﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾1.
الأولويّة للوسائل السلميّة:
روي عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فيما عهد إليه: "وإيّاك والتسرّع إلى سفك الدماء لغير حلّها، فإنّه ليس شيء أعظم من ذلك تبعة"2 في هذه التوصية والعهد النبويّ لعليّ عليه السلام ما يفيد عظمة سفك الدماء بل فيها أمر بالتروِّي من خلال النهي عن الإسراع في ولوج الحرب، ولعلّ ذلك لإعطاء فسحة من الوقت لعلّ وسائل السلم تجد لها طريقاً، فإن كان من الثابت أنّ القتال ليس هدفاً بحدّ ذاته، وإنّما الهدف هو رفع الظلم وردّ البغي وإقامة العدل وإحقاق الحقّ، إلّا أنّ ما جرت عليه السيرة البشريّة أنّهم يلجأون غالباً، في مواجهة الحقّ وأهله، إلى أساليب القمع والضغط والسجن والتعذيب والطرد والنفي والقتل، فعندما لا يملكون الحجّة في مواجهة منطق الأنبياء والأولياء والمؤمنين يلجأون إلى ما يحترفونه من أدوات العنف.
ولذا كان لسان تشريع الجهاد والقتال في الإسلام مقروناً بالإذن الذي يفيد رفع المانع أو إزالة الحظر كما في قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾3 إضافة إلى تضليل الإذن الإلهيّ بما ذكر من الإخراج من الديار والمظلوميّة لإيمانهم فهذا التضليل كافٍ في إثبات أنّ الأصل في نشر الدّين وإقامة العدل والأولويّة هو للوسائل السلميّة ما أتيحت.
أخلاقيّات الحرب في الإسلام:
للحرب في الإسلام ضوابط وآداب وأخلاقيّات ومبادئ، نورد منها ما يلي:
1- مراعاة الحدود الشرعيّة:
قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾4.
لقد استفاد بعض المفسّرين من هذه الآية وجوب الامتناع عن قتل غير الجنود، وغير المقاتلين بحسب تعبير الآية، وهذا سابق على ما جاء في النصوص الدوليّة الراعية لأحكام الحرب، وأشار تعالى في آخر الآية إلى الامتناع عن الاعتداء على المدنيّين الأطفال والنساء والشيوخ، فقد أكّد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام على حرمة التعرّض للنساء والأطفال، فعن جعفر بن غياث أنّه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن النّساء كيف سقطت الجزية عنهنّ ورفعت عنهنّ؟ قال: فقال عليه السلام: "لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب إلّا أن يقاتلن"5.
2- محاولة استنقاذ من يمكن استنقاذه:
ومعنى ذلك بذل كلّ ما يلزم من الجهد لأجل استقطاب من يمكن استقطابه من الجبهة المعادية الضالّة إلى جانب الحقّ وجبهة الحقّ، ويأتي في إطار ذلك أنّه جرت سيرة أمير المؤمنين بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قبل القتال أن يدعو عدوّه إلى الإسلام، فعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فقال: "يا عليّ لا تقاتلنّ أحداً حتّى تدعوه إلى الإسلام وأيم الله لئن يهدي الله عزَّ وجلَّ على يديك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا عليّ"6.
وقد حاول الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه استنقاذ من يمكن من معسكر ابن سعد إلى جانبه بل إنّ الإمام الحسين عليه السلام حاول حتّى مع ابن سعد ليلة العاشر من المحرّم.
3- عدم منع الماء عن العدوّ:
فلقد كان من أخلاق الحرب التي مارسها أمير المؤمنين عليه السلام مع معاوية وجيشه الذين عندما غلبوا على ماء الفرات منعوا جيش أمير المؤمنين عليه السلام عن الماء، فلمّا سمع عليّ عليه السلام ذلك قال: "قاتلوهم على الماء" فقاتلوهم حتّى خلّوا بينهم وبين الماء وصار في أيدي أصحاب عليّ، فلم يمنعه عليه السلام عن أعدائه قائلاً لجيشه: "خذوا من الماء حاجتكم وخلّوا عنهم فإنّ الله نصركم ببغيهم وظلمهم"7.
وأمّا في كربلاء فقد قدم الإمام الحسين عليه السلام نموذج أبيه عليه السلام فعندما احتاج جيش الحرّ الرياحيّ للماء سقوهم وخيلهم من الماء الذي معهم، ولمّا سيطر جيش ابن سعد على الفرات منعوا الماء عن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن أصحابه وأهل بيته.
4- عدم إلقاء السمّ في الماء والغذاء:
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يلقى السمّ في بلاد المشركين".
5- عدم الغدر والخيانة:
وقد مرّ معنا أنّه من أخلاقيّات القتال دعوة العدوّ إلى الإسلام قبل القتال، وهذا يعني أن لا يقوم المسلمون بأخذ المحاربين بغتة، بل ينذرهم قبل مباشرة القتال، إلّا في حقّ من سبقت دعوته في قتال قبله فلم يستجبْ، ولئن كانت الحرب خدعة فهذا لا يعني الغدر، فإنّ الغدر يكون حينما يعطى العدوّ أماناً من خلال معاهدات واتفاقيّات ثمّ نعمد إلى مخالفة تلك العهود والمواثيق ونغدر به وعن ذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عهداً، ولا يشدّنهم حتّى يمضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء"8.
ومن الشواهد على ذلك أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم ينهض بعد استنصار النّاس له على ظلم بني أميّة خلال فترة حكم معاوية، حيث لم ينهض إلا بعد هلاكه وانتهاء أَمَد العهد الذي كان بين الإمام الحسن عليه السلام وبين معاوية.
6- عدم التمثيل بالقتلى:
ولقد كان ذلك من أهمّ وصايا الإمام عليّ عليه السلام لولديه الحسن والحسين عليه السلام حيث قال لهما: "إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور"9.
وبالمقابل انظر ماذا فعل أصحاب ابن سعد وابن زياد بشهداء الطفّ لا سيّما جسد الإمام الحسين عليه السلام إذ جعلوه ميداناً لحوافر خيلهم.
خاتمة: من أخلاقيّات الحسين عليه السلام في كربلاء:
لقد قدّم الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء نموذجاً من أخلاقيّات الجهاد والقتال فهو قبل الطفّ وفي الطريق بل في بدايات خروجه من مكّة إلى العراق وعندما كان يحتاج إلى استقطاب الأنصار لبناء الجيش الذي يمكن أن يواجه جيش الظالمين، لم يستخدم كما يفعل الكثيرون أسلوب التعمية على النّاس، فلم يُمنِّهم بالنّصر، بل كانت كلمته واضحة: "من لحق بنا استشهد..."10.
أو قوله: "من كان باذلاً فينا مهجته موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً..."11.
وفي ليلة العاشر وعندما خذلت الأمّة إمامها، وجبن مرسلو كتب الاستنصار من أهل الكوفة عن الوفاء بما عاهدوه عليه، صرّح لمن بقي معه بذلك، وأباح لهم ترك معسكره، وقال لهم "إنّ هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً..."12.
وحطّ عنهم إلزاميّة التكليف بنصرته مقدّراً لهم ما أدّوه حتّى تلك اللحظات، إلّا أنّهم أبوا إلّا أن يكونوا أمثولة في الصدق والوفاء بما عاهدوا الله عليه، ولذا كان وداعه لأغلبهم عندما كان يقف على أجسادهم لحظة الاستشهاد: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾13.
* كتاب زاد عاشوراء، إعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة البقرة، الآية 190.
2- مستدرك النوري، الطبرسي، ج11، ص120.
3- سورة الحجّ، الآيتان 39 - 40.
4- سورة البقرة، الآية 190.
5- وسائل الشيعة، ج15، ص64.
6- وسائل الشيعة، ج15، ص 43.
7- الكامل في التاريخ، ج3، ص285.
8- صحيح سنن الترمذي باختصار السند للألباني، ج2، ص114.
9- شرح نهج البلاغة، البحراني، ج5، ص120.
10- كامل الزيارات، باب:23، ح15.
11- كامل الزيارات، باب:23، ح15.
12- أمالي الصدوق، ص220.
13- سورة الأحزاب، الآية 23.