قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[1].
إنّ العمل الأحسن الذي يبحث عنه المؤمن الواعي دومًا في حياته، وفي ضوئه يرتّب أولويّاته، هو ما كان يتّصف بمواصفات ثلاث:
1- أن يرتكز على العقيدة السليمة.
قال الله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[2].
فالكَلِمُ الطيّب هو العقيدة التي يرفعها العمل الصالح[3].
2- أن ينطلق من نيّة خالصة لله تعالى.
عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): إنّما الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه[4].
3- أن يصبّ في الموقع الأفضل
وهو الذي اختصره الفقيه الكبير الإمام الخمينيّ (قدسره) بقوله: «لا أعلم عملاً عند الله هو أفضل من خدمة الناس».
وقوله مستمدّ ممّا ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم لعياله[5]، وفي حديث آخر سُئل فيه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): أيّ الناس أحبّ إلى الله؟ فقال: أنفع الناس للناس [6].
بين خدمة الله وخدمة الناس
قال الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)[7]، من المعلوم أنّ الكعبة هي أقدم معبد بُني على الأرض؛ ليُعبَد الله فيه ويوحَّد، فلم يسبقه أيّ معبد قبله، وقد أُسّس، أوّل ما أُسّس، لذلك، فلم يكن يومًا بيتًا للناس، بل وُضع ليكون فقط لله عزّ وجلّ، ومع ذلك عبّر الله تعالى عنه: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ). وفي هذا إشارة إلى حقيقة هي أنّ كلّ ما يكون باسم الله ولله يجب أن يكون في خدمة الناس من عباده[8].
من هنا نُقل عن الشهيد السعيد السيّد محمّد باقر الصدر أنّه قال: لو فُرض أن بدّلنا كلمة «الله» بكلمة الناس[9] في قوله تعالى «في سبيل الله» لما اختلف المعنى؛ لأنّ سبيل الله هو سبيل الناس.
خدمة الناس رحمة
أكّد الإمام الصادق (عليه السلام) على كون خدمة الناس رحمة من الله تعالى، فمن خدم قَبِلَها، ومن ردّها يكون قد رَدَّ رحمة الله تعالى، فعنه (عليه السلام): أيّما مؤمنٍ أتاه أخوه في حاجة، فإنّما ذلك رحمة ساقها الله إليه، وسبّبها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة لقبولها، وإن ردّه عن حاجته، وهو يقدر على قضائها، فإنّما ردّ عن نفسه الرحمة التي ساقها الله إليه، وسبّبها له، وذخرت الرحمة إلى يوم القيامة [10].
خدمة الناس سرُّ التوفيق
كانت خدمة الناس هي العمل الأوّل الذي شكّل مدخليّة لتوفيق الله تعالى لنبيّه موسى (عليه السلام)، فحينما توجّه (عليه السلام) إلى مدين فارًّا من فرعون وجد أمَّةً من الناس قد اجتمعوا على بئر من أجل سقي قطعانهم، ووجد من دونهم امرأتين تذودان، وهما بحاجة إلى من يسقي لهما أغنامهما، ولم يكن موسى (عليه السلام) يعرف أنّهما ابنتا نبيّ الله شعيب (عليه السلام)، لكنّه من مبدأ حسن خدمة الناس سقى لهما، وارتوت أغنامهما، وكان هذا الأمر هو سبب دعوة إحدى الإبنتين، ليكون في ضيافة النبيّ شعيب (عليه السلام)، وبالتالي ليتزوّج إحداهما، وليرعى غنمه بتلك العصا التي صنعت المعجزات.
خادم الناس خادم الله
من أروع ما ورد في منزلة خادم أخوة الإيمان هو ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قضى حاجة لأخيه فكأنّما خدم الله عمره[11]..
ثواب خدمة الناس في الآخرة
أكّدت الأحاديث الشريفة على الثواب الجزيل الذي يقابل به الله تعالى في الآخرة من خدم الناس، وقضى حوائجهم، ومن عناوين ذلك الثواب:
1- شفاعة النبيّ (صلى الله عليه وآله)
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله) من قضى حاجة لأخيه، كنتُ واقفًا عند ميزانه، فإنْ رجح، وإلاّ شفعت له[12]
2- الأمن
عن الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ لله عبادًا من خلقه، يفزع العباد إليهم في حوائجهم، أولئك هم الآمنون يوم القيامة[13].
