية الشأن .
الهجرة النبوية، دروس وعبر للامة الاسلامية
باسترجاع المسلم لأحداث الهجرة يجد الكثير من الدروس والعبر التى تبرزها السيرة النبوية العطرة. ونحن عند احتفالنا بهذه المناسبة ،لانقف عند وقائعها وأحداثها التي تبدو أنها قد استهلكت وتكررت كثيراً ،وجميعنا يعرفها عن ظهر قلب ،ولكننا نستعرض هنا أهم الأسباب التى دفعت إلى الهجرة النبوية الشريفة ،ودروسها ، وأهم ما يمكن تطبيقه في حياتنا الفردية والإجتماعية :
1- الاخذ بالاسباب الظاهرية مع التوكل على الله في الإمدادات الغيبية :
ويتضح لنا هذا عندما وكل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن ابى طالب للنوم مكانه ،واصطحب أبي بكر معه؛ حيث لم يهاجرا إلى المدينة مع المسلمين، فعليّ رضي الله عنه بات في فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه صحبه في الرحلة. بالاضافة إلى استعانته صلى الله عليه وآله وسلم بعبدالله بن أريقط الليثي وكان خبيراً ماهراً بالطريق. ويتجلى كذلك في كتم أسرار مسيره إلا من لهم صلة ماسّة، ومع ذلك فلم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.
قد كان هيناً على الله عز وجل أن يصرف الأذى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جملة، ولكنها سنة الإبتلاء يؤخذ بها النبي الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً.
مقارنة بين هجرة النبي(ص) ومعراجه
كانت الهجرة النبوية الشريفة على النحو الذي كانت عليه ، وسارت على الوضع الذي يسلكه كل مهاجر ، حتى توجد القدوة ، وتتحقق الأسوة ، ويسير المسلمون على نهج مألوف ، وسبيل معروف ، ولذلك ، فلم يرسل الله ـ عز وجل ـ له صلى الله عليه وآله وسلم البراق ليهاجر عليه كما حدث في ليلة الإسراء ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم هجرته أحوج إلى البراق منه في أي وقت آخر؛ لأن القوم يتربصون به هنا ولم يكن هناك تربص في ليلة الإسراء ، ولو ظفروا به في هجرته لشفوا نفوسهم منه بقتله ، والحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ أن الهجرة كانت مرحلة طبيعية من مراحل تطور الدعوة ووسيلة من أهم وسائل نشرها وتبليغها ، ولم تكن خاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل كان غيره من المؤمنين مكلفين بها ، حين قطع الإسلام الولاية ، بين المهاجرين وغير المهاجرين القادرين على الهجرة ، قال تعالى: ﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ﴾[20]. أما رحلة الإسراء والمعراج كانت رحلة تشريف وتقدير ، كما كانت إكراماً من الله ـ عز وجل ـ لنبيه ليطلعه على علم الغيب ويريه من آياته الكبرى ، فالرحلة من أولها إلى آخرها خوارق ومعجزات ومشاهد للغيبيات، فناسب أن تكون وسيلتها مشابهة لغايتها .
وهذه الرحلة کانت خصوصية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس لأحد من الناس أن يتطلع لمثلها ، ولسنا مطالبين بالاقتداء به فيها ، بعکس الهجرة التي ملازمة للمسلمين علی مدی الأزمان والعصور وفي شتی الأماکن .
2- الثقة بنصرالله والثبات علی الإيمان والعقيدة:
نرى حينما خرج صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مكرهاً فلم يجذع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربه، ولما نصره الله سبحانه وتعالى بالإسلام وظهور المسلمين لم يزده زهوا وغرورا ؛ فعيشته يوم أخرج من مكة كارهاً كعيشته يوم دخلها فاتحاً ظافراً، وعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى من سفهاء الأحلام كعيشته يوم أطلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر ناحية تبوك.
