رحيل مفجّر ثورة المستضعفين

قيم هذا المقال
(0 صوت)
رحيل مفجّر ثورة المستضعفين

إن شخصية الإمام روح الله الخميني (قدس سره)، بما امتازت به من خصال وسمات فذّة، لم تكن تتطلّع في كلّ اهتماماتها وتوجّهاتها، سوى إلى رضا الله تعالى فحسب، وتتوكّل عليه وتُحسن الظنّ به. ولعلّ هذا ما كان وراء سيرته الموفّقة وتحقيق سماحته كلّ هذه النجاحات، والفيض بكلّ هذه البركات على جميع الناس.

وفضلاً عن تحصيل العلوم وكسب المعارف والتفوّق في هذا الميدان، وكذلك تهذيب النفس وبناء الذّات والتحلّي بالمحاسن والخصال الفردية القيمة، كان الإمام يتمتّع - منذ مرحلة الشباب - بروحيّة مناهضة للظلم، وحرص شديد على متابعة القضايا السياسية والاجتماعية والإحاطة بخفاياها، وقد تنامى وتكامل لديه هذا الوعي بموازاة تكامله العلمي والروحي.

تواصل هذا النهج لدى الإمام بصور مختلفة، سواء في عهد رضا خان أو في عهد ابنه محمد رضا، إلى أن برزت قضية اتحاد الأقاليم والمدن بعد رحيل المرحوم آية الله العظمى السيّد البروجردي. وطرح تبعاً لذلك موضوع استفتاء الشاه والثورة المسمّاة بالبيضاء. وتواصلت الأحداث لتُفضي إلى انتفاضة الخامس عشر من خرداد حزيران 1963م، حيث اضطلع الحاج السيّد روح الله، بدور بارز في قيادة النهضة الشعبية والتصدّي للنظام الشاهنشاهي المستبدّ والظالم.

وبعد منتصف ليلة الخامس عشر من خرداد عام 1342 هـ.ش - 5 حزيران 1963م - تمّت مهاجمة منـزل الإمام الخميني في قم واعتقال سماحته، ومن ثم احتجازه لمدّة عشرة أشهر في طهران، حيث فُرضت عليه الإقامة الجبرية. إلا أنّ عوامل عديدة اضطرت النظام الحاكم للإفراج عنه. ولأنّه لا يساوم الظالمين ولن يهدأ له بال حيال الاستبداد الداخلي، ولا يرضى بالهيمنة الأجنبية على شؤون المسلمين، انتفض سماحته مرّة أخرى إزاء قضية منح الحصانة القضائية للرعايا الأميركيين في إيران. وفي ضوء ذلك ألقى خطاباً هاجم فيه بشدّة الولايات المتحدة وأياديها وأذنابها وربيبتها إسرائيل، إضافة إلى إصدار بيان شديد اللهجة ينتقد فيه سياسات النظام الحاكم، قاد في النهاية إلى نفيه إلى تركيا.

وخلال فترة النفي، التي أمضى عاماً منها في تركيا وثلاثة عشر عاماً في النجف الأشرف بالعراق، وفضلاً عن اهتمامه بالحلقات الدراسية في النجف، واصل السيّد روح الله النضال بأساليب مختلفة حتى بلغ ذروته واشتدّ لهيبه مع حادثة استشهاد نجله العالم الفاضل المرحوم آية الله السيّد مصطفى الخميني في الأول من آبان عام 1356 هـ.ش (1977/10/23م).

وبسبب الحصار الذي فُرض على تحرّكات الإمام الخميني في النجف، اضطر سماحته إلى ترك العراق والهجرة إلى فرنسا، وقيادة وتوجيه مسيرة النضال والثورة من هناك.

ومع خروج الشاه من إيران في 26/10/1356 هـ.ش (1978/01/16م)، وتصاعد النضال وبلوغه الذروة، عاد الإمام الخميني إلى أرض الوطن في 12 بهمن 1356 (1978/02/8م) - بعد غياب دام 14 عاماً - حيث كان في استقباله حشد جماهيري فريد لم يشهد التاريخ له نظير.

وبفضل قيادته وتوجيهاته، حقّقت الثورة الإسلامية الشعبية انتصارها في الثاني والعشرين من بهمن 1357 - 11هـ.ش (11 شباط 1979م) -، وأسّس سماحته الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتحلّ محلّ النظام الشاهنشاهي البغيض، وبذلك اضطلع الإمام الخميني بأعظم دور في تحرير الإنسان وإرساء دعائم واحدة من أكثر الحكومات شعبية، تتخذ من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف نهجاً لها.

ربّما يمكن القول بأنّ أبرز تطلّعات هذا الإنسان الصانع لنفسه، سواء انطلاقاً من موقعه كطالب للعلوم الدينية، أو كأستاذ وعالم بارز ومرموق في الحوزة العلمية بمدينة قم، أو كقائد للثورة والنهضة، أو من موقعه كمرجع ديني كبير وقائد للجمهورية الإسلامية الإيرانية - النظام الإلهي-، تتجلّى في تجسيد عبوديته لله تعالى في كافّة توجّهاته ونشاطاته وفي مختلف المراحل وجميع الأوقات. وبالتّالي أداء التكليف في ضوء هذه العبودية، ساعياً إلى إنقاذ الإنسان والسمو به في مدارج الكرامة والكمال. وفي هذا السياق يمكن النظر إلى تحرّكات سماحته في مقارعة الظلم، والتصدّي لهيمنة الأجانب سواء على المستوى الوطني وعلى صعيد العالم الإسلامي، والمستضعفين في العالم، والنضال ضدّ الشاه وأميركا وإسرائيل، ومناصرة الشعب الفلسطيني المظلوم، وقضايا عديدة من هذا القبيل، كلها تصبّ في هذا السياق وتأتي من هذا المنطلق.

ومن الواضح تماماً أنّ هذا الإنسان الباني لنفسه، وبوحي من أتباعه تعاليم الإسلام السامية في مختلف أبعاد وجوده، استطاع أن يسمو بنفسه في مدارج الكمال، وقد بلغ في تعلّقه بجمال الحقّ منزلة رفيعة أهّلته لأن يكون مظهراً لجمال المحبوب في مختلف الأبعاد الفردية والاجتماعية.

* سراج القلوب - بتصرّف

قراءة 1248 مرة