" العرفان "، و " القيادة "، و " الطبع الملائکي" عند الامام الخميني

قيم هذا المقال
(0 صوت)
" العرفان "، و " القيادة "، و " الطبع الملائکي" عند الامام الخميني

يحتفظ الامام الخميني الراحل (قدس سره) بمسيرة تاريخية بوسع المؤرخين أن يتدارسوها و يتحدثوا عنها: ( عاش الامام 19 عاماً في خمين، ثم إتجه للخوض في المسائل العلمية ، و درس الأدب و الفقه و الاصول شأنه شأن الآخرين، حتی بلغ سنّ السابعة و العشرين تقريباً و .. ) .

الآخرون أيضاً مرّوا بهذه المراحل، و لکن بالنسبة للتسعين عاماً من حياة إمام الأمة (قدس سره) ثمة عقدين من الزمن ينبغي التوقف عندهما، لأنهما يختصان بالإمام وحده، و أن الآخرين يفتقدون الى نظيرهما .. السنوات العشر الاولی، سنوات أنس الامام بعالم (الغيب) و (العرفان). و العشرة الثانية ، سنوات أنس سماحته بعالم (الشهادة) و (القيادة) .

يبدأ العقد الاول منذ اواخر سن السابعة و العشرين و حتی اوائل سن الثامنة و الثلاثين، اي منذ عام 1347 و حتی عام 1358 للهجرة. و هي السنوات التي صنّف فيها سماحة الامام (قدس سره) کتبه العرفانية المعمقة. ففي سن السابعة و العشرین ألّف الکتاب الشریف (مصباح الهداية الی الخلافة و الولاية). و بعد ذلک دوّن " التعليقات علی الفصوص " ، و " التعليقات علی مصباح الأنس "، و من ثم " سرّ الصلاة ". فهذه کتب ليس بوسع أي شخص أمضی عشرة أو عشرين عاماً بالدراسة في الحوزة العلمية، أن يفهمها. فهي تختلف عن (الرسائل) و (المکاسب) و (الجواهر) و (المنظومة ) .

ان السنوات العشر ما بين سنّ السابعة و العشرين و السابعة و الثلاثين، تمثل سنوات الغيب و المناخ الغيبي لشخصية الامام الراحل (قدس سرّه). أما العقد الثاني الذی هو عقد الشهادة و نشوء شهادة سماحته، فأنه يشمل الفترة ما بين اواخر عام 1357 شمسي و حتی اوائل عام 1368 شمسي، و هي السنوات العشر التي غيّرت وجه العالم و قلبته رأساً علی عقب.

ان مرحلة السجن و النفي شكلت دليل (المظلومية) و ليس الاقتدار . إذ أن أناساً کثيرين دخلوا السجن، و لکن هل استطاعوا بعد اطلاق سراحهم، قيادة البلد و إدارة الحرب و المضي بالثورة الی برّ الأمان ؟... ثمة مظلومين کثر، و لکن هل کانوا یمتلکون هذه القدرة حتى اذا ما جلسوا في سدة الحکم، يحکموا بمثلما کان يحکم الامام علي (عليه السلام)؟ . ان ذلك لم يثبت بالنسبة للآخرين. ربما کان بوسع (المدرّس) أن يفعل ذلک، و لکن لم يثبت. و ربما کان آخرون قادرين إلّا أنه لم يترجم عملياً . الذي عمل على انتقال الاکتشافات و " الاسفار الاربعة " من مرحلة العلم الی مرحلة العمل، و قرن السمع بالبصر، إنما هو إمام الامة (قدس سره) .

ان هذين العقدين البارزين و الشاخصين،هما اللذان يميزان حياة الامام الخميني (قدس سره) عن الآخرين. إما بقية السنوات التي قضاها في قم، اي السنوات الاربعين الوسطی، و رغم أنها إتسمت بالریاضة و تهذيب النفس و كان سماحته منشغلاً بالتدريس، و لکن الآخرين قد مرّوا بهده التجربة ايضاً، بيد أن اختلاف الامام و تباينه عن الآخرين يکمن في هذين العقدين.

فاذا کان الامام قد سبر أغوار (الاصول) و تعمق في (الفقه) ، و رغم اختلافه عن الآخرين في ذلک ، إلا أنه لم يکن الأوحد . و عليه يجب التعرف علی الامام الراحل (قدس سره) من خلال هذين العقدين. العقد الأول، سنوات (الغيب) العشر . و العقد الآخر، سنوات (الشهادة). و طوبی لمن جمع بين الغيب و الشهادة من جهة ، و بين العرفان و السياسة من جهة ثانية، و بين الفلسفة و السياسة من جهة ثالثة.

لم يکن الامام الراحل يؤمن بـ (ولاية الفقيه) فحسب، بل و لأنه حکيم ، کان يؤمن بـ (ولاية الحکيم). و لأنه عارف کان يؤمن بـ (ولاية العارف).. لقد طرح سماحته (ولاية) امتزجت فيها الفقاهة بالحکمة، و انصهرت الحکمة بالعرفان.و(طوبی له و حسن مآب .. سلام الله عليه يوم ولد ويوم مات و يوم يبعث حياً ) .

ان هؤلاء الذين نهضوا من أجل رضا الله، ليس بوسع أحد أن يهزمهم. و لكن اولئک الذين انتفضوا من أجل أهداف دنيوية و محاولة الاستحواذ علی السلطة، سرعان ما يضطهدوا و يقمعوا احياناً و يتخلوا عن ثورتهم و انتفاضتهم. لأن ثورتهم و انتفاضتهم تفتقد الی الدوافع الالهية ..

أن المناضل الذي يعمل من أجل توجهات مادية، فان إندفاعه للنضال يقل و يضعف کلما تقدم في العمر، لأنه يحارب من أجل المنصب و المقام و مندفعاً بشهواته و غرائزه الى غير ذلک . و إذا ما حانت مرحلة الشيخوخة يبدأ يفقد الحماس و لا يجد مبرراً لمواصلة النضال.

بيد أن الانسان الالهي يناضل من أجل آخرته، و لهذا فهو يزداد اصراراً و اندفاعاً للنضال (ضد الطاغوت) كلما تقدم به العمر. و لاشک ثمة فارق کبير بين الاثنين.

الامام الراحل (قدس سرّه) کان قد ناهز التسعين عند الوفاة . و کان يردد حتی اللحظات الاخيرة من حياته المبارکة ذات الکلام الذي قاله في بداية النهضة . في حين أن القادة الآخرين الذين في مثل هذا العمر يحالون الى المعاش.. ان الفارق الرئيس بين الاثنين هو أن اولئک يقاتلون من أجل الماء و التراب، في حين أن الامام يقاتل من أجل (الخير) .. اولئک يناضلون من أجل الخبز و الرخاء ، فيما يقاتل الامام من أجل تحکيم العقل و نيل الجنة. و لهذا کلما تقدم به العمر يزداد اصراراً و إندفاعاً للقتال و الجهاد . و هنا يکمن الفرق بين الجهاد الاسلامي و الجهاد غير الاسلامي.

آية الله جوادي آملي

قراءة 2414 مرة