و في جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر رضي الله عنه لمّا كان في الغار. وذلك لما قال أبو بكر: والله يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موقع قدمه لأبصرنا. فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطمئناً له: « ما ظنّك باثنين الله ثالثهما ». فهذا مثل من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والإتكال عليه عند الشدائد، واليقين بأنَّ الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة، هذه حال أهل الإيمان، بخلاف أهل الكذب والنفاق؛ فهم سرعان ما يتهاونون عند المخاوف وينهارون عند الشدائد، ثم لا نجد لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.
وفي هذا العصرلا بدَّ ان نضع ثقتنا في الله ، وان نكون على يقين تام بانَّ الله سبحانه وتعالي سيخرجنا من حالنا هذا ،كما اخرج رسوله الكريم من ظلام الجاهلية الى نور الاسلام
3- لابدَّ للمسلمين من التضحية للوصول إلی الأهدف المنشودة :
ويتجلي هذا الدرس في قوله صلى الله عليه وآله وسلم حينما هم بالرحيل من مكة "إنك من أحب بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، وهذا طبيعي فيها نشأ صلى الله عليه وسلم وترعرع، وفيها نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي، ولكن رغم ذلك لم يستكين إلى حبها وفضل حب الله عز وجل ورضاه ودعا ربه" اللهم وقد أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك". وهذا درس بليغ.
وقد ترك المسلمون رجالاًونساء ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم، وضحوا بجميع مايملکون، ولما تركوا ذلك كله لله، أعاضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملّكهم شرقها وغربها.
فقد قدم على بن طالب ذالک الشاب المطيع لله ورسوله دورا عظيم في الهجرة حيث نام رضي الله عنه في مكان الرسول الكريم، وهو يعلم ان قريش ستهوى عليه ولكنه لايمانه بعظيم عمله ثبت وتشجع وادى دوره على أحسن وجه. فعلی شبابنا أن يتذكروا هذا الموقف لعلي ويقتوا به في التضحية لأجل مصلحة الإسلام والمسلمين وأن يعلموا ان الصبر دائما تكون نهايته سعيدة ، وان يسعوا ويجتهدوا في عملهم مع الصبر ، وليعلموا دايئما ان بعد العسر يسر .
وقد قدمت بعض النساء أدوراً في مهمة في نشر الرسالة المحمدية قبل الهجرة وحينها وبعدها فهذه فاطمة ابنة اسد اُم علي عليه السلام وفاطمة ابنة رسول الله ، وجمع من ضعفاء المؤمنين،
قدهاجروا بمعية علی بن أبي طالب عليه السلام بععد هجرة النبي بثلاثة إيام وهذه اسماء بنت ابى بكر عندما صمدت امام قادة قريش وابت ان تفشي سر رسول الله ،علاوة على ماقامت به اثناء الرحلة العظيمة من حرصها على ان تقدم المؤن للرسول الكريم وتذهب له بالطعام والشراب . هذه النماذج من النساء تأکد لنا ضرورة الرفع من شأن المراة وحثها على التقدم، وعدم التقليل من شأنها في المجتمع فهي التى بامكانها ان تساهم في بناء دعائم الاُمة الاسلامية وتعمل على رفع رايه الاسلام عالية مرفوعة .
أهم معطيات الهجرة النبوية
1- إقامة الکيان والدولة للمسلمين
فقد هيَّأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين للهجرة إلى المدينة عن طريق بيعة العقبة الأولى (بيعة إقامة الدين)، ثم جاءتْ بيعة العقبة الثانية (بيعة التمهيد لإقامة الدولة الإسلامية)، ولمّا دخل النبي صلى الله عليه وسلم يثرب أوَّل ما قام به بناء مسجد يجتمع فيه المسلمون للعبادة ومنه يدير امور المسلمين فکان بداية لتأسيس الدولة التي قامتْ على الاختيار، والشورى، والعدالة الاجتماعية، والمفاهيم السياسية الواعية، ثم بعد ذلك بدأ صلى الله عليه وسلم في إرسال الوفود الدعوية والسياسية، وإرسال المهاجرين وفودًا متتابعين، حتى يلحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهجرة النبوية بمثابة الأمل الذي يتبعه العملُ، ولايخفى علينا ما كان بين المهاجرين والانصار من تلاحم وايثار لبناء تلک الدولة الکريمة الاسلامية العالية الشأن.
