تحوّلت القاهرة ومصر كلها إلى دولة مركزية تحرس الفضاء الإسلامي بأسره عسكرياً ودينياً، هذا وقد مرّ الأزهر بعصرِ ازدهارٍ فاطمي، ولكنه تم إغلاقه في العصر الأيوبي لمدّة تُقارِب القرن من الزمان، ثم أعيد افتتاحه في العصر المملوكي، وكان يوجد منصب شيخ الإسلام وهو من عُلماء الأزهر، هذا وقد تم منع تدريس المذهب الإسماعيلي، ولكن ظلّ المصريون على ولائهم التاريخي في حب أهل بيت النبيّ الكريم.
احتفل الأزهر الشريف احتفالاً حاشداً يوم الأربعاء 23 أيار|مايو 2018، وذلك بمناسبة مرور 1078 عاماً هجرياً على تأسيس الجامع الأزهر الشريف بالتاريخ الهجري، تحت عنوان "ألف عام من العطاء" والذي يوافق السابع من شهر رمضان المبارك من كل عام، حضر الاحتفال القيادات السياسية والدينية وسفراء الدول الإسلامية في القاهرة، تحت رئاسة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب.
وفي هذه المناسبة، نكتب عن الأزهر الشريف، ودوره الرائِد، ليس في الحفاظ على العلوم الإسلامية، ولكن في الحفاظ على اللغة العربية ذاتها، بعد أن تعرّضت المنطقة الإسلامية كلها تحت الاحتلال الأوروبي الغربي، وخلال أكثر من ألف عام، ظلّ للأزهر دوره التنويري الثقافي الدائم، رغم كل المشاكل التي ترتّبت على الاستبداد السياسي.
يُذكر أن الجامع الأزهر يُعدّ من أقدَمِ المساجد التي تمَّ إنشاؤها في القاهرة عام361هـ| 972م، ويرجع الفضل في تأسيس الجامع الأزهر إلى الفاطميين، الذين فتحوا مصر في عهد الخليفة المُعز لدين الله، الذي أرسل قائده جوهر الصقلى لفتح مصر، فسار بحملته حتى دخل الفسطاط في يوم 11 من شعبان سنة 358 هـ /تموز|يوليو 969م، ووضع أساس مدينة القاهرة في يوم 17 من شعبان سنة 358 هـ، كما وضع أساس قصر للخليفة المُعز لدين اللَّه، ثم وضع أساس الجامع الأزهر في يوم 14 من شعبان سنة 359هـ / 970م، واستغرق بناؤه قرابة سنتين، وأقيمت أول صلاة جمعة فيه في السابع من رمضان سنة 361 هـ / 972م، ولم يلبث الأزهر الشريف أن أصبح جامعة علوم، يتلقّى فيه طلاب العِلم مختلف المعارف والفنون، ففي سنة 378هـ / 988م أشار البعض على الخليفة العزيز بالله بتحويل الأزهر إلى جامعة عامة تُدرِّس كل العلوم، ووافق الخليفة، ثم تحوّل الأزهر الشريف إلى جامعة تُدرَّس فيها العلوم الدينية والعقلية حرصاً على جذب طلاب العِلم إليه من كافة الأقطار.
وقد سُمّي بالجامع الأزهر نسبة إلى السيّدة فاطمة الزهراء التي ينتسب إليها الفاطميون، والتسامُح الفاطمي النبوي جعل الفاطميين لا يضطهدون أصحاب المذاهب الأخرى، فهم عندما بنوا الجامع الأزهر للدعوة الإسماعيلية ومعها باقي العلوم العلمية والفقهية، فإنهم تركوا مسجد الفسطاط لأهل مصر من المذاهب السنّية الأخرى، ثم أصبحت القاهرة ملجأ للعلماء والمفكّرين يفرّون إليها من الاضطهاد والفقر.
تحوّلت القاهرة ومصر كلها إلى دولة مركزية تحرس الفضاء الإسلامي بأسره عسكرياً ودينياً، هذا وقد مرّ الأزهر بعصرِ ازدهارٍ فاطمي، ولكنه تم إغلاقه في العصر الأيوبي لمدّة تُقارِب القرن من الزمان، ثم أعيد افتتاحه في العصر المملوكي، وكان يوجد منصب شيخ الإسلام وهو من عُلماء الأزهر، هذا وقد تم منع تدريس المذهب الإسماعيلي، ولكن ظلّ المصريون على ولائهم التاريخي في حب أهل بيت النبيّ الكريم.