3- الثبات
عن الإمام الباقر (عليه السلام): من مشى في حاجة لأخيه المسلم حتّى يتمّها، أثبت الله قدميه يوم تزلّ الأقدام[14].
4- في ظلّ الله
عن الإمام الصادق (عليه السلام): ... من عمل في حاجة أخيه المسلم...أظلّه الله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه[15].
5- الزحزحة عن النار
عن الإمام الصادق (عليه السلام): من سعى لأخيه المؤمن في حاجة من حوائج الدنيا قضى الله عزّ وجلّ له بها سبعين حاجة من حوائج الآخرة أيسرها أن يزحزحه عن النار[16].
منزلة خدمة الناس من سائر الأعمال
أكّدت الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ خدمة الناس هي أعظم من كثير من العبادات التي يقوم بها الإنسان، وهذا ما يظهر من الأحاديث الآتية:
1- عن الإمام الصادق (عليه السلام): قضاء حاجة المؤمن خير من عتق ألف رقبة، وخير من حملان ألف فرس في سبيل الله[17].
2- عن الإمام الباقر (عليه السلام): لقضاءُ حاجة رجل مسلم أفضل من عتق عشر نسمات، واعتكاف شهر في المسجد الحرام[18].
3- عن الإمام الصادق (عليه السلام): والذي بعث بالحقّ محمّدًا بشيرًا ونذيرًا، لَقَضاء حاجة امرئٍ مسلم، وتنفيس كربته، أفضل من حجّة وطواف، وحجّة وطواف حتّى عدّ عشرة، ثمّ خلّى يده وقال: اتقوا الله، ولا تملّوا من الخير، ولا تكسلوا[19].
4- عن الإمام الصادق (عليه السلام) مشيُ المسلم في حاجة المسلم خير من سبعين طوافًا بالبيت الحرام[20].
5- عن ميمون بن مهران: كنت جالسًا عند الحسن بن عليّ (عليه السلام) فأتاه رجل، فقال له: يا بن رسول الله، إنّ فلانًا له عليّ مال، ويريد أن يحبسني، فقال (عليه السلام): والله ما عندي مالٌ فأقضي عنك»، قال: فكلّمه، قال: «فلبس (عليه السلام) نعله»، فقلت له: يا بن رسول الله، أنسيتَ اعتكافك؟ فقال له: «لم أنس، ولكنّي سمعت أبي (عليه السلام) يحدّث عن جديّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: من سعى في حاجة أخيه المسلم، فكأنّما عبد الله عزّ وجلّ تسعة آلاف سنة، صائمًا نهاره، قائمًا ليله[21].
توصيات إلى من يقدر على خدمة الناس
وجّه أهل البيت (عليهم السلام) عدّة توصيات إلى من أنعم الله عليه بقدرة قضاء حوائج الناس وخدمتهم، منها:
1- أنتم أمناء أهل البيت (عليهم السلام) على المحاويج
عن الإمام الصادق (عليه السلام) مياسير شيعتنا أمناؤنا على محاويجهم، فاحفظونا فيهم يحفظكم الله[22].
2- إيّاك والمنع، وإلاّ فتحويل النِّعم
عن الإمام الصادق (عليه السلام) إنّ لله تعالى عبادًا خصّهم بالنِّعم لمنافع العباد، ويقرّها فيهم ما بذلوا، فإذا منعوها حوّلها منهم، وجعلها في غيرهم[23].
نصيحة للإمام الخمينيّ (قدسره)
قال الإمام الخمينيّ (قدسره) في رسالة إلى ولده السيّد أحمد: لا ترى لنفسك أبدًا فضلاً على خلق الله حين تخدمهم، فهم الذين يمنّون علينا حقًّا بفضل كونهم وسيلة الله جلّ وعلا. لا تسعَ لكسب الشهرة والمحبوبيّة عن طريق الخدمة، فهذا بحدّ ذاته حيلة من حبائل الشيطان الذي يوقعنا في شباكه. واختر في خدمة عباد الله ما هو أكثر نفعًا لهم، لا لك ولا لأصدقائك، فهذا الاختيار علامة الصدق في الحضرة المقدّسة لله جلّ وعلا.