2- وضع التاريخ الهجري القمري
قد نهج المسلمون - كسائر الأمم - أن يؤرخوا الحوادث والأيام وما في ذلك من مناسبات مهمة تشكّل الجزء الأكبر من حضارة المسلمين، فعمدوا إلى الهجرة المباركة للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، في السنة الثالثة عشر من البعثة فجعلوها مبدءاً للتاريخ،ويحسب من خلال دوران الأرض حول الشمس أو دوران القمر حول الأرض، فإذا كان الحساب ، من خلال دوران الأرض حول الشمس، سميت السنة هجرية شمسية، وتساوي 365 يوماً تقريباً،(ومثله التاريخ الميلادي ولکن علی مبدأ تاريخ المسيح (ع)) وأما إذا كان المقياس لحساب التاريخ الهجري، هودوران القمر حول الأرض، سميت السنة هجرية قمرية، وتساوي 355 يوماً تقريباً من هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولهذا فالسنة الشمسية تزيد عن مثيلتها القمرية بـ 10 إلى 11 يوماً فمبدأ التقويمين الهجريين الشمسي والقمري واحد، ولكن الاختلاف في عدد الأيام،وبمرور الزمن تختلف السنين الهجرية الشمسية عن السنين الهجريةالقمرية.
والمشهورأنَّ عملية وضع التاريخ الهجري في الإسلام تنسب إلی الخليفة الثاني ،و قيل أنَّ أوَّل من أرَّخ بهذا البدأ هو الرَّسول نفسه[21]، لقد روى عن الزهريّ : أنّ رسول الله لما قدم المدينة أمر بالتاريخ ! وليس في هذا الخبر وقت ( تاريخ ) معلوم ولا نقل كيفية ذلك ; وهو خبر مرسل .
والتحقيق في هذه المسألة تشير إلی أنَّ الخليفة الثاني عمر استشار الصحابة في ذلک فأشار عليه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أن يؤرّخ بهجرة النبيّ؛ صلى الله عليه وآله وسلم لقد روى خليفة : أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر : إنه تأتينا كتب ما ندري ما تاريخها . فاستشار عمر الصحابة فقال بعضهم : مِن المبعث ، وقال بعضهم : من وفاته ، فقال له علي (عليه السلام) بل منذ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أرض الشرك ، فهو يوم هاجر ، فأجمع رأيهم أن يكتبوه من هجرته فأرادوا أن يَبتدئوا من شهر رمضان ثم بدا لهم أن يجعلوه من المحرم.
وقال المسعودي : شاور عمرالخطاب الناس في كتابة التاريخ ، فكثر منهم القول وطال الخطب اقتباساً من تواريخ العجم وغيرهم ! فأشار عليه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أن يؤرّخ بهجرة النبيّ وتركه أرض الشرك ، فعملوا به ، ولكنهم بدؤوا من المحرّم أي قبل قدومه إلى المدينة بشهرين و (12) يوماً; لأنَّهم أحبّوا أن يبتدئوا من أول السنة (القمرية العربية) [22].
3- وحدة المسلمين بالتمسک بحبل الله وترك التنازع :
عندما علِم أهل المدينة بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم تناسَوا الخلافات والتشاجرات التي كانتْ بينهم، والحروب المستعرة التي ظلَّت سنوات عديدة؛ وذلك لأن الهجرة علَّمتْهم روحَ التعاون والتماسك، وترك التهاجر والتناحر؛ لأنهما يؤدِّيان إلى الفشل: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [23].
ويتجلي حصول الأخوة وذوبان العصبيات عندما قام الرسول الكريم بالموخاءة بين الانصار والمهاجرين وايثار الانصار تجاه المهاجرين والذي يتجل ذلك في ان كان الفرد من الانصار يقول لاخيه المهاجر ان لي زوجتين اطلاق واحدة وتتزوجها انت .
وتراهم يقدِّمون أروع الأمثلة في باب الحب في الله والاجتماع، وتُرجم هذا الحب في صورة الإيثار وتفضيل الإخوان على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [24]. فيعرض سعد بن الربيع على عبدالرحمن بن عوف نصفَ مالِه، ويخيِّره بين أزواجه ليطلقها وتنقضي عدَّتُها، ثم يتزوَّجها، ويخيِّره في اختيار أفضل الديار.
إنَّ الهجرة النبوية التي يقودها سيد البشرية هي التي زَرعتْ فيهم هذه الروحَ؛ وذلك عندما بدأ معهم النبي صلى الله عليه وسلم في أول خطبة في المدينة بغرس هذه المعاني، فعن عبدالله بن سلاَم قال: لما قَدِم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينةَ انجفل الناس، وقيل: قد قدم النبي صلى الله عليه وسلم وجئتُ فيمن جاء، قال: فلما تبيَّنتُ وجهه، عَرَفتُ أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، فكان أول ما قال: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا والناسُ نيام، تدخلوا الجنة بسلام»، ويا ليت الأمة الإسلامية تستلهم هذه المعانيَ من الهجرة؛ كي ينتشر الحبُّ بيننا، وتنتزع البغضاء والشحناء.
وهذا الالتحام والتعاون فيما بين المسلمين في صدر الإسلام، يعطينا اليوم درس الثبات امام الازمات ،والحرص الدائم ان يكون هدفنا واحد، ونسعى دائما من اجل الوصول اليه، وان نتخلي عن روح العصبية التى قد تؤدي بنا الى الانقسام، ومن ثم الى الانهزام الذي لايجني ثماره الا نحن،
ايوب الحائري، الباحث والکاتب الإسلامي
الهوامش:
[1] النساء : 100.
[2] التوبة: الآية 20.
[3] اقتباس من محاضرة للشهيد مطهري طبعت بصورة كتيب بعنوان : (الهجرة والجهاد)
[4] مدينة في الأردن.
[5] القصص: 22.
[6] التوبه:122.
[7] الهجرة والجهاد (كتيب للشهيد مطهري).
[8] سورةالتوبة: 40.
[9] السيرة النبوية لابن هشام 2: 235.
[10] راجع تاريخ اليعقوبي 2: 37، البداية والنهاية 3: 158.
[11] راجع السيرة الحلبية 2: 35، مجمع الفوائد 9: 120.
[12] سورة البقرة: 207.
[13] وبعد الهجرة أطلق النبي(ص) اسم طيبة علی مدينة يثرب وذلک بعدرجوعه من غزوة تبوک حيث قال (ص):«هذه طيبة ، أسكننيها ربّي»، واشتهرت بعد ذلک بمدينة النبي(ص).، (موسوعة التاريخ الإسلامي2: 29)
[14] سورة يس: 9.
[15] السيرة النبوية لابن هشام 1: 488،وراجع الكامل في التاريخ 2: 73.
[16] الصحيح من سيرة النبي الأعظم(ص): 4: 88 .
[17] سيد المرسلين 1: 619، عن تاريخ الطبري 2: 382.
[18] راجع تفاصيل هذه القضية في: أمالي الطوسي 2: 83 ، الكامل في التاريخ 2: 106، بحار الأنوار 19: 64.
[19] راجع تفاصيل قضية الهجرة بکاملها في السيرة الحلبية 2: 280، أسد الغابة 4: 25، شواهد التنزيل 1: 97، وتذكرة الخواص35، المناقب للخوارزمي: 74، التفسير الكبير 5: 204 ، تاريخ الخميس 1: 328، البداية والنهاية 3: 181.
[20] الأنفال : الآية 72 .
[21] راجع تاريخ اليعقوبي 2: 37، أسد الغابة 4: 25، بحار الأنوار 19 : 29 ،64 ، الصحيح من سيرة النبي الأعظم n: 4: 33 .
[22] التنبيه والإشراف : 252 ، وفي تاريخ اليعقوبي 2 : 145 : أن ذلك كان سنة ( 16 هـ ) ،و (راجع موسوعة التاريخ الإسلامي4: 151).
[23] الأنفال: 46.
[24] الحشر: 9