في العصر العثماني تم إنشاء منصب الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وذلك عام 1090|1679، وكان يُنتخب من هيئة كبار العُلماء، وأول مَن تقلّد هذا المنصب هو الشيخ "محمّد بن عبد الله الخراشي" المالكي المتوفى سنة 1101 هـ| 1690م، واشتهر الشيخ الخراشي بوقوفه ضد أيّ حاكم يظلم أياً من الرعية، وتوجد كلمة شعبية مشهورة حتى اليوم "يا خراااااشي"، بمد الألف وهو استنجاد مستمَد من الاستغاثة التي كان يستغيث بها المصريون عندما كان الشيخ الخراشي إماماً أكبر وعلى قيد الحياة، واستمر توارث هذا النداء حتى اليوم، رغم عدم معرفة العوام مصدره، وقد تولّى منصب المشيخة خمسون عالماً من المذاهب الثلاثة التي كان يُعترف بها، من دون المذهب الحنبلي، والإمام الحالي الدكتور أحمد الطيب هو رقم 50، ومُصطلح "الإمام الأكبر"، لأن منصب شيخ الأزهر يكون إماماً لكل الأئمة للجوامع في مصر.
تمحور دور الأزهر التاريخي في مكافحة الاستعمار الأوروبي للمنطقة العربية، وحراسة علوم الدين واللغة العربية، التي كادت تتآكل في العصر العثماني، المهم أن الأزهر خاض وقاد ثورات ضد الاستعمار الفرنسي، عندما جاء نابليون بونابرت لاحتلال مصر عام1798، وتحت الضغط الشعبي انسحب الفرنسيون بعد ثلاث سنوات فقط لا غير، كما قاد الثورة الشعبية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني عام 1919، وصعد الرئيس جمال عبد الناصر على منبره وخطب فألهب الشعوب ضد العدوان الثلاثي عام 1956، كما كان له دور في الثورة الجزائرية، خاصة في تعليم أبناء الشعب الجزائري اللغة العربية والتصدّي للهيمنة الفرنسية، التي جعلت من الجزائر ولاية فرنسية، فكان كبار شيوخ الثورة الجزائرية الممتدة مثل عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي من الذين تخرّجوا من الأزهر الشريف، ودوره في مساعدة القضية الفلسطينية ممتد ومؤثر، رغم الضعف المنتشر في الجسد الإسلامي.
لكن الدور الأهم في مسيرة الأزهر يكمُن في تقريبه بين المذاهب الإسلامية، فأنشأ بعض شيوخه دار التقريب بين المذاهب عام 1946، مثل الشيوخ الكبار محمود شلتوت وعبد العزيز عيسى ومحمّد المدني، ومعهم الشيخ محمّد تقي الدين القمّي، ومازال الأزهر يُدرّس المذاهب الإسلامية المختلفة في الجامعة الأزهرية، ونذكر هنا عام 2013، عندما كان جماعة الإخوان المسلمين في الحُكم ومعهم السلفيون الوهّابيون، جاء بعض شيوخ السعودية خاصة الشيخ الوهّابي محمّد العريفي، وقابلوا الشيخ أحمد الطيب الإمام الأكبر، وطلبوا منه صراحة وقف تدريس المذهب الشيعي في الأزهر، ولكن الدكتور الطيب رفض هذا الطلب بشدّة، وأصدر الأزهر وثيقته التاريخية في تأييد مطالب الثورة المصرية، والالتزام بالمنهج الأزهري الوسَطي بعيداَ عن تزمت الإخوان وصعود التكفيريين.
ويقوم الأزهر الشريف اليوم بدورٍ كبيرٍ جداً في منع التطرّف، حيث تم منع السلفيين من خُطَب الجمع ومن صعود المنابر، ومنعهم من الفضائيات المصرية، كما تم غلق الزوايا التي كان يستخدمها السلفيون في نشر التطرّف والتكفير، وهو الأمر الذي جعل الفكر السلفي يتواري قليلاً، وتزامن ذلك مع قيام وليّ العهد السعودي محمّد بن سلمان بحصار الوهّابية داخل ديارها.
يبقى أن نقول إن الأزهر الشريف وسطيّ المنهج، هو أشعريّ المذهب في العقيدة، ورغم أخطاء أبي الحسن الأشعري والمنهج الأشعري كله، ولكنه يقوم على التأويل، وهو التأويل الذي يرفضه التكفيريون، وقد قال الإمام علي بن أبي طالب عن معاوية وأصحابه "اليوم أقاتلهم على تأويله كما قاتلتهم على تنزيله"، فأثر فكر الإمام علي عند المعتزلة معروف، وقد تأثّر الأشعري بالمُعتزلة حتى أنشأ مذهبه المنتسب إليه، فيه أثر من الشيعة، وأحلى ما في التسنّن بما فيه من تصوّف أيضاً.
إن نجاح الأزهر في التصدّي للإرهاب وفكر التكفير مُقدمة ضرورية مهمة للتقريب بين المسلمين، والتصدّي للهجمة الأوروبية الاستعمارية الصهيونية الحديثة، ومعهم تحالف الخليج القديم الممتد منذ زمن الأحزاب في عصر النبيّ وحتى اليوم.
علي أبو الخير كاتب مصري.