وهـذا الـعـلاج يتمثل فيما قدمته شريعة السماء الى الانسان على الارض من عقيدة (الايمان باللّه) بـوصفه المطلق الذي يمكن ان يربط الانسان المحدود مسيرته به، دون ان يسبب له اي تناقض على الطريق الطويل .
فـالايـمان باللّه، يعالج الجانب السلبي من المشكلة، ويرفض الضياع، والالحاد، واللاانتماء، اذ يضع الانـسـان فـي مـوضع المسؤولية وينيط بحركته وتدبيره الكون، ويجعله خليفة اللّه في الارض .
والـخـلافة تستبطن المسؤولية والمسؤولية تضع الانسان بين قطبين: بين مستخلف يكون الانسان مسؤولاً امامه، وجزاء يتلقاه تبعا لتصرفه، بين اللّه والمعاد، بين الازل والابد، وهو يتحرك في هذا المسار تحركا مسؤولاً هادفاً.
والايمان باللّه يعالج الجانب الايجابي من المشكلة: مشكلة الغلو في الانتماء التي تفرض التحدد على الانسان، وتشكل عائقا عن اطراد مسيرته ـ وذلك على الوجه التالي:
أولاً: ان هـذا الـجـانـب من المشكلة كان ينشأ من تحويل المحدود والنسبي الى مطلق خلال عملية تصعيد ذهني، وتجريد للنسبي من ظروفه وحدوده . واما المطلق الذي يقدمه الايمان باللّه للانسان فـهـو لم يكن من نسيج مرحلة من مراحل الذهن الانساني، ليصبح في مرحلة رشد ذهني جديد قيدا على الذهن الذي صنعه . ولم يكن وليد حاجة محدودة لفرد او لفئة، ليتحول بانتصابه مطلقا الى سلاح بيد الفرد او الفئة، لضمان استمرار مصالحها غير المشروعة . فاللّه سبحانه وتعالى مطلق لا حدود لـه، ويـسـتـوعب بصفاته الثبوتية كل المثل العليا للانسان الخليفة على الارض، من ادراك، وعلم، وقـدرة وقـوة، وعـدل، وغـنـى . وهـذا يـعـنـي ان الـطريق اليه لا حد له . فالسير نحوه يفرض التحرك باستمرار وتدرج النسبي نحو المطلق بدون توقف: ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ). الانشقاق: 6.
ويعطي لهذا التحرك مثله العليا المنتزعة من الادراك والعلم والقدرة والعدل، وغيرها من صفات ذلك الـمـطـلق، الذي تكدح المسيرة نحوه . فالسير نحو مطلق، كله علم، وكله قدرة، وكله عدل، وكله غـنـى، يعني ان تكون المسيرة الانسانية كفاحا متواصلا باستمرار، ضد كل جهل، وعجز، وظلم، وفقر.
ومـا دامـت هذه هي اهداف المسيرة المرتبطة بهذا المطلق، فهي اذن ليست تكريساً للإله، وانما هي جهاد مستمر من اجل الانسان وكرامة الانسان وتحقيق تلك المثل العليا له .
( وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ). العنكبوت: 6.
(فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا). الزمر: 41.
وعـلـى العكس من ذلك، المطلقات الوهمية والآلهة المزيفة فانها لا يمكن ان تستوعب المسيرة بكل تطلعاتها، لان هذه المطلقات المصطنعة وليدة ذهن الانسان العاجز، او حاجة الانسان الفقير، او ظلم الانـسـان الـظـالم، فهي مرتبطة عضويا بالجهل والعجز والظلم، ولا يمكن ان تبارك كفاح الانسان المستمر ضدها.
ثانيا: إن الارتباط باللّه تعالى بوصفه المطلق الذي يستوعب تطلعات المسيرة الانسانية كلها يعني في الـوقـت نفسه رفض كل تلك المطلقات الوهمية التي كانت تشكل ظاهرة الغلو في الانتماء، وخوض حـرب مـسـتـمـرة ونضال دائم ضد كل ألوان الوثنية والتأليه المصطنع . وبهذا يتحرر الانسان من سراب تلك المطلقات الكاذبة، التي تقف حاجزا دون سيره نحو اللّه وتزور هدفه وتطوق مسيرته .
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ). النور: 39.
( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ).يوسف: 40.
(أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ). يوسف: 39.
(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ). فاطر:13.
ونـحـن إذا لا حـظنا الشعار الرئيسي الذي طرحته السماء بهذا الصدد: (لا اله إلا اللّه)، نجد أنها قـرنـت فـيـه بين شد المسيرة الانسانية الى المطلق الحق، ورفض كل مطلق مصطنع، وجاء تاريخ المسيرة في واقع الحياة على مر الزمن ليؤكد الارتباط العضوي بين هذا الرفض وذلك الشد الوثيق الـواعـي الـى اللّه تعالى، فبقدر ما يبتعد الانسان عن الاله الحق ينغمس في متاهات الالهة والارباب الـمـتـفـرقين . فالرفض والاثبات المندمجان في (لا اله الا اللّه) هما وجهان لحقيقة واحدة، وهي حـقـيقة لا تستغني عنها المسيرة الانسانية على مدى خطها الطويل، لانها الحقيقة الجديرة بأن تنقذ المسيرة من الضياع، وتساعد على تفجير كل طاقاتها المبدعة، وتحررها من كل مطلق كاذب معيق .
آية اللّه الشهيد السيد محمد باقر الصدر – بتصرّف يسير