خدمة الناس في قصص معبِّرة
تطبيقًا لما مرّ ورد في حياة الإمام الخمينيّ (قدسره) أنّه كان في زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) مع مجموعة من المؤمنين، سبقهم الإمام (قدسره) إلى المنزل الذي كانوا يسكنونه في مشهد، وحينما رجع أولئك المؤمنون تفاجأوا أنّ الإمام الخمينيّ (قدسره) قد جهّز لهم الشَّاي، واستقبلهم بتقديمه لهم، فقال له أحدهم، تركت زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) وجئت إلى هنا لتجهّز الشَّاي؟! فإذا بالإمام (قدسره) يجيب: مَنْ يقول: إنّ البقاء في الزيارة أفضل من خدمة المؤمنين؟!.
ومن لطيف ما ورد في منزلة خدمة الناس قصّة حصلت مع المرحوم المقدّس الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين (قدسره) الذي رأى ذات ليلة في منامه رجلاً قيل له إنّه من بلدة «حانين»، وهو قرينك في الجنّة.
استيقظ السيّد (قدسره)، وعزم على الذهاب إلى تلك البلدة والتعرُّف على ذلك الرجل.
وفعلاً تمّ التعرّف عليه، إلاّ أنّ ما فاجأه هو أنّ ذلك الرجل كان إنسانًا عاديًّا مثل أولئك الفلّاحين الفقراء في تلك المنطقة، ولم يبدُ منه آثار العلم، أو علائم التقوى، سأله عما يفعله في حياته، فكانت الأجوبة عاديّة جدًّا، حاله حال سائر أبناء بلدته، وألحّ عليه في الأسئلة التفصيليّة ليعرف سرَّ أنّه قرينه في الجنّة. وأخيرًا روى له ذلك الرجل حادثة علم الإمام شرف الدين (قدسره) أنّه لأجلها سيكون قرينه في جنّة الله، وهي بلسان ذلك القرويّ: في عام 1948 حينما تهجّر الفلسطينيّون من بلادهم إلى جبل عامل، ذهبتُ إلى الحدود بين لبنان وفلسطين، فرأيتُ من بين المهجَّرين عجوزين زوجين قد أرهقهما السير، فحملتُ العجوز وتقدّمتُ به، ثمّ رجعتُ، وحملتُ زوجتَه وتقدّمتُ بها، وهكذا إلى أن أوصلتهما إلى منزلي حيث قمتُ بخدمتهما.
أجل، استحقّ لأجل هذا أن يكون قرين الإمام شرف الدين (قدس سره) في الجنّة.
سماحة الشيخ أكرم بركات.
[1] سورة الملك، الآية2.
[2] سورة فاطر، الآية10.
[3] أنظر: الطباطبائيّ، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن, ط5, بيروت, الأعلمي, 1983م، ج1، ص 37.
[4] البروجرديّ، حسين، جامع أحاديث الشيعة، ج1، ص 359.
[5] الحرّ العامليّ، محمّد حسن، وسائل الشيعة، ج16، ص 345.
[6] الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج2، ص 164.
[7] سورة آل عمران، الآية 96.
[8] أنظر: الشيرازيّ، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير القرآن، ط2، قم، مدرسة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، (لا،ت)، ج3، ص 601.
[9] أي من ناحية المعنى، لا اللفظ، فالكلام بعيد عن التحريف.
[10] الصدوق، محمّد، ثواب الأعمال، تحقيق محمّد مهدي السيد حسن الخرسان، ط2، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1368ش، ص 248.
[11] الفيض الكاشاني، محمّد، المحجة البيضاء، تحقيق علي أكبر الغفاريّ، ط2، قم، مركز النشر الإسلاميّ، (لا،ت)، ج3، ص 404.
[12] الطبرسي، حسين، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل, ط1، بيروت، مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، 1987م، ج12، ص 405.
[13] المصدر السابق نفسه.
[14] المصدر السابق، ص 409.
[15] المصدر السابق، ص 412.
[16] المصدر السابق، ص 409.
[17] الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج2، ص 193.
[18] الطبرسيّ، حسين، مستدرك الوسائل، ج 12، ص 406.
[19] المصدر السابق، ص 411.
[20] المصدر السابق نفسه.
[21] الصدوق، محمّد، من لا يحضره الفقيه، ط2، قم، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، (لا،ت)، ج2، ص 190.
[22] الكليني، محمّد، الكافي، ج2، ص 265.
[23] الحسن، الحلي، الرسالة السعدية، ط1، قم، بهمن، 1410هـ، ص